تقدير موقف

خطوة نحو التهدئة أم انعكاس لعجز النظام الدولي عن إنهاء حرب أوكرانيا؟

مكالمة بوتين وترمب


  • 19 مايو 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: ndtv.com

تجري بعد ساعات من لحظة كتابة هذه السطور، اليوم الاثنين، 19 مايو (أيار) 2025، مكالمة هاتفية بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأمريكي دونالد ترمب، وهي تأتي في لحظة شديدة الحساسية من عمر العملية العسكرية الخاصة الروسية في أوكرانيا، وفقًا للتوصيف القانوني الروسي لها، أو -كما عرفت إعلاميًّا- الحرب الروسية الأوكرانية، التي دخلت عامها الرابع من دون أفق سياسي واضح لنهايتها، وسط تصعيد ميداني لافت، وتراجع نسبي في الحضور الغربي “الفعلي” خلف أوكرانيا.

الاهتمام العالمي والعربي بهذه المكالمة الهاتفية المرتقبة لا ينبع فقط من ثقل الشخصين اللذين سيجريانها؛ بل كذلك من أمل الكثيرين أن تشكل هذه اللحظة بداية انعاطفة -ولو محدودة- في مسار صراع بات اختبارًا حقيقيًّا لمدى قدرة النظام الدولي القائم على احتواء النزاعات الكبرى، أو اتخاذ خطوات حاسمة تحد منها.

وأبدأ بسياق المكالمة وأسبابها:

تأتي هذه المكالمة بعد يوم واحد تقريبًا من واحدة من أعنف موجة هجمات روسية بالمسيرات على أوكرانيا، استهدفت البنية التحتية العسكرية -حسب رواية الجانب الروسي- والمدنية والعسكرية -حسب الرواية الأوكرانية- في كييف العاصمة، ومدن أوكرانية أخرى.

وفي رأيي، فإن هذا الهجوم القوي يمكن اعتباره “ردًا إستراتيجيًّا” روسيًّا على تعثر مباحثات إسطنبول، التي عقدت نهاية الأسبوع الماضي دون حضور بوتين بالطبع، ولا توقيع أي اتفاق جوهري، اللهم إلا إعلان صفقة تبادل الأسرى بعدد ألف مقابل ألف.

ترمب الذي يسعى إلى تقديم نفسه في الداخل الأمريكي بوصفه زعيمًا قادرًا على إنهاء الحروب من دون الحاجة إلى إرسال جندي أمريكي واحد، أعلن -مرارًا- رغبته في التواصل المباشر مع بوتين، تمهيدًا لطرح صيغة جديدة لوقف إطلاق النار، قد تعرض لاحقًا على الرئيس الأوكراني  فولوديمير زيلينسكي.

في المقابل، يظهر بوتين أكثر تماسكًا، سواء من الناحية السياسية أو من الناحية الإعلامية، ويبدو بالطبع مستفيدًا من المكاسب الميدانية التي حققها خلال الأشهر الأخيرة، وأهمها طرد القوات الأوكرانية من كورسك، ومستفيدًا من الإرهاق الذي يعانيه المعسكر الغربي، سواء من ناحية الموارد أو -وهو الأهم من وجهة نظري- من ناحية الرؤية الغربية التي لم تعد موحدة.

وأنتقل إلى تناول المواقف المعلنة والمستترة:

وأبدأ بالكرملين؛ لأسباب موضوعية، وهي أنني أراقب الوضع -من كثب- من قلب الحدث كما يقولون. يتسم موقف الكرملين بالتشدد المحسوب، فتشير تصريحاته المذاعة مؤخرًا -وإن سُجِّلت منذ أكثر من شهر، حسبما أعرف، لكنه قرر الإفراج عنها الآن- تشير إلى أنه لا يزال متمسكًا -بقوة- بأهداف “العملية العسكرية”، وعلى رأسها بالطبع تحييد أوكرانيا، ومنع أي فرص مستقبلية لتوسع الناتو، لكنه -في الوقت نفسه- لم يغلق الباب تمامًا أمام خيار التسوية، وتحدث -بوضوح في هذه النقطة- عن إمكانية الحوار مع زيلينسكي إذا تم التوصل إلى اتفاقات معينة، مع اشتراط أن يشير عليه رجال القانون الروسي مَن مِن الجانب الأوكراني يجب أن يوقع الاتفاقات؛ لأن زيلينسكي وإن قاد الحوار، فإنه فاقد الشرعية للتوقيع.

البيت الأبيض.. أو ترمب: ينتهج سياسة الخط المتعرج

رغم التصعيد الإعلامي الأمريكي ضد موسكو، فإن ترمب لا يخفي رغبته في التوصل إلى تهدئة سريعة، وربما مشروطة، تسمح له بتحقيق مكاسب داخلية في عامه الأول، وتخفيف العبء المالي والعسكري على واشنطن في ظل اشتباكاتها “التجارية” المتصاعدة مع الصين.

أما أوكرانيا فموقفها عالق بين الحذر والشكوك

تبدو كييف في موقف دفاعي، سياسيًّا وعسكريًّا، فهي لا تملك القدرة على الاعتراض المباشر على أي حوار أمريكي روسي، لكنها -وزيلينسكي تحديدًا- في الوقت نفسه تخشى من صفقة فوقية بين ترمب وبوتين تسقط على رأسها، وتستثني مصالحها الجوهرية، خاصة في ظل تأخر المساعدات الغربية الموعودة، على الرغم من إعلان إيطاليا مؤخرًا اتخاذها قرارًا بتزويد أوكرانيا بـ400 ناقلة جند مدرعة من طراز М113 أمريكية الأصل، المصنعة إيطاليًّا برخصة أمريكية.

قراءة الميدان والتحليل الواقعي

إذا انتقلت من هذه النقطة إلى الميدان، فيمكنني القول -اعتمادًا على تقارير عسكرية موضوعية من مختلف الأطراف- إن روسيا مع سعيها إلى إقامة منطقة عازلة في مقاطعة سومي بعد طرد القوات الأوكرانية من كورسك، تستمر في الضغط على جبهتي خاركوف وزابوروجيا خلال الفترة الأخيرة، وذلك باستخدام مزيج من الهجمات الجوية وعمليات التخريب الإلكتروني. أما أوكرانيا فباتت تعتمد -على نحو أساسي- على ما يعرف بالدفاع الثابت، وتفتقر تمامًا خلال أشهر طويلة إلى المبادرة الهجومية.

في العمق الروسي، بدأت مؤشرات تعب تعبوي تظهر، لكن لا يوجد أي انهيار، ولا يزال الخطاب الرسمي الروسي -والإعلامي كذلك- ينجح في الحفاظ على الزخم القومي، وتبرير طول أمد العملية.

أما الغرب، فمن الواضح أن منسوب تفاعله السياسي تراجع، وبدأت أصوات أوروبية -خاصةً في ألمانيا وفرنسا- تطالب بالبحث عن حلول سياسية تحفظ الحد الأدنى من استقرار القارة.

إذن ما السيناريوهات المتوقعة من هذه المكالمة؟

1- السيناريو الأول: حدوث انفراج محدود.. ومشروط

بمعنى أن يوافق بوتين -انطلاقًا من رغبة في ألا يفقد ترمب- على هدنة إنسانية، أو وقف إطلاق نار محدود جغرافيًّا، ربما برعاية تركية- أممية، يسمح بإعادة ترتيب خطوط التماس، ويخفف الضغط الدولي

2- السيناريو الثاني: استمرار الجمود

وهو السيناريو الأرجح في رأيي، بحيث لا تخرج المكالمة بنتائج عملية بسبب تمسك كل طرف بشروطه القصوى؛ فبوتين يرفض الانسحاب أو التراجع، وترمب يريد “نجاحًا سريعًا” من دون تنازلات ملموسة.

3- السيناريو الثالث: تصعيد تكتيكي محسوب

في حالة فشل الحوار تمامًا، قد تلجأ موسكو إلى توسيع ضرباتها البرية والجوية، فيما قد ترد كييف من خلال تنفيذ عمليات عسكرية خلف الخطوط، ونحن كل يوم نتابع في الاعلام الروسي عمليات قبض على خونة ومخربين كانوا يخططون لأعمال إرهابية في الداخل الروسي. وكذلك تصعيد إعلامي متبادل.

ولو طُلب مني تقديم توصيات للفاعلين الإقليميين والدوليين لأوصيت بما يلي: 

1- للدول العربية ذات الحضور الدولي، وفي هذا الملف بالتحديد (مصر، والسعودية، والإمارات، وقطر):

 إعلان دعم مسار تفاوضي دولي جديد لا يتجاهل طرفي الصراع الحقيقيين، أي روسيا وأوكرانيا، كما كان الأوروبيون وإدارة بايدن يفعلون مع روسيا قبل عودة ترمب، وكذلك توسيع دور الوساطة العربية على غرار ما حدث في ملف الأسرى عام 2023، خاصةً ونحن نرتقب قمة عربية روسية في منتصف أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.

2- لروسيا

 التخلي عن شروط “السلام بالإملاء”، وقبول تجميد الوضع الراهن مقابل مكاسب إستراتيجية في ملفات رئيسة، كالاعتراف بالقرم، وملفات أخرى مهمة، مثل الطاقة، والعقوبات، والأمن الأوروبي.

3- لأوكرانيا

 الانخراط الفاعل، دون مزايدات، في كل مسار تفاوضي، دون الرهان على المظلة الأمريكية، وفتح خطوط تواصل مباشرة مع عواصم إقليمية قوية، مثل أنقرة وبكين.

4- للمجتمع الدولي

 ضرورة إنشاء لجنة مراقبة دولية لوقف إطلاق نار حقيقي، مثلما حدث خلال هدنة غزة عربيًّا، على أن تضم هذه اللجنة دولًا غير منحازة، وممثلين عن الأمم المتحدة؛ لمنع استئناف الأعمال القتالية بعد كل محاولة تهدئة.

وفي الختام، أستطيع القول -من موقع المراقب العربي من موسكو- إن مكالمة بوتين وترمب بعد نحو ساعتين من الآن تقريبًا تمثل فرصة هشة لتحريك المياه الراكدة، لكنها لن تتحول إلى تحول إستراتيجي ما لم يُدمَج الطرف الأوكراني في الصيغة التفاوضية، ويُضغَط عليه أمريكيًّا لفهم الأمر الواقع وقبوله، ومراعاة التوازنات الإقليمية والدولية، بعيدًا عن سعي كل طرف من الطرفين إلى فرض منطقه.

وفي رأيي، لا يزال النظام الدولي بشكله الحالي -وسيظل في المدى المنظور على الأقل- عاجزًا عن فرض تسوية كاملة، لكن يمكن تحقيق تهدئة، وأي تهدئة -ولو مؤقتة- ستمنح الوقت الضروري لبناء صيغة أكثر شمولًا، وأعتقد أنها قد تتشكل في النصف الثاني من عام 2025.

وإلى ذلك الحين يظل المشهد معلقًا بين التصعيد المدروس والسلام المؤجل.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع