قبل عام من تسلمي مهامي في بروكسل، ألقى الرئيس الفرنسي المنتخب حديثًا آنذاك، إيمانويل ماكرون، خطابًا حماسيًّا في جامعة السوربون عام 2017، تحدث فيه عن الاستقلال الإستراتيجي للاتحاد الأوروبي.
وخلال السنوات السبع الماضية، استمعت إلى كثير من قادة الاتحاد الأوروبي وهم يستخدمون كلمات تهدف إلى تأكيد هوية جديدة للتكتل وإثارة المشاعر العامة، غير أن هذا المفهوم ظل في معظمه مجرد خطاب أجوف.
والأسباب وراء ذلك بسيطة: “الولايات المتحدة تمارس نفوذها في كل مجال من مجالات الحياة الأوروبية، سواء في الأمن أو الاقتصاد أو الإعلام أو الجامعات أو مراكز الفكر. وقد أصبحت عقود الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة، ولا سيما في مجال الدفاع، عادة يصعب التخلي عنها”.
لهذا السبب أثار ماكرون ضجة كبيرة قبل عامين عندما دعا أوروبا إلى تأكيد استقلالها، وتحقيق استقلالها الإستراتيجي، من خلال تقليل اعتمادها على الولايات المتحدة، وتفادي الوقوع في صراع بين الولايات المتحدة والصين بشأن مسألة تايوان.
وقد تصاعدت الدعوات داخل أوروبا خلال الأشهر القليلة الماضية للمطالبة باستقلال إستراتيجي للاتحاد الأوروبي، بعدما أصبح بعض أعضاء إدارة دونالد ترمب أكثر صراحة في التعبير عن فتور اهتمامهم بالاستمرار في أداء دور “الوصي” أو “الضامن الأمني” للاتحاد الأوروبي.
لقد هاجم كل من الرئيس الأمريكي ونائبه الاتحاد الأوروبي في قضايا عدة، بدءًا من حرية التعبير والهجرة وصولًا إلى السياسات الاقتصادية والتجارية.
كما أن النهج الجديد الذي تبنته الولايات المتحدة تجاه الصراع الروسي- الأوكراني، وانسحابها من معاهدات دولية، مثل اتفاق باريس للمناخ، وخروجها من كيانات دولية حيوية، مثل منظمة الصحة العالمية، أيقظ الأوروبيين أخيرًا على حقيقة أنهم لم يعودوا يتشاركون مع الولايات المتحدة القيم والمبادئ نفسها.
حتى الأوروبيون الذين كانوا يظنون أن هذه الظواهر مؤقتة، وستزول بمرور الوقت، أدركوا أنها قد تمثل تحولًا دائمًا في توجهات واشنطن.
ويرى بعض مسؤولي الاتحاد الأوروبي والمحللين أن السياسات الأمريكية الحالية قد وفرت فرصة ذهبية للتكتل لتحقيق استقلاله الإستراتيجي.
في الواقع، بدأ الاتحاد الأوروبي يتحدث عن تعزيز صناعة الدفاع في الدول السبع والعشرين الأعضاء، وتقليص الاعتماد على شراء المعدات العسكرية من الولايات المتحدة، بعدما لم تعد واشنطن تبدو ضامنًا أمنيًّا موثوقًا به.
ومع أن رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، صرحت -قبل عدة أشهر- أنها لا ترى ضرورة لفك الارتباط مع الولايات المتحدة، فإنها تحدثت كذلك عن كيفية تنويع الاتحاد الأوروبي علاقاته التجارية والاستثمارية. والرسالة الضمنية كانت: نحن نفك ارتباطنا بالولايات المتحدة أيضًا.
ومن وجهة نظري، فإن هذا الأمر بدهي للاتحاد الأوروبي، الذي يطمح إلى أداء دور أكبر في الشؤون الدولية؛ إذ لا يمكن لأي تكتل أن يؤدي هذا الدور إذا كانت سياساته خاضعة إلى درجة كبيرة للتأثيرات القادمة من واشنطن.
وتعكس كلمات فون دير لاين هذا الأسبوع -“في بيئة عالمية تزداد تقلبًا، تتسابق الدول للتعاون معنا”- توجهًا أوروبيًّا نحو الابتعاد عن واشنطن، رغم ما بدا من خيبة أملها إزاء استمرار ترمب في تجاهل عقد لقاء معها.
ولا شك أن نظام الحوكمة العالمية الذي نشأ عقب الحرب العالمية الثانية قد تعرض لأضرار جسيمة. وحيث إن الولايات المتحدة لم تعد تمثل سوى 13% من التجارة العالمية، فعلى الاتحاد الأوروبي ألا يتردد في أن يتصدر الجهود، وينضم إلى القوى الأخرى للحفاظ على هذا النظام الذي لا يزال يخدم 87% من التجارة العالمية المتبقية.
وينبغي أن تشمل هذه الجهود التعاون مع دول تختلف مع الاتحاد الأوروبي في بعض السياسات؛ لأن الحفاظ على النظام العالمي بات أهم من أي شيء آخر في الوقت الراهن.
ولن يُسهم ذلك فقط في حماية النظام العالمي الذي استفادت منه كثير من الدول، ومنها الدول الأعضاء السبع والعشرين في الاتحاد الأوروبي؛ بل سيساعد الاتحاد أيضًا في تحقيق طموحه القديم نحو الاستقلال الإستراتيجي؛ لذا يجب ألا يفرط الاتحاد الأوروبي في هذه الفرصة الذهبية التي قد لا تتكرر في العمر.
المصدر: صحيفة الصين اليومية (China Daily) الصينية