في وقت تتسارع فيه التحولات الجيوسياسية والاقتصادية على مستوى العالم، يبدو أن واشنطن تُصرّ على انتهاج مسارٍ يعاكس منطق العصر وتوازناته؛ فمرة جديدة، تعود الإدارة الأمريكية -سواء في عهد جو بايدن أو الآن مع دونالد ترمب- إلى توظيف سلاح الرسوم الجمركية للضغط على حلفائها وشركائها، مطالبةً إياهم بالحد من علاقاتهم التجارية مع الصين مقابل وعود بإعفاءات جمركية أمريكية.
لكن ما تتغافل عنه واشنطن، أو تتجاهله عمدًا، هو أن هذا النوع من “العروض” لا يرقى إلا إلى كونه ابتزازًا سياسيًّا واقتصاديًّا لا يمكن تبريره أو تحمّله؛ لأن الولايات المتحدة -في واقع الأمر- لا تمتلك الأدوات اللازمة لتعويض هذه الدول عن خسائرها إذا ما أقدمت فعلًا على فك الارتباط مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
سياسات ترمب الجديدة لا تختلف كثيرًا من حيث الجوهر، لكنها أكثر مباشرة، وأقل لباقًة: هي لا تطلب فقط “خدمة” مجانية من الحلفاء؛ بل تطلب منهم دفع فاتورة مشروع “جعل أمريكا عظيمة مجددًا”، بما فيه من صراعات مع الصين، ومغامرات اقتصادية لا علاقة لهم بها.
ولأن الوعي العالمي تغيّر، لم تُثمر تلك الضغوط أي نتائج؛ فلا الاتحاد الأوروبي، ولا اليابان، ولا معظم الشركاء التجاريين للولايات المتحدة قبلوا الانصياع لتلك السياسات، بل على العكس، وحّدتهم تلك الضغوط، ودفعتهم نحو تعزيز علاقاتهم التجارية المتبادلة، ومع الصين تحديدًا.
والمفارقة أن “الإنجاز” الذي لطالما تباهت به إدارة بايدن (فرض رسوم أوروبية على السيارات الكهربائية الصينية) بدأ يتلاشى في عهد ترمب، بعد أن دفع الأخير الأوروبيين، بسياساته القسرية، إلى إعادة فتح قنوات الحوار مع بكين. في لحظة واحدة، تحولت أدوات الضغط إلى دافع للتقارب مع الخصم المفترض.
بينما تنغمس واشنطن في وهم “إعادة تشكيل سلاسل التوريد العالمية” وفق رؤيتها الأحادية، تتكشف الحقائق على الأرض: يزداد الضغط على الاقتصاد الأمريكي، والأسواق تهتز، والنظام الداخلي يواجه أزمات خانقة، دون أي اختراق حقيقي في مفاوضاتها التجارية.
وكما قال المتحدث باسم وزارة التجارة الصينية: “الاسترضاء لا يجلب السلام، والتنازل لا يكسب الاحترام”، فحينما تُبنى السياسات على استغلال الآخرين باسم الشراكة؛ يتحول الحلفاء إلى خصوم، وتصبح الريادة عبئًا لا ميزة.
اليوم، تقف الصين في موقع الدفاع عن النظام التجاري العالمي، لكنها أيضًا تبني تحالفات أكثر عمقًا مع شركاء جدد وقدامى، تحت راية التعددية والاحترام المتبادل. أما واشنطن، التي ظنت أن عزل الصين هو الطريق إلى استعادة الهيمنة، فقد وجدت نفسها أكثر عزلة من أي وقت مضى.
الرهان على سياسة الرسوم والتهديدات قد يكسب بعض النقاط في الخطاب الداخلي الأمريكي، لكنه يخسر الكثير على طاولة العالم. وبينما تمضي إدارة ترمب في فرض منطق القوة، ترد الصين ومن حولها بمنطق التعاون. والتاريخ -في نهاية المطاف- لا يحكم إلا على النتائج.
المصدر: افتتاحية صحيفة الصين اليومية (China Daily) الصينية