أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية وثيقة بعنوان “100 يوم من وزارة خارجية تضع أمريكا أولًا”، استعرضت فيها الإنجازات التي حققتها الإدارة الأمريكية في هذا الإطار. وافتتحت الوثيقة بكلمة لوزير الخارجية الأمريكي جاء فيها: “كل دولار ننفقه، وكل برنامج نموّله، وكل سياسة ننتهجها، يجب أن تبرر بواحد من ثلاثة أسئلة: هل يجعل ذلك أمريكا أكثر أمانًا؟ هل يجعلها أقوى؟ أم يجعلها أكثر ازدهارًا؟”.
منذ تولي إدارة ترمب الثانية زمام السلطة، سارعت إلى تجميد معظم المساعدات الخارجية 90 يومًا، واستغنت عن آلاف الموظفين في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، كما خفّضت 83% من برامجها. ومن خلال إعادة توجيه هذه الموارد لخدمة أجندة “أمريكا أولًا”، أقدمت الإدارة الأمريكية على إضعاف الجهود العالمية لمكافحة الأوبئة، ومواجهة الإرهاب، وتعزيز أنظمة الصحة العامة. ولم تكتفِ بذلك؛ بل انسحبت مجددًا من اتفاقية باريس للمناخ، متجاهلة أزمة الاحتباس الحراري، ومتنصلة من مسؤولياتها في التعاون المناخي العالمي؛ بهدف إطلاق العنان لقطاع الطاقة الأمريكي، وتعزيز صادراته.
وفي خطوة أحادية أخرى، تجاوزت الولايات المتحدة سلطة الهيئة الدولية لقاع البحار والقوانين الدولية، وأصدرت أمرًا تنفيذيًّا يهدف إلى استغلال الموارد والمعادن الإستراتيجية في أعماق البحار، على حساب المصالح الجماعية للمجتمع الدولي.
فرضت الولايات المتحدة رسومًا جمركية على كندا والمكسيك والصين بذريعة مكافحة الهجرة غير الشرعية والاتجار بالفنتانيل، وشملت الرسوم الفولاذ، والألومنيوم، وقطع غيار السيارات الأجنبية، إلى جانب فرض “رسم جمركي متبادل” واسع النطاق في 2 أبريل (نيسان). غير أن هذه السياسات ارتدت سلبًا على واشنطن، إذ شهدت أسواق الأسهم وسندات الخزانة الأمريكية هبوطًا حادًّا بعد أسبوع فقط؛ ما دفع الإدارة إلى تعليق العمل بالرسوم 90 يومًا، وخفض معدلاتها إلى 10% لمعظم الدول.
مع ذلك، ظل ترمب يكرر مقولته الشهيرة بأن “التعرفة الجمركية هي أجمل كلمة في القاموس”. وفي منظور الإدارة الأمريكية، تخدم الرسوم الجمركية ثلاثة أهداف رئيسة:
تُظهر سلسلة من التصريحات والإجراءات أن الولايات المتحدة تسعى إلى إحياء الرؤية الكلاسيكية لعالم قائم على مناطق النفوذ، وفرض الهيمنة الأمريكية، ومن ذلك تهديدها باستخدام القوة أو الضغط الاقتصادي لضمّ جزيرة غرينلاند، التابعة لمملكة الدنمارك؛ بهدف توسيع نفوذها في القطب الشمالي، والوصول إلى موارد طبيعية، مثل النفط والغاز، والمعادن النادرة. كما هددت واشنطن -مرارًا- بضمّ كندا؛ لتحويلها إلى الولاية الحادية والخمسين للولايات المتحدة.
في خطوة رمزية أخرى، وقّعت الإدارة الأمريكية أمرًا تنفيذيًّا لإعادة تسمية “خليج المكسيك” بـ”خليج أمريكا”، وسعت إلى إعادة فرض سيطرتها على قناة بنما. ومن الواضح أن سياسة مناطق النفوذ وعقيدة مونرو تعودان بقوة في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة.
يُعدّ ملف أمن الحدود من أبرز الإنجازات خلال المئة يوم الأولى لإدارة ترمب الثانية، حيث يمثل كبح الهجرة غير الشرعية محورًا أساسيًّا في أجندة “أمريكا أولًا”. ووفقًا لبيانات وزارة الأمن الداخلي، تجاوز عدد المرحّلين منذ 20 يناير 152 ألف شخص.
وقد استعادت الإدارة الأمريكية العمل بقانون “الأعداء الأجانب” الصادر عام 1798، لترحيل عشرات الآلاف من المهاجرين إلى دول أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي، مثل السلفادور، وغواتيمالا، وهندوراس، وكولومبيا، والمكسيك. وكشف مقال صادر عن مجلس العلاقات الخارجية أن بعض الدول المستقبِلة وافقت على استقبال المرحّلين تحت وطأة ضغوط اقتصادية وسياسية مارستها الإدارة الأمريكية. وبهذه الممارسات، تواصل الولايات المتحدة فرض نسخة جديدة من عقيدة مونرو في نصف الكرة الغربي.
لم تقتصر سياسة “أمريكا أولًا” على خصوم الولايات المتحدة، بل امتدت إلى حلفائها وشركائها. ولا تزال مقولة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر “أن تكون عدوًّا لأمريكا أمر خطير، لكن أن تكون صديقًا لها أمر قاتل” تنطبق على واقع الحال في حقبة ترمب الثانية؛ فقد طالبت واشنطن أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) برفع إنفاقهم الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، ملوّحة بعدم تقديم الدعم الأمريكي في حال عدم الامتثال. وعلى الرغم من المعارضة القوية من جانب اليابان، أصرت الولايات المتحدة على فرض رسوم جمركية على صناعة السيارات اليابانية، موجهة بذلك ضربة قاسية إلى قطاع حيوي في الاقتصاد الياباني. وفي المقابل، اضطرت المملكة المتحدة إلى تقديم تنازلات في ملف المنتجات الزراعية مقابل خفض الرسوم الجمركية على السيارات والفولاذ والألومنيوم؛ من أجل التوصل إلى اتفاق تجاري مع واشنطن.
بالإضافة إلى ذلك، أبرمت الولايات المتحدة وأوكرانيا اتفاقية بشأن استغلال المعادن الإستراتيجية، تمهيدًا لإطلاق “صندوق الاستثمار لإعمار أوكرانيا- الولايات المتحدة”، وهي خطوة تعكس استغلال الولايات المتحدة للأزمات لتعزيز مصالحها الاقتصادية.
وقد أثارت هذه التحركات المفاجئة في السياسة الأمريكية تجاه الصراع الروسي- الأوكراني، واعتمادها دبلوماسية التفافية تتجاهل الأطر الدولية، دهشة كثير من المراقبين. غير أن هذه الدهشة قد تتلاشى إذا ما تمعّنا في الطبيعة النفعية والسياسات القائمة على تحقيق المصالح الذاتية لأجندة “أمريكا أولًا”؛ فعند إدراك الجوهر الحقيقي لهذه السياسة، يصبح من الواضح أن واشنطن لم تبتعد قط عن منطقها التقليدي: تحقيق المكاسب الأمريكية ولو على حساب الآخرين.
المصدر: صحيفة الصين اليومية (China Daily) الصينية