منذ ظهوره في المشهد العسكري والسياسي، يحاول “صدام حفتر”، نجل قائد القيادة العامة في شرق ليبيا المشير خليفة حفتر، تقديم نفسه بوصفه بديلًا محتملًا وموثوقًا به وقويًّا لوالده إذا ترشح حفتر للرئاسة، أو ترك منصبه العسكري، أو فارق الحياة.
وكل التحركات المحلية والإقليمية والدولية التي قام بها “صدام حفتر”، سواء بمفرده، أو بصحبة والده، تصب في هذا الإطار، وقد نجح الجنرال الشاب في كسب أرضية محلية عريضة، وقبول إقليمي، وحضور دولي، خاصة أنه سعى بقوة إلى محو صورة والده القمعية ضد معارضيه، واختار لغة الحوار والتفاوض، والتنازل أحيانًا؛ ليبدو في ثوب غير ما يرتديه حفتر الأب، وليسوق لنفسه بوصفه بديلًا محتملًا وموثوقًا به.
وبعد أزمة العدوان على العاصمة طرابلس في 4-4-2019، التي قام بها حفتر وقواته، وبالطبع صدام معهم، شن معسكر الشرق الليبي العسكري، ومعه الشق السياسي ممثلًا في مجلس النواب ورئيسه عقيلة صالح، هجومًا شرسًا على دولة تركيا، واعتبروها دولة احتلال، وقرروا منع وجودها تمامًا في شرق البلاد، تحت شعار طرد “الاحتلال العثماني”؛ لأنها أسهمت بقوة في صد عدوان حفتر على طرابلس، وقصفت قواته بالطيران المسير؛ ما أدى إلى إفشال مشروعه في السيطرة على الغرب الليبي بعدما وصل إلى قلب العاصمة.
لكن الملاحظ أن صدام نجل حفتر لم يظهر في أي هذه الملاسنات، بل لم تصدر عنه أي تصريحات عن عملية “تحرير العاصمة” كما زعم والده؛ ما دفع البعض إلى اعتبار هذا رفضًا ضمنيًّا منه للخطوة، لكن حتى اللحظة لم يتأكد موقفه الرافض للعدوان، وأيضًا لم يتأكد دوره في هذه العملية التي باءت بالفشل.
وفي التاريخ نفسه (4-4) من العام الجاري يظهر رئيس أركان القوات البرية بالقيادة العامة، الفريق صدام حفتر، في العاصمة التركية “أنقرة” بعد دعوة رسمية من دولة تركيا، ليلتقي بقادة الجيش التركي، بداية من رئيس أركان القوات البرية التركية سلجوق بيراكتار أوغلو، ثم وزير الدفاع التركي يشار غولر، وعدد من المسؤولين العسكريين.
واللافت في الزيارة هو حفاوة الاستقبال الرسمي الذي لقيه صدام حفتر من الجانب التركي، حيث استُقبِل بعزف النشيد الوطني، وعرض عسكري رسمي، في وجود كبار القادة في الجيش التركي، كما استُقبِل في مقر رئاسة القوات البرية التركية بمنطقة جانكايا في العاصمة التركية “أنقرة”.
وتكمن أهمية هذه الزيارة في التوقيت؛ إذ جاءت في ظل حالة من الانسداد السياسي في المشهد الليبي، وفي توقيت يشهد معسكر الغرب الليبي العسكري صدامات وتحشيدات وحالة فوضى من أجل السيطرة والنفوذ، وسط عجز تام من حكومة الوحدة الموجودة هناك، برئاسة عبد الحميد الدبيبة.
كما يحمل توقيت الزيارة دلالة من حيت البُعدين الدولي والإقليمي؛ لأنها جاءت في ظل تحرك من البعثة الأممية ومجلسي النواب والدولة في ليبيا لتشكيل سلطة تنفيذية جديدة موحدة يمكنها إجراء عملية انتخابية تجدد الشرعية، وتأتي برئيس منتخب للمرة الأولى في تاريخ ليبيا.
ومنذ فترة ليست بالقصيرة تسعى تركيا للانفتاح على معسكر الشرق الليبي ممثلًا في مجلس النواب ورئيسه عقيلة صالح من جانب، والقيادة العامة برئاسة المشير خليفة حفتر من جانب آخر، وقطعت شوطًا كبيرًا مع البرلمان، ونجحت في ذلك، ثم توجهت إلى معسكر حفتر تطبيقًا للإستراتيجية البراغماتية المعروفة لدى الدولة التركية، ومحاولتها البحث عن مصادر لإنعاش اقتصادها المتراجع من جانب، ولتثبيت مصالحها ودورها في القارة الإفريقية وفي ليبيا من جانب آخر.
وطبقت أنقرة هذه البراغماتية مع صندوق إعمار وتنمية ليبيا، الذي يترأسه بلقاسم، نجل خليفة حفتر، والذي زار تركيا والتقى بسفيرها أكثر من مرة لتوقيع اتفاقات في مشروعات إعادة الإعمار، وتحول “الاحتلال العثماني” إلى وجود رسمي بتوقيع “بلقاسم حفتر”.
ثم استكملت تركيا خطتها للبحث عن مصالحها مع معسكر الشرق الليبي من خلال بوابة حفتر وقواته وقياداته العسكرية، ووجدت في “صدام حفتر” ضالتها؛ لأنه الشخص الأبرز والأقوى حاليًا، ووجهت إليه دعوة رسمية، وقابلته بحفاوة “رفيعة المستوى”، لتطرح تساؤلات وتكهنات في المشهد عن دوافعها ومصالحها مع معسكر حفتر في هذا التوقيت.
يمكن قراءة هذه الزيارة بأن وراءها دور أمريكي هو مَن نسق ورتب الخطوة؛ لأن واشنطن ترى في تركيا شريكًا إقليميًّا موثوقًا به، يمكن الاعتماد عليه في ملفات حساسة ومهمة وجدلية، ومنها الملف الليبي، وهذه الثقة ليست وليدة اللحظة، بل منذ سنوات، وتعتبر الولايات المتحدة أن تركيا هي عينها ويدها في المنطقة، بل ورقتها الرابحة لإزاحة أي دولة تعاند الدور الأمريكي هناك.
لذا لم تأتِ هذه الزيارة بهذه الحفاوة إلا بعد ضوء أخضر أمريكي، وتنسيق واختيار دقيق للشخصية؛ ما يعني أن واشنطن ليست لديها مشكلات مع “صدام حفتر” على غرار والده، الذي ترى فيه شريكًا عنيدًا أقرب إلى روسيا منه إلى الولايات المتحدة.
كما نتوقع أيضًا أن هذه الزيارة بتنسيق وتوافق بين تركيا والدولة المصرية من جانب، وتوافق وتبادل رؤى بين مصر ومعسكر حفتر من جانب آخر؛ لأن القاهرة الداعم الإقليمي الأكبر لحفتر، وما زالت تراهن على ورقته ومشروعه، وإن تراجع دعمها العسكري له، لكنها ترى فيها شريكًا موثوقًا به، وأقرب جدًّا إلى الرؤية المصرية، ويمكن الاعتماد عليه كجيش منظم.
لذا فإن الدور الأمريكي المنظم للزيارة، والتوافق المصري على بنودها، يجعلان الزيارة خطوة إستراتيجية كبرى، وليست مجرد زيارة أو تحرك محلي من صدام ووالده؛ ولذا سينبني على هذه الخطوة تغيرات كبرى في المشهد الليبي، خاصة العسكري منه.
ويبدو من الخطوة، ووجود النكهة الأمريكية فيها، أن أحد أهم أهدافها هو إفساح المجال لدور تركي أوسع، شريطة أن يكون على حساب مساحات روسيا وفرنسا في الشرق والجنوب الليبي (مناطق نفوذ حفتر وسيطرته) على أن تكون أنقرة داعمة وميسرة للدور الأمريكي هناك، وليست معاندة له على غرار فرنسا التي تسعى -من وقت إلى آخر- إلى الخروج من تحت عباءة واشنطن للظهور بدور الدولة الأوروبية الأقوى التي لا تتلقى تعليمات من الولايات المتحدة، وكذلك الخصم الدولي الدائم “روسيا”؛ لأن وجودها وتوسعها في شرق ليبيا ووسطها وجنوبها لا يروقان الإدارة الأمريكية، التي تسعى إلى تحجيم هذا الوجود على مقاس المسموح به فقط من واشنطن.
وكما تردد عن توقيع صدام حفتر عدة اتفاقات عسكرية للمرة الأولى مع الجانب التركي، سيكون الوجود هناك عسكريًّا رسميًّا؛ ما يعني سهولة استهداف أو طرد أو تضييق الخناق على أي وجود روسي أو فرنسي لا يروق الأمريكان، من خلال تكثيف الوجود التركي العسكري وزيادته عبر اتفاقات رسمية.
ومن المؤكد أن روسيا وفرنسا ومعهما دول أخرى، مثل إيطاليا وبريطانيا، لن يكون الأمر سهلًا عليها، وستحاول عرقلته، لكن وجود اتفاقات عسكرية رسمية بين تركيا وحفتر سيجعل من الصعوبة إبعاد تركيا تمامًا عن المشهد، وهذا يعني صعوبة إبعاد واشنطن.
أما بخصوص تأثير الخطوة في معسكر الغرب الليبي، المعروف بولائه الشديد لتركيا، ودعم الأخيرة له حتى اللحظة، فسيكون التأثير واضحًا، ورسالة أنقرة واضحة: “لسنا داعمين للغرب فحسب، بل تجمعنا اتفاقات وعلاقات مع معسكر الشرق الليبي”، وهي رسالة قوية مفادها إن لم ينظم عسكر الغرب صفوفهم، وشرعنة قواتهم، سيكون هناك بديل وتوجه آخر من خلال دعم “جيش حفتر”، وإذا حصلت الخطوة فستكون طرابلس وما جاورها في مرمى حفتر، بل من السهل دخولها، وقد تكون هذه رسالة دولية، وليست تركية.
لذا سببت الزيارة حالة من الغضب والإرباك والتخوفات لدى معسكر الغرب الليبي بشقيه السياسي (حكومة الدبيبة) والعسكري (المجموعات المسلحة التابعة للدبيبة)؛ لأن هذه المجموعات لم تنجح حتى الآن في تكوين قوى عسكرية موحدة تحت قيادة واحدة مثلما فعل حفتر (وإن فعلها بالحديد والنار، وضمَّ أفرادًا بالقوة) الذي رغم وجود تحفظات محلية ودولية حوله فإنهم يرون فيه جيشًا موحدًا يأتمر بأوامر واحدة، وإن كانت دكتاتورية، لكن الجميع مصطف خلف قائد واحد.
فإن زيارة حفتر الابن إلى تركيا، واستقباله استقبالًا رسميًّا وعسكريًّا مبالغًا فيه، ترسل عدة رسائل محلية وإقليمية ودولية مفادها اعتراف رسمي بهذه القوات التابعة للمشير حفتر بأنها جيش منظم يمكن توقيع اتفاقات معه، وأن على مسلحي الغرب الليبي تنظيم صفوفهم مرة أخرى، والظهور بصورة القوة العسكرية الموحدة، وأن تركيا سيكون لها دور كبير في ملف إخراج المرتزقة الأجانب من ليبيا بعدما “تشرعن” وجودها من خلال اتفاقات مع جيش حفتر وقياداته، فهل ستنجح تركيا في تحقيق ما تصبو إليه في ليبيا وإفريقيا، أم تصطدم رهاناتها بقوى أخرى رافضة للتوسع التركي في الملف الليبي؟
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.