لا يتوقف التصعيد المستمر في الأزمة الأوكرانية، وعادت العاصمة كييف إلى واجهة المشهد الدبلوماسي الأوروبي مع توالي زيارات القادة الأوروبيين، في خطوة تفسرها موسكو بأنها تأكيد جديد لانخراط أوروبا الكامل في المعسكر المعادي لروسيا. وبينما تصف العواصم الغربية هذه الزيارات بأنها دعم سياسي وإنساني لكييف، تراها موسكو تأتي في سياق ما تسميه حرب بالوكالة تدار من خلف الستار، وتُستخدم فيها أوكرانيا ساحة صراع مع الغرب.
ترى موسكو أن هذه الزيارات لا تحمل أي مضمون حقيقي نحو التسوية السياسية؛ بل تُوظَّف لرفع المعنويات الأوكرانية، وإيصال رسائل إلى الداخل الأوروبي بأن هناك تضامنًا متماسكًا، في حين تعكس في حقيقتها حالة من الانقسام والتباين داخل الاتحاد الأوروبي.
أما الحديث عن وقف إطلاق نار 30 يومًا دون شروط، فتراه القيادة الروسية محاولة لمنح الجيش الأوكراني الفرصة لالتقاط الأنفاس، وإعادة التموضع، وتزويد الجبهات بالسلاح والجنود الجدد، وكذلك ترى أن الحديث عن وقف إطلاق نار دائم دون شروط، محاولة لتجميد الصراع عند خطوط تماس لا ترضيها إستراتيجيًّا؛ وهي لذلك ترفض أي مبادرة لا تراعي واقع سيطرتها الميدانية، أو لا تقدم ضمانات بانسحاب الناتو من المجال الحيوي الروسي.
وفي المقابل، تبعث موسكو برسائل متعددة -سياسية وعسكرية- مفادها أنها ماضية في عمليتها العسكرية، وأنها تحتفظ بكامل حقها في الدفاع عن مصالحها السيادية، ويأتي ذلك متوازيًا مع خطاب إعلامي روسي يركز على هشاشة الموقف الأوروبي، وتآكل قدرته على التحمل الاقتصادي والسياسي.
ترى كييف أن هذه الزيارات تأتي في وقت حساس، حيث يسود شعور عام بأن وتيرة الدعم الغربي بدأت تتراجع؛ لذلك فهي تعول على الزيارات لإعادة تحفيز الرأي العام الأوروبي، وتذكير الحلفاء بضرورة الاستمرار في تقديم الدعم المالي والعسكري.
سياسيًّا، ترى الحكومة الأوكرانية أن أي حديث عن وقف إطلاق النار يجب أن يكون مشروطًا بانسحاب روسي وضمانات أمنية، لا بمجرد تجميد الوضع الراهن. فبالنسبة لأوكرانيا، القبول بحل وسط الآن هو بمنزلة اعتراف عملي بخسارة الحرب.
يشير الواقع الموضوعي إلى أن الموقف الأوروبي يتباين بين جناحين: أحدهما شرقي أوروبي متشدد يُصر على دعم أوكرانيا حتى النصر، وتتزعمه بولندا ودول البلطيق الصغيرة، والآخر غربي، تمثله باريس وبرلين وبودابست. وعلى الرغم من التصريحات الإعلامية لباريس وبرلين، فإن هذا الجناح بات يعبر عن إرهاق واضح من طول أمد الحرب. وهذا الانقسام ينعكس في طبيعة الزيارات إلى كييف، فمنها ما يُراد به تأكيد الالتزام، ومنها ما يحاول تحفيز كييف على التفكير في تسوية واقعية.
وفي هذا السياق يأتي إعلان الحكومة البريطانية مؤخرًا وجود خطة طوارئ سرية تحسُبًا لمواجهة هجوم روسي محتمل على أراضيها، وهو ما أثار جدلًا كبيرًا في العواصم الغربية عما إذا كانت روسيا تفكر فعلًا في التوسع العسكري باتجاه دول مثل ألمانيا أو المملكة المتحدة، وهنا بالطبع تبرز لدى أي مراقب ومتابع تساؤلات مشروعة: هل هذا السيناريو واقعي فعلًا؟ وهل تمتلك روسيا القدرة، وأهم من ذلك الرغبة في فتح جبهة مباشرة ضد دول نووية، كبريطانيا، فضلًا عن كونها تنتمي إلى حلف الناتو؟ أم أن الحديث الدائر عن هجوم روسي وشيك يدخل في إطار المبالغات والمزايدات السياسية والدعائية؟
وبوصفي باحثًا متخصصًا في العلاقات الدولية، ومقيمًا في موسكو، أتابع -من قرب- الخطاب الروسي الرسمي، وكذلك النقاشات الفكرية والإعلامية الجارية هنا يوميًّا، ومن كثب، وباهتمام شديد، ويمكنني القول بثقة إن سيناريو هجوم روسي مباشر على أراضي بريطانيا أو ألمانيا ليس فقط بعيدًا عن الواقع؛ بل إنه مستبعد إستراتيجيًّا أيضًا، وهو غير مدرج -حسب فهمي- ضمن أولويات القيادة الروسية، على الأقل في المرحلة الحالية.
من الناحية العسكرية، نعم صحيح أن روسيا دولة كبرى، وتمتلك قدرات تسليحية ضخمة، وأثبتت معارك أوكرانيا الممتدة لأكثر من ثلاث سنوات ذلك، كما أثبتت قدرة السلاح الروسي التقليدي على التصدي الفعال لكل أسلحة دول الناتو على اختلافها وتنوعها داخل ساحات المعارك في أوكرانيا، ومؤخرًا في كورسك الروسية.
لكن تحول الصراع في أوكرانيا في الوقت الراهن إلى صراع معقد وممتد، يجعلنا نقر أنه يستنزف قدرًا كبيرًا من الموارد البشرية والاقتصادية واللوجستية، حتى مع التكيف الذي أظهرته موسكو مع هذا الصراع؛ لذلك أعتقد أن الدخول في مواجهة مباشرة مع دول كبرى في الناتو، مثل بريطانيا أو ألمانيا، سيكون أقرب إلى المغامرة غير المحسوبة، بل سيُعد تحديًا مفتوحًا لمنظومة الأمن الجماعي الغربية، وقد يؤدي إلى صدام نووي، وهو ما تدركه موسكو جيدًا، ويحاول بوتين -حسب فهمي لعقليته- تجنبه على مدى السنوات الثلاث الماضية، بالرغم من الاستفزازات الغربية المتكررة في أوكرانيا.
أما من حيث العقيدة العسكرية الروسية، فهي تركز -بوضوح- على حماية المجال الحيوي المحيط بروسيا، ومواجهة ما تراه تمددًا غير مشروع لحلف الناتو شرقًا، خاصةً مساعي ضم أوكرانيا وجورجيا ومناطق من القوقاز. روسيا لا تنظر إلى الدول الأوروبية بوصفها أهدافًا لهجوم عسكري مباشر، وإن كان بعض العسكريين الروس، أو من يعمل في البروبوغاندا الروسية، يطالب بذلك، وهو ما أراه لا يتجاوز إطار المزايدات الإعلامية، بل إنها ترى في الدول الغربية خصومًا إستراتيجيين يجب احتواؤهم وردعهم، لا مواجهتهم.
وإذا نظرنا إلى الخطاب السياسي الرسمي الصادر عن الكرملين، فسنجد تركيزًا دائمًا على أن روسيا لا تسعى إلى مواجهة الغرب عسكريًّا، إذا لم تُضطر وتُدفع إلى ذلك مجبرة؛ لأنها في هذه الحالة ستكون مستعدة لحماية مصالحها بكل الوسائل إذا اقتضى الأمر، وهذا النوع من الخطاب يعكس فلسفة الردع، وليس الهجوم. وحتى في المراكز البحثية الروسية الأكثر تشددًا، لا نجد دعوات جدية للهجوم على أراضي الناتو، بل نجد تركيزًا على الصراع الجيوسياسي في مناطق النفوذ الرمادي، مثل أوكرانيا.
إذن، لماذا تصر بعض الأطراف في الغرب على الترويج لفكرة “الهجوم الروسي” الوشيك؟ في رأيي، هذه الرؤية تؤدي دورًا في التعبئة السياسية والإعلامية داخل المجتمعات الغربية، وتستخدم بالأساس من أجل تبرير سياسات مثل زيادات ميزانيات الدفاع، وتعزيز الوجود العسكري في أوروبا الشرقية، وتوحيد الصف الداخلي في مواجهة خصم خارجي.
كذلك لا يمكننا إغفال البعد النفسي والإعلامي؛ فتصوير روسيا على أنها خطر دائم يخدم هدف الردع الوقائي، ويمنح الحكومات الغربية مبررات مقنعة أمام الرأي العام لمواصلة دعم أوكرانيا ماليًّا وعسكريًّا، رغم الأعباء الاقتصادية الناتجة عن الحرب.
والرد الروسي على هذه المزاعم غالبًا ما يتسم بالسخرية الهادئة، فموسكو ترى أن الغرب هو من يصعد، ثم يحمل روسيا مسؤولية التوتر. وهناك في الأوساط الفكرية الروسية من يرى أن واشنطن وبعض العواصم الأوروبية تسعى إلى استنزاف روسيا، أو إبقائها مشغولة عسكريًّا وسياسيًّا في محيطها، لأطول مدة زمنية ممكنة.
في النهاية أستطيع أن أقول بموضوعية، ومن موقع المتابع من كثب، إن احتمال شن روسيا هجومًا على بريطانيا أو ألمانيا ضعيف جدًّا، في المدى المنظور، أو في الوقت الراهن على الأقل، ولا يتوافق مع أولوياتها، ولا مع توازنات القوى العالمية، لكن هذا لا ينفي بالطبع إقرارنا بأن العلاقات بين روسيا والغرب قد دخلت بالفعل في مرحلة طويلة من التوتر والصراع المفتوح، وإن ظل هذا الصراع بعيدًا -حتى الآن- عن المواجهة العسكرية المباشرة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.