في خضم الصراعات الدائرة في الشرق الأوسط، من المرجح أن تظل الحركات الجهادية العالمية تشكل تهديدًا عابرًا للحدود الوطنية، ويستمر التهديد الذي يشكله تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) في التنامي. ووفقًا لمؤشر الإرهاب العالمي لعام 2025، فإن التنظيم الإرهابي وسّع نطاق عملياته ليشمل 22 دولة، إذ مثلت سوريا وجمهورية الكونغو الديمقراطية أكثر من 70% من هجماته العام الماضي. وعلى الرغم من انتكاساته الأخيرة، فإن التنظيم لا يزال يمتلك ما يصل إلى 6000 مقاتل في أفغانستان، ونحو 3000 مقاتل في سوريا والعراق، وما بين 2000 و3000 مقاتل في دول غرب إفريقيا.
يُسهم هذا التنامي في تأجيج المخاوف المتجددة من الإرهاب الجهادي، في حين تستمر الديناميكيات الإقليمية والعالمية المتطورة للجهادية في تقديم تهديدات عابرة للحدود الوطنية وتطورات جديدة في سوريا وخارجها. ورغم حالة عدم اليقين في دمشق، فإن أحد الألغاز السياسية الرئيسة حاليًا ترتبط بالمسار المنتظر من حكومة أحمد الشرع، ذات الخلفية الجهادية، تجاه روافدها القديمة، كداعش، الذي ينتهج إستراتيجية ليست قائمة على التقدم الميداني فحسب؛ بل على الحرب الدعائية التي يبرع فيها تنظيم الدولة الإسلامية بقوة، فمنذ أيام، وتحديدًا في الحادي والعشرين من أبريل (نيسان) الجاري، أصدر التنظيم فيديو دعائيًّا يندد فيه بالقيادة الانتقالية السورية، ويصفها بأنها مرتدة بموجب الشريعة الإسلامية، ليأتي هذا الفيديو في الوقت الذي تعزز فيه سوريا علاقاتها الأمنية مع قطر وتركيا وروسيا، وتسحب الولايات المتحدة قواتها جزئيًّا من شرق سوريا.
بعد خسارة أراضيه، وتحوله إلى التمرد السري، أصبح تنظيم الدولة الإسلامية يعمل -على نحو رئيس- في منطقتين رئيستين، هما: البادية السورية (بادية الشام)، التي تغطي أكثر من نصف البلاد، ومنطقة الجزيرة (شمال شرق سوريا)، التي تسيطر عليها -إلى حد كبير- القوات الكردية. وباستغلال هذه المناطق النائية التي تعاني سوء الإدارة وصعوبة الوصول إليها، يواصل التنظيم إعادة تنظيم صفوفه، وتدريب المجندين الجدد، وشن هجمات إرهابية، باستخدام التضاريس الصحراوية الشاسعة كملاذ آمن للأنشطة المتمردة المستمرة. ويعزز تحركات التنظيم الحالية في سوريا جملة من المتغيرات الداخلية والخارجية، لعل أبرزها ما يلي:
في الحادي والعشرين من أبريل (نيسان) الجاري، أصدر تنظيم الدولة الإسلامية مقطع فيديو باللغة العربية يتهم فيه الرئيس السوري أحمد الشرع وحكومته الانتقالية بالردة، ويدعو المقاتلين المحليين إلى اعتناق الإسلام الحقيقي، إذ يتهم تنظيم داعش الحكومة السورية الجديدة بالتخلي عن الشريعة، رافضًا شرعية “الجولاني” السياسية كما سُمِّيَ في الفيديو الدعائي.
وتفنيدًا لما سبق، يعرض الفيديو عدة حجج أيديولوجية متشابكة، تتضح فرضياتها في:
أولًا- الخيانة الدينية: حيث اتهم تنظيم الدولة الإسلامية الجولاني بخرق البيعة لقيادة التنظيم، وانتهاك الوحدة الإسلامية، وإضعاف التماسك الجهادي.
ثانيًا- الردة السياسية: يندد الفيديو بمشاركة الرئيس السوري الذي نصّب نفسه رئيسًا للبلاد في الهياكل الديمقراطية، وزعم التنظيم أن الإصلاحات الدستورية والانتخابات تعني التخلي عن مبادئ الشريعة الإسلامية.
ثالثًا- النفاق الأخلاقي: تزعم الرواية الدعائية أن قيادة هيئة تحرير الشام، التي اندمجت حاليًا في القوات المسلحة السورية، تتصالح مع عناصر النظام السوري السابق وتقمع المجاهدين الموالين.
رابعًا- الانحياز الخارجي: يصور الفيديو الجولاني متواطئًا مع المصالح التركية والغربية، ويصفه بأنه جزء من تحالف صليبي صهيوني.
وأخيرًا- الانحراف العَقَدي: إذ أعلن تنظيم الدولة الإسلامية في الفيديو الدعائي أن الإدارة السورية الحالية كافرة، وغير شرعية، ووصف هيئة تحرير الشام بأنها منحرفة عَقَديًّا، وتخلت عن أهداف الأمة الإسلامية.
وفي هذا الصدد، يعكس هذا الفيديو موقف تنظيم الدولة الإسلامية من الحكومة الجديدة والرئيس السوري؛ فمنذ سقوط بشار الأسد، وتنصيب قائد هيئة تحرير الشام رئيسًا لسوريا، روّج التنظيم لحملة دعائية تهدف إلى تشويه سمعة الشرع، وتتزامن هذه الدعاية مع تحولات الديناميكيات الإقليمية السالفة الذكر، إذ يهدف الفيديو الدعائي إلى استغلال أعضاء سابقين في هيئة تحرير الشام لزعزعة عملية التحول السياسي في سوريا، حيث تتفق هذه الرسالة مع جهد أوسع نطاقًا يبذله تنظيم الدولة الإسلامية لاستعادة النفوذ في سوريا بعد الفراغ الذي خلّفه الأسد، من خلال الحرب الخطابية، والتخريب الأيديولوجي.
في عام ٢٠٢٤، كان تنظيم داعش ينشط في سوريا، بمعدل ٥٩ هجومًا شهريًّا، بيد أنه منذ رحيل الأسد في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، انخفض معدل عملياته بنسبة ٨٠٪، ليصل إلى ١٢ هجومًا شهريًّا فقط في المتوسط، والأهم، انخفض معدل خسائر هجماته بنسبة ٩٧٪، فمن ٦٣ قتيلًا شهريًّا في عهد الأسد في عام ٢٠٢٤ إلى قتيلين شهريًّا فقط، ومع ذلك، فإن داعش، الذي يستعيد نشاطه بإصرار، لا يتلاشى فجأة، فقد نفذ التنظيم في سوريا منذ بداية هذا العام هجومين في يناير (كانون الثاني)، وتسعة في فبراير (شباط)، وتسعة عشر في مارس (آذار)، وفي الأسبوعين الأولين من أبريل (نيسان) الجاري، نفذ داعش ما لا يقل عن ١٤ هجومًا؛ مما يضعه على مسار زيادة مطّردة في عملياته على أساس شهري، والجدير بالذكر أن غالبية تلك الهجمات وقعت داخل الأراضي التي تسيطر عليها قوات قسد، حيث إن هجومًا واحدًا فقط من أصل أكثر من 40 هجومًا لداعش حتى الآن كان في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة غرب نهر الفرات.
إن الأرقام السابقة تدفع نحو سيناريو مواصلة تنظيم الدولة الإسلامية عادته في النمو والازدهار في ظل فراغ السلطة، واستغلال الانقسامات في سوريا، وتكثيف الحرب غير المتكافئة ضد الحكومة المؤقتة والقوات الكردية، وتنظيم عمليات هروب جماعية من السجون، ويزداد هذا الخطر إذا استمرت حالة عدم الاستقرار، ولم تتوقف الأعمال العدائية، ولم يتحسن الوضع الاقتصادي، وأخفقت الحكومة الجديدة في السيطرة الكاملة على الفصائل السورية المسلحة، لا سيما في ظل الارتباط التاريخي بين هيئة تحرير الشام وتنظيم داعش الذي قاتل كثير من أعضاء هيئة تحرير الشام في صفوفه في مرحلة قريبة من الماضي.
وفقًا لتقديرات الخبراء، فمن المرجح أن يعاود تنظيم داعش الظهور خلال 12 إلى 24 شهرًا، بالتزامن مع الانسحاب الأمريكي من سوريا. ومع أن داعش لا يزال غير قادر على السيطرة على البلدات والقرى، فإنه يمكنه إجبار السكان على الدعم، والاستيلاء على المناطق غير المأهولة مؤقتًا، وإذا تُرك داعش دون رادع، فسيفرض تدريجيًّا سيطرة أكبر على السكان، ويحاول الاستيلاء على المناطق المأهولة بالسكان، إذ تُعد الصحراء السورية الوسطى مناسبة تمامًا لإيواء قواته الحالية وتدريبها وتنظيمها.
لكن داعش العائد بقوة سيحاول السيطرة على المراكز السكانية للوصول إلى الموارد المالية والعسكرية، والعثور على مجندين جدد، واستعادة الاتصالات الموثوقة للعمليات في جميع أنحاء سوريا وخارجها، ومن شبه المؤكد أن داعش سيستغل هذا الزخم لمهاجمة مراكز الاحتجاز، وتحرير مزيد من أعضائه؛ ومن ثم استعادة قدرته في النهاية على التخطيط وتنفيذ هجمات في غرب سوريا، حيث تعطي الحكومة المؤقتة الأولوية لتعزيز موقعها في دمشق؛ ومن ثم تفتقر إلى القدرة على محاربة داعش في وسط سوريا وشرقها، فيما تواجه قوات سوريا الديمقراطية، المدعومة من الولايات المتحدة، تهديدات وجودية من تركيا، التي تعطي الأولوية لإنهاء خطر الجماعات الكردية على طول الحدود السورية التركية إما بالقوة وإما بالتفاوض.
يستوجب هذا السيناريو أولوية تكثيف التعاون العسكري بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية؛ لضرب أهداف داعش على المستوى التكتيكي، مع أهمية المضي قدمًا في المحادثات الناشئة مع دمشق لإنشاء آلية تنسيق عبر نهر الفرات لضمان عدم قدرة داعش على استغلال مناطق السيطرة المختلفة للتخطيط للهجمات، واستثمار التحالف الأمني الإقليمي الناشئ بين العراق والأردن وتركيا وسوريا لتنسيق آلية فعالة طويلة الأمد ضد داعش، مع دعم سوريا قوية ومستقرة وقادرة عسكريًّا في الوقت نفسه.
وفي ظل التحول الدقيق الذي تشهده سوريا، فإن التحولات العسكرية الخارجية، مثل قرار انسحاب القوات الأمريكية الداعمة لقوات سوريا الديمقراطية في مواجهة داعش، من شأنها أن تخفف الضغط على التنظيم؛ مما قد يمكنه من إعادة تنظيم صفوفه، والتوسع في هجماته؛ ومن ثم تصعيد التهديد على نحو أكبر، لا سيما أن روسيا وتركيا، رغم عرضهما دعم مهمة مكافحة داعش، تفتقران إلى القدرة والرغبة في تنفيذ هذا العرض في الوقت الحالي.
في سوريا ما بعد الأسد، يقاوم تنظيم الدولة الإسلامية بناء سوريا الجديدة من خلال هجمات أيديولوجية مضادة، إذ يُعد الفيديو الدعائي الأخير محاولة مدروسة باستخدام الادعاءات الدينية لإثارة الصراع داخل الجماعات الجهادية من أجل زعزعة استقرار حكومة الشرع، لا سيما في ظل شراكات سوريا الدفاعية الأخيرة مع روسيا وتركيا وقطر، ومحاولات تكيفها مع المشهد الأمني الإقليمي والدولي المتغير.
وبعد نحو أربعة أشهر من المرحلة الانتقالية الهشة في سوريا، يسعى داعش إلى الحفاظ على نفوذه الإستراتيجي في البلاد، وهو ما يجعل الهزيمة الكاملة لتنظيم الدولة الإسلامية لن تتحقق إلا بنجاح المرحلة الانتقالية في سوريا، من خلال تشكيل حكومة تمثل كل التنوع الغني في البلاد تمثيلًا حقيقيًّا، واقتصاد مستقر بالاستثمارات الطويلة الأمد، بعيدًا عن آثار العقوبات الخارجية، فضلًا عن تأهيل البنية التحتية، وإعادة الإعمار، والتسريح التدريجي لمجتمع مُثقل بالسلاح نتيجة ما يقرب من أربعة عشر عامًا من الصراع الأهلي.
ما ورد في التقرير يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.