في 20 أبريل (نيسان)، بدأت القوات الجوية المصرية والصينية أول مناورات جوية مشتركة لهما في قاعدة وادي أبو ريش الجوية، الواقعة على بعد نحو 100 كيلومتر غرب خليج السويس، وحملت التدريبات عنوان “نسور الحضارة 2025“، واختُتمت في 6 مايو (أيار)، وشملت مجموعة متنوعة من الطائرات المقاتلة المتقدمة، ما يمثل تطورًا ملحوظًا في التعاون الدفاعي الثنائي. ومن منظور عسكري وإستراتيجي، تُعدّ هذه التدريبات ذروة في قابلية التشغيل البيني، وتعكس تعاظم الثقة المتبادلة، ومواءمة العقائد العملياتية. كما شكّلت المناورات منصة لاختبار الكفاءة التكتيكية المشتركة في سيناريو قتالي موحد.
تزداد أهمية هذه المناورات بالنظر إلى السياق الجيوسياسي الذي جرت فيه، فقد نُفذت في خضم تصاعد الصراع في غزة، وتزامنت مع نقاشات مثيرة للجدل بشأن إمكانية نقل سكاني إلى الأراضي المصرية؛ مما أدى إلى تدهور كبير في العلاقات المصرية الإسرائيلية. ويُعد هذا التراجع في العلاقات هو الأشد منذ توقيع معاهدة السلام عام 1979، وقد بلغ ذروته بإعلان الرئيس عبد الفتاح السيسي عدم تلبية دعوة لزيارة واشنطن. وتُعد الخطوة المصرية بتعزيز التعاون الدفاعي مع الصين في هذا التوقيت إشارة محورية من المرجّح أن تُستوعب -بعمق- في الأوساط الإستراتيجية الإقليمية والدولية.
تُعد مصر والصين من أقدم الحضارات المستمرة في التاريخ، وترتبطان بتاريخ من التفاعل الحضاري يمتد إلى آلاف السنين. وفي العصر الحديث، كانت مصر أول دولة عربية وإفريقية تعترف رسميًّا بجمهورية الصين الشعبية عام 1956، فاتحةً بذلك الباب أمام انخراط أوسع لبكين في العالم العربي والقارة الإفريقية. وردّت الصين على ذلك بتقديم دعم سياسي لمصر خلال أزمة السويس، ولاحقًا في جهودها لاستعادة أراضيها بعد نكسة 1967.
وخلال مؤتمر باندونغ في منتصف خمسينيات القرن الماضي، طلب الرئيس جمال عبد الناصر دعمًا عسكريًّا من رئيس الوزراء الصيني شو إن لاي. وعلى الرغم من افتقار الصين حينذاك إلى فائض من الأسلحة، فقد قام شو بالتوسط فيما عرفت فيما بعد بصفقة الأسلحة التشيكية إلى القاهرة، وهي خطوة أسهمت في تسريع عملية تحديث الجيش المصري، وأيضًا في توسيع العمق الإستراتيجي للاتحاد السوفيتي في الشرق الأوسط.
رغم عمق التعاون الاقتصادي، خاصة في إطار مبادرة الحزام والطريق، ظلت العلاقات العسكرية بين مصر والصين محدودة نسبيًّا. ومن بين الاستثناءات البارزة اتفاق إنتاج مشترك لطائرة التدريب الأصل “كي- 8” (JL-8/K-8)، في عام 2000 بين الهيئة العربية للتصنيع (AOI) والشركة الصينية الوطنية لتقنيات الطيران (CATIC).
غير أن المناورات الجوية الأخيرة قد تكون مؤشرًا إلى إعادة تقييم وتوجه جديد، إذ أفادت عدة تقارير إعلامية -من بينها مصادر إسرائيلية وتصريحات لضابط مصري سابق- بأن مصر ربما اقتنت منظومة الدفاع الجوي الصينية “إتش كيو- 9” (HQ-9)، كما تلمّح تسريبات أخرى إلى احتمال وجود مفاوضات لاقتناء مقاتلات “تشنغدو جيه- 10” (J-10C)، وبينما لم تؤكد أي جهة رسمية هذه الأنباء، فإن الطابع غير المسبوق لهذه التدريبات يعزز فرضية وجود تحول في مستوى التعاون الدفاعي الثنائي.
يحمل اختيار اسم المناورات (نسور الحضارة) دلالات رمزية تُعبّر عن تطلعات كلا البلدين إلى تجديد دورهما بوصفهما ركائز حضارية تسعى إلى استعادة مكانتها العالمية ضمن إطار جيوسياسي حديث. وقد دأبت الصين -تاريخيًّا- على اتباع نهج حذر في انخراطها الشرق أوسطي، لكن هذه التدريبات قد تعكس تحوّلًا نحو تموضع أكثر تعددية، يوازن بين المصالح الاقتصادية والشراكات الأمنية المدروسة.
في ظل الانهيار المطول أو التآكل الشديد للقوات المسلحة النظامية في العراق وسوريا وليبيا والسودان واليمن، أصبح الهيكل الأمني الإقليمي شديد التشرذم. ومن هذا المنطلق، فإن التعاون مع مصر -التي تُعد على نطاق عريض من أكثر الدول العربية استقرارًا وكفاءة عسكرية- قد يُتيح لبكين دورًا أكثر فاعلية في إعادة تشكيل الاستقرار الإقليمي عبر الشراكة، بدلًا من الانخراط الأحادي.
تعتمد الإستراتيجية الاقتصادية العالمية للصين، وخاصة قابلية مبادرة الحزام والطريق للاستمرار، على استقرار الممرات الحيوية، ويأتي الشرق الأوسط في صدارة هذه الممرات. وتُشكل مصر، بما لها من موقع جغرافي محوري وسجل دبلوماسي راسخ، مرشحًا مثاليًّا لتكون ركيزة استقرار إقليمي، فمن قبول الرئيس عبد الناصر بمبادرة روجرز عام 1970، إلى زيارة الرئيس أنور السادات التاريخية إلى القدس عام 1977، وصولًا إلى معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979، أظهرت مصر -باستمرار- قدرة فريدة على تحويل المبادرات الدبلوماسية إلى اتفاقات دائمة. وعلى الرغم من أزمات المنطقة، ظلت القاهرة وفية لالتزاماتها السلمية، معززة بذلك دورها بوصفها فاعلًا إقليميًّا براغماتيًّا.
قد تعود مصر لتضطلع بدور مماثل لما قامت به خلال الحرب الباردة، حين كانت بوابة للأسلحة السوفيتية إلى العالم العربي، ولكن هذه المرة من خلال انخراطها مع الصناعات الدفاعية الصينية. ومع ما تملكه من بنية تحتية عسكرية قوية، وقاعدة صناعية متطورة، ونفوذ سياسي عابر للحدود في إفريقيا والشرق الأوسط، تُوفر مصر لبكين منصة إستراتيجية لتوسيع حضورها في الإقليم، عسكريًّا واقتصاديًّا ودبلوماسيًّا.
وإذا ما أُطِّرَت هذه الشراكة ضمن أطر مؤسسية، فإنها يمكنها أن تعزز معادلات الردع في منطقة تتسم بعدم استقرار ميزان القوى، وتمنح الصين مدخلًا متوازنًا -لكن مؤثرًا- إلى النقاشات الأمنية الإقليمية، بما يكمل أهدافها الاقتصادية الأوسع.
تسير القوات المسلحة المصرية في مسار تحديث متسارع يهدف إلى مواجهة التهديدات المتغيرة، مع الحفاظ على استقلالية القرار الإستراتيجي الوطني. وفي هذا السياق، قد تمثل المناورات المشتركة مع الصين مقدمة لإطار تعاون ثنائي موسّع، يدمج بين عناصر الأمن والاقتصاد والدبلوماسية، وفق رؤية مشتركة لعالم متعدد الأقطاب.
وإن تبلورت هذه الشراكة، فإنها لن تمثل مجرد تقدم نوعي في العلاقات الصينية العربية؛ بل ستكون دليلًا أوسع على الكيفية التي تنوّع بها القوى الدولية اصطفافاتها الإستراتيجية، في ظل تآكل فعالية النظم الأمنية العالمية التقليدية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.