في تمام الساعة 5:17 مساءً بتوقيت بكين يوم الخميس، انطلقت بنجاح المركبة الفضائية المأهولة “شنتشو- 20” (Shenzhou 20) على متن صاروخ (Long March 2F) من مركز جيوتشوان لإطلاق الأقمار الصناعية. وقد دخلت المركبة، التي تقل ثلاثة رواد فضاء، المدار المحدد لها، ليبدأ طاقم “شنتشو- 20” رحلة تستمر ستة أشهر في الفضاء. قبل خمسة وخمسين عامًا، في 24 أبريل (نيسان)، أُطلق أول قمر صناعي صيني، “دونج فانج هونج 1″ (Dong Fang Hong 1)، معلنًا دخول البلاد -رسميًّا- عصر الفضاء. ومن أول شرارة لـ”دونج فانج هونج 1” إلى استكشافات القمر عبر مهام تشانغ آه (Chang’e)، ومن مركبة الفضاء “شنتشو” إلى محطة “تيانجونغ” الفضائية، أثبت برنامج الفضاء الصيني -على مدار أكثر من نصف قرن- أن جاذبية الأرض لا تستطيع تقييد خطوات البشر الطامحة، كما أن الحصار لا يمكنه كبح مسيرة الابتكار المستقل للصين.
على مدار سنوات، فرضت بعض الدول عقوبات صارمة، وإجراءات كبح على مساعي الصين الفضائية؛ في محاولة لإبطاء تقدمها، ومع ذلك، أثبتت الوقائع أن هذه الإجراءات لم توقف الصين؛ بل دفعتها إلى تسريع وتيرة الابتكار الذاتي. فعندما تواصل مدير وكالة ناسا -مرارًا- مع الجانب الصيني، معربًا عن رغبته في “استعارة” عينات من تربة القمر، ظهرت بوضوح مفارقة قانون تعديل وولف (Wolf Amendment). هذا الموقف يكشف -بجلاء- أن سياسات مثل “الساحة الصغيرة والسياج العالي”، أو “فك الارتباط وتعطيل سلاسل الإمداد”، ليست حلولًا سحرية تخدم أجندة “أمريكا أولًا”. فقيود العزل التكنولوجي لطالما كانت سيفًا ذا حدين: “قد تكبح مؤقتًا تدفق التكنولوجيا المتقدمة، لكنها على المدى الطويل قد تقيد من يفرضها، وتحرمه من الابتكار والتعاون الدولي”.
لا تكمن جاذبية برنامج الفضاء الصيني في الإنجازات التكنولوجية فقط؛ بل أيضًا في انفتاحه على التعاون بوصفه قوة كبرى مسؤولة. ففي “اليوم الوطني العاشر للفضاء الصيني”، أُعلن إنجازان بارزان؛ الأول هو اختيار وتدريب رواد فضاء باكستانيين للمشاركة في مهام فضائية؛ ما يقرّب رواد الفضاء الأجانب من الانضمام إلى “فريق مهمة شنتشو”. أما الثاني فقد أعلنت الإدارة الوطنية الصينية للفضاء نتائج طلبات المؤسسات الدولية لاستعارة عينات من القمر جُمعت خلال مهمة “تشانغ آه-5″، وقد تمت الموافقة على طلبات سبع مؤسسات من ست دول، ووقعت خمس منها من خمس دول على اتفاقية استعارة عينات القمر.
وفي العام الماضي، وخلال مهمة “تشانغ آه-6” لجمع عينات من الجانب البعيد للقمر، حملت المركبة أربع حمولات دولية، منها كاشف غاز الرادون من فرنسا، ومحلل أيونات سلبية من وكالة الفضاء الأوروبية، وعاكس زاوي ليزري من إيطاليا، وقمر اصطناعي صغير من باكستان. وعلى مر السنوات، أطلقت الصين مبادرات تعاون متعددة الأطراف، مثل “محطة البحوث القمرية الدولية”، و”كوكبة الأقمار الاصطناعية للاستشعار عن بعد لدول بريكس”، و”ممر المعلومات الفضائية لمبادرة الحزام والطريق”. وقد أسهمت هذه المشروعات، إلى جانب مساهمات أخرى، كالقمر الصناعي “MisrSat-2” لدعم تحديث الزراعة في إفريقيا، والقمر الصناعي الصيني- البرازيلي لرصد موارد الأرض والمساعدة في مراقبة إزالة الغابات في الأمازون، في بناء منصات تعاون فضائية تتيح لمزيد من الدول مشاركة فرص التنمية، وتعكس صورة الصين بوصفها دولة كبرى مسؤولة.
وقال أحد علماء الفيزياء الفلكية لشبكة سي إن إن (CNN): “إن العالم اليوم يزداد تعقيدًا، لكن من المهم الحفاظ على روح الانفتاح والتعاون”. وهذا قول دقيق؛ إذ إن بعض أعظم الإنجازات البشرية، ومن بينها استكشاف الفضاء، هي في جوهرها ثمرة جهود تعاونية. أما الاعتماد على الجهود الأحادية، وتشكيل دوائر مغلقة حصرية، فلن يؤديا -في نهاية المطاف- إلى تقدم حقيقي. على عكس بعض البرامج الفضائية التي نشأت في ظل الحرب الباردة، وطغى عليها الطابع العسكري، تنتهج الصين نهج الاستخدام السلمي للفضاء، بما يتفق مع التوجهات العالمية نحو التعددية القطبية، والعولمة الاقتصادية. وبقيادة مفهوم “بناء مجتمع ذي مستقبل مشترك للبشرية”، فإن مساعي الفضاء الصينية مهيأة للمضي قدمًا، واستقطاب مزيد من الشركاء في الطريق.
إن اتساع الكون لا يخص دولة بعينها، والنجوم اللامعة تضيء بروح التعددية. وفي الوقت الراهن، تواجه البشرية تحديات فضائية مشتركة، مثل الحطام الفضائي، وتهديدات الكويكبات، وخطر تصادم المركبات الفضائية، وتخصيص الموارد المدارية، وهي قضايا ملحّة تتطلب تعاونًا دوليًّا لاستكشاف حلول مشتركة.
نأمل أن تضع الدول المعنية جانبًا تحاملاتها، وتتخلى عن ألعاب المحصلة الصفرية، وتلتزم بمبادئ الانفتاح والتعاون والمشاركة، وتعمل يدًا بيد مع الصين لدفع عجلة التنمية الفضائية البشرية. فلتكن مركبة “شنتشو” حاملة لأحلام البشرية جمعاء، محلّقة إلى الأعلى والأبعد. وهذه الفلسفة وهذا النهج لا ينحصران في مجال الفضاء فحسب؛ بل لنبدأ من استكشاف الفضاء بزرع بذور الاحترام للتعددية والتعاون المشترك في مجالات أوسع.
المصدر: افتتاحية صحيفة غلوبال تايمز (Global Times) الصينية