نواصل في هذا المقال عرض أهم ما جاء في كتاب “بين روسيا والشرق العربي”، الذي صدر عام 2011، ضمن سلسلة “كتابات نقدية”، التي تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، من ترجمة الأستاذ الدكتور محمد عباس، والأستاذة الدكتورة نادية إمام سلطان، ويتألف من 382 صفحة.
شارك كل من الأديبين ألكسندر سيرجيفيتش بوشكين ونيكولاي غوغل في ترسيخ الواقعية في الأدب الروسي، وهما المؤسسان الحقيقيان للواقعية في روسيا، وإذا كان بوشكين المؤسس الأول للواقعية، فإن غوغل أكمل المسيرة، وأصبح المؤسس للواقعية النقدية، فهو صاحب “المدرسة الطبيعية” التي يتسم بها أدب الأربعينيات في روسيا من القرن التاسع عشر؛ مما جعل هذا الأدب أدبًا عالميًّا، أثر فيما بعد في الآداب العالمية.
ولد نيكولاي فاسيلسفتش غوغل في 20 مارس (آذار) 1809 في قرية ساروتشينا، مركز ميرغورد، التي تبعد كثيرًا عن مدينة بالتافا في أوكرانيا، وقضى طفولته في قرية فاسيليفكا في ضيعة والده فاسيلي أفاناسفتش في منزل ليس بالكبير، فيه حديقة جميلة في وسطها حوض ماء، ويضم عددًا ليس بالقليل من الخدم. كان لوالده القدرة على أن يحكي بفكاهة كل ما يقصه من حكايات، إذ كان يتمتع بالفكاهة والقدرة على رواية القصص منذ صغره.
تلقى نيكولاي غوغل دروسه الأولى في مدرسة بالتافا، ثم التحق بمدرسة نيغني للعلوم العليا، وكانت تضم مجموعة من شباب المدرسين المثقفين من أنصار الأفكار التقدمية، ومن بينهم أوصوف؛ مدرس القانون الذي تأثر به الطلبة تأثرًا عظيمًا؛ لدعواته إلى حرية الإنسان، وتحقيق العدالة بين الجميع، وتأييده حرية الفكر والرأي، وكان أوصوف القدوة الحسنة لغوغل، وكثيرًا كان يزوره في المنزل، ويستقي من علمه وثقافته الكثير، ويستعير من مكتبته الكتب.
كان غوغل شغوفًا بالمسرح، وكان الطلبة يعتبرونه روح فرقة التمثيل المسرحي، وكان يكتب المسرحيات، ويمثل الأدوار المختلفة، وخاصة الكوميدية. سافر نيكولاي غوغل إلى العاصمة سانت بطرسبورغ بعدما أنهى دراسته للحصول على وظيفة حكومية، وكان ذلك صعبًا، ثم وُفق في الحصول على وظيفة بإحدى إدارات مصلحة الاقتصاد الحكومية في الوقت الذي كان ينشر فيه بعض مؤلفاته بتوقيع مستعار، ولكن مؤلفاته لاقت نقدًا لاذعًا مخيبًا لآماله؛ مما دفعه إلى شراء ما تبقى من نسخ، وأحرقها عن آخرها.
وبعد شعوره بهذا الفشل قرر السفر إلى الخارج، ولكن سرعان ما عاد مرة أخرى إلى سانت بطرسبورغ، وحاول ممارسة هواية التمثيل التي يعشقها، غير أن القائمين على المسرح الإمبراطوري لم تعجبهم طريقته العفوية في التمثيل، فرفضوا قبوله ضمن الممثلين في المسرح، وكان هذا ضربة قاضية أخرى له، لكنه نجح في الحصول على وظيفة، عرف من خلالها البيروقراطية في العمل.
أذهلته التناقضات الاجتماعية بين الأغنياء والفقراء، والوجهاء والحقراء، فواصل طريقه إلى ما يصبو إليه من تحقيق طموحاته الأدبية، ولم يثبط عن عزيمته عدم توفيقه في المرة الأولى، وقد أصر على أن يواصل التأليف الأدبي، معتمدًا في ذلك على معرفته، وخبرته الحياتية، وارتباطه بالحياة الريفية في أوكرانيا، فانكب على دراسة المصادر الأدبية، والأشعار الوطنية القومية، والتراث الشعبي، واهتم بحياة وأخلاقيات قوزاق أوكرانيا الذين يعشقون الحرية، واتبع المذهب الطبيعي. وقد لاقى هذا الاتجاه قبولًا لدى النقاد ومحبي الأدب في ذلك الوقت، فلم يتبع تصوير الحياة تصويرًا فوتوغرافيًّا، أو يسلك الكوميديا التافهة؛ بل خلق الكوميديا الرفيعة التي تتسم بالواقعية، وابتعد عن العاطفية والخيال.
سرعان ما أصبح غوغل معروفًا في الساحة الأدبية، فقد تأكدت موهبته في الكتابة بعد ظهور أول عمل إبداعي له، وهو “أمسيات قرية قرب ديكانكا”، وقد ظهر الجزء الأول عام 1831، والثاني عام 1832. بعد ذلك تعرف غوغل إلى بوشكين من خلال بليتنييف، الذي كان يصدر مؤلفات أمير الشعراء بوشكين. ومنذ تلك اللحظة أصبحت بينهما علاقة وطيدة، كان غوغل دائمًا ما يذكرها في مناسبات عدة. اكتشف بوشكين منذ الوهلة الأولى الموهبة التي يتمتع بها هذا الأديب الشاب، فاحتضنه، ووجد فيه آمال الأدب الروسي، وسرعان ما ضمه إلى مجموعة أصدقائه في الحقل الأدبي. وقد أوحى بوشكين إلى غوغل بمضمون مسرحية “المفتش العام”، و”الأرواح الميتة”، وقد أشاد غوغل بدور بوشكين في تشجيعه على المضي قدمًا في الكتابة على الدرب الذي اختاره لنفسه، وكان أول من يقرأ ما يكتبه، وكان بمنزلة المرشد له.
وكان بوشكين دائمًا يقول: “ليس هناك كاتب يتمتع بموهبته في تقديمه بكل وضوح لتفاهة الحياة، أو في استطاعته رسم تفاهة الإنسان، ويبين تلك الأشياء التافهة التي لا يهتم بها الإنسان العادي إذا نظر إليها، فيجعلها تتلألأ وتبدو جسيمة أمام أعين الجميع”. وقد رسخ بوشكين أقدام غوغل على طريق الواقعية، والتصوير النقدي للحياة اليومية للإنسان العادي في روسيا آنذاك، حيث أعطى “تحليلًا ميكروسكوبيًّا” لتلك الحياة، لكن غوغل تعرض للنقد اللاذع في أثناء حياته، وبعد وفاته؛ إذ عكست الآراء خلافات أيديولوجية واجتماعية وسياسية حادة للحياة الروسية.
تضم أمسيات “قرية قرب ديكانكا” ثماني قصص في جزأين، مستوحاة من تراث الشعب الأوكراني. ويتمثل المصدر الرئيس لكتابة الأمسيات في الأغاني والأساطير الأوكرانية، وكذلك حياة الشعب الأوكراني وعاداته. بيّن نيكولاي غوغل في “أمسياته” حرية القوزاق، وعدم اعترافهم بنظام الرق؛ إذ كانوا يمقتونه، ويألفون الحياة الحرة الطليقة، والأجواء التي تحيط بحياتهم نقية ونظيفة لا يشوبها أي نوع من أنواع الرق أو العبودية التي تفسد المجتمع، فهم يحافظون على التقاليد المحبة للحرية التي توارثوها عن أجدادهم. إلى جانب الحياة البهيجة والمرحة والفاتنة في أوكرانيا في “أمسياته”، صور غوغل نماذج أخرى من الكسالى والتافهين، وركز على النفوس العدائية التي تعكس صفو الحياة والعادات والتقاليد السلبية، والتي على سبيل المثال، الحصول على المال، سواء أكان حلالًا أم حرامًا، وكذا سيطرة الروح الشريرة التي تفسد حياة المحبوبين.
بعد الانتهاء من كتابة الأمسيات، وجّه كل اهتمامه إلى واقع أوكرانيا وروسيا الحديث، والمشكلات التي يعانيها المجتمع، وذلك إلى جانب البحث في تاريخ أوكرانيا في العصور الماضية، فصدرت له عدة مقالات نقدية واجتماعية، إلى جانب انشغاله القوي بالتاريخ، فقد كان يحلم بتدريس تاريخ أوكرانيا لطلاب الجامعة، وأخيرًا تحقق الحلم عام 1834.
بدأ بإلقاء محاضرات عن تاريخ العصور الوسطى، وأيضًا تاريخ العالم القديم، ونشرت له بعض هذه المحاضرات في المجلات المتخصصة. وكانت من بين المحاضرات التي ألقاها عن تاريخ العصور الوسطى محاضرة عن الخليفة المأمون، وكان بوشكين من بين الحضور، فمن المعروف أن بوشكين كان من المهتمين بمادة التاريخ، ليس فقط كقارئ، ولكن كمتعمق في أغواره، خاصة أن تراجيديا فشل انتفاضة الديسمبريين عام 1825 زادت من اهتمامه بالمصير التاريخي للشعب الروسي.
كشفت أحداث مسرحية “المفتش العام” عن غش المسؤولين، وسوء إدارتهم، وذلك في صورة ساخرة مفعمة بالفكاهة والضحك والاستهزاء، فهاجمته الصحافة الرجعية بسبب هذا الأسلوب الساخر من رجالات الدولة، فقد وصفهم غوغل بأنهم لا يستطيعون العيش دون نفاق، ولا يعملون إلا لمصلحتهم الشخصية، ويلهثون وراء الرشوة، ويتملقون السلطة للبقاء في أماكنهم الإدارية، وهو نموذج للنفاق الذكي، الذي يذكرنا بأبي زيد السروجي، بطل مقامات الحريري. ويتساءل الدكتور محمد يونس: هل اطلع غوغل على مقامات الهمذاني والحريري؟ ويجيب عن تساؤله بأن غوغل لم يعرف اللغة العربية، لكنه اطلع على الحضارة العربية، ودرس التاريخ العربي جيدًا، واحتمال معرفته بمقامات الهمذاني والحريري عن طريق لغات أخرى وارد وكبير.
نشر غوغل الجزء الأول من “الأرواح الميتة” عام 1841 بعد سفره خارج روسيا ورجوعه مرة أخرى، حيث تناول هذا الجزء التناقضات السائدة في المجتمع الروسي آنذاك، وبدء تحول روسيا إلى الرأسمالية بعد النظام الإقطاعي. وقد بيّن غوغل من خلال أبطاله جشع الرأسماليين وخستهم واستغلالهم للطبقات الكادحة، للحصول على الربح السريع، دون النظر إلى إنسانيتهم.
ونشر عام 1832 قصة “المعطف”، التي تحتل مكانة بارزة في أدبه القصصي، رغم اختياره بعضًا من النواحي الاجتماعية السلبية في روسيا آنذاك، فهي إحدى قصص غوغل التي تحكي عن “الإنسان البسيط”، ومعاناته من ظلم الطبقات الحاكمة وكبار موظفي الدولة، ومن بيروقراطية الجهاز الحكومي الخرب. تمثل قصة “المعطف” الاتجاه الواقعي الجديد الذي أرسى قواعده غوغل، والذي سار على هديه كبار كتاب كبار من بعده.
أراد غوغل في قصة “المعطف” أن يثير لدى القراء المشاعر الإنسانية، وضرورة احترام بعضنا لبعض دون النظر إلى الفوارق الاجتماعية. ويدعو الكاتب -بأسلوبه البليغ- إلى إصلاح الأجهزة الحكومية، وذلك بالقضاء على البيروقراطية والمحسوبية، وإنزال العقاب على كل من يهمل في أداء واجبه تجاه الآخرين، وكذلك يدعو إلى محاربة ظاهرة النفاق التي أدت إلى تفشي الفساد في البلاد.
تحمل قصة “المعطف” أهمية كبيرة؛ فهي تثير لدى القارئ الوجدان الإنساني السامي، وحب الآخرين، وتربي فيه عدم الخنوع والاستكانة، وضرورة الاحتجاج ضد كل من يسعى إلى إهانة الإنسان.
تجدر الإشارة إلى أن من بين المؤلفات التي كتبها غوغل “مختارات من مراسلات الأصدقاء”، التي من خلالها تكشف أمورًا مهمة؛ لما كان يعانيه الكاتب من أزمات نفسية وفكرية بسبب ما يسود في مجتمعه من تخلف وعبودية، واستخفاف بمقدرات السواد الأعظم من الشعب، وعدم احترام إنسانية الإنسان، في الوقت الذي كانت تعيش فيه أوروبا حياة تقدم ورفاهية، واحترام للإنسان؛ مما أدى في النهاية إلى إحساسه بالتشاؤم، وانتهى إلى اعتقاده أن الإصلاح لا بد أن يتأتي عن طريق “إصلاح الذات” ومحاسبتها، فالإنسان يجب أن يراقب نفسه، وأن يكون مخلصًا في عمله، وما دامت ذاته قد انصحلت فسوف ينصلح المجتمع عامة. وقد ازداد اقتناعًا بهذا المبدأ بعد تأديته فريضة الحج إلى بيت المقدس عام 1848، وعاد متصوفًا إلى بلاده، متنقلًا بين بطرسبورغ وموسكو وأوديسا، إلى أن توفي عام 1852 تاركًا وراءه إنتاجًا يتميز بالواقعية النقدية، التي كان أول من وضع أسسها في الأدب الروسي.
يذهب البعض إلى القول إن والي مصر، وباني نهضتها الحديثة، محمد علي، قد أُعجب بشخصية القيصر بطرس الأكبر، مؤسس روسيا الحديثة؛ فقد أشار بوتسكي، في كتابه “تاريخ الأقطار العربية الحديثة”، إلى أن محمد علي باشا لم يكتفِ بإنشاء القوات البرية؛ بل انكب على دراسة إصلاحات بطرس الأكبر بدقة، وكان يحلو له مقارنة نفسه بهذا المصلح الروسي العظيم.
ما إن تسلم محمد علي مقاليد الحكم في مصر حتى شرع في القيام بالإصلاحات الزراعية في مصر خلال الفترة من عام 1808 إلى عام 1814، وفي مقدمتها تقويض سلطة الملتزمين، ووضع يده على الأراضي التي كان المماليك يمتلكونها، إذ أصبحت ملكًا للدولة، وأخذ في توزيع هذه الأراضي على المقربين إليه. تصادم أيضًا محمد علي مع رجال الدين، فاستولى على أملاك الأوقاف، وأخذت الدولة من جانبها في الإنفاق على رجال الدين وصيانة المساجد بدلًا من أن تكون هذه الأموال تابعة فقط لرجال الدين؛ مما أغضبهم، وأصبحوا من أكبر معارضيه، وكان موقفهم منه مماثلًا لموقف المماليك.
تلك السياسات التي انتهجها محمد علي تجاه أعدائه المماليك، تذكرنا بسياسة قيصر روسيا بطرس الأول، الملقب بالكبير أيضًا، الذي اعتمد في سياسته على طبقتي النبلاء والتجار، إذ قلص دور الإقطاعيين الذين كانوا يمتلكون الأراضي الشاسعة الخصبة بمن عليها من فلاحين، وكذلك قلل من شأن رجال الدين. وكما حدث للمماليك في مذبحة القلعة، حدث أيضًا للقناصة الذين وقفوا إلى جانب صوفيا، أخت بطرس الأكبر، التي كانت تحاول أن تنتزع الحكم.
من أجل بناء الدولة المصرية أدرك محمد علي الكبير ضرورة تكوين جيش نظامي قوي من الفلاحين المصريين للقضاء على أعدائه، ولتأمين حدود بلاده من أي عدو خارجي، ولتحقيق استقلالها القومي، وتنفيذ طموحاته التوسعية. لم تكن نجاحات محمد علي الحربية محض مصادفة؛ بل تطلبت استعدادات ضخمة في بناء جيش قوي، وترسانة بحرية حديثة لبناء السفن.
كل ذلك يذكرنا بإصلاحات بطرس الأكبر في أوائل القرن الثامن عشر، حيث أدخل كل ما هو جديد وضروري لتقدم البلاد في جميع مناحي الحياة، فقد أعطى دفعة قوية لتطوير الصناعة، خاصة صناعة التعدين، وأبرم كثيرًا من الاتفاقات التجارية بين روسيا ودول أوروبا الغربية، وأنشأ جيشًا قويًّا، وترسانة بحرية، استطاع بهما “فتح نافذة على أوروبا”. كما استعان بطرس الأكبر بالخبراء الأجانب في بداية حكمه، واستعان محمد علي الكبير أيضًا بالخبراء الأجانب.
كما انتهج بطرس الأكبر سياسة تعليمية قائمة على نقل علوم أوروبا الحديثة بإرسال خيرة الشباب الذين يتمتعون بالذكاء، دون النظر إلى أي طبقة ينتمون، فمنهم من سافر إلى فرنسا وإنجلترا وهولندا، وكان من بين الذين سافروا إلى فرنسا إبراهيم هانيبال؛ جد الشاعر الروسي ألكسندر بوشكين. ولا ننسى في هذا المقام أن نشير إلى أن محمد علي الكبير قد سمح للشيخ محمد عياد الطنطاوي بالسفر إلى روسيا عام 1840 للعمل مدرسًا للغة العربية في مدرسة وزارة الخارجية الروسية.
حرص إمبراطور روسيا على إنشاء مطبعتين في بطرسبورغ لنشر المعرفة، ولمحو الأمية، كما أمر بفتح مطبعة بالحروف العربية من أجل نشر المباحث العلمية والترجمات، ونلاحظ أيضًا أن محمد علي الكبير أنشأ دارًا للطباعة في حي بولاق، تطبع الكتب باللغة العربية، والفارسية، والتركية.
إذا كان بطرس الأكبر قد أصدر أول صحيفة في روسيا، وهي “فيدامست” (الوقائع) عام 1703؛ لكي يعرف الشعب الروسي الإصلاحات التي كان يقوم بها القيصر، وما تتخذه الدولة من المراسيم واللوائح والقوانين والقرارات؛ فقد أصدر محمد علي الكبير كذلك أول صحيفة، وهي “الوقائع المصرية” عام 1828، وكانت تصدر في البداية باللغتين العربية والتركية، ثم اقتصرت فيما بعد على اللغة العربية، وفيها تنشر أخبار الدولة، ودواوينها، ومصالحها.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه إذا كنا قد تناولنا إيجابيات كل من قيصر روسيا ووالي مصر، فعلينا أن نذكر سلبياتهما، ومنها أنهما كانا يمارسان أساليب القسوة والتنكيل والتعسف، والقضاء على كل أعدائهما ومن يقف في طريق إصلاحاتهما، التي تمثلت في “مذبحة المماليك”، و”مذبحة القناصة”، فنرى قمع بطرس الأكبر للانتفاضات الشعبية التي قامت في أسترخان في عامي 1705و1706، وفي الانتفاضة الكبرى بزعامة بولافين عامي 1707و1708 على نهر الدون، وكذلك قمع محمد علي الكبير الانتفاضات الشعبية التي حدثت عام 1822 في القاهرة، وعام 1823 في المنوفية، وعام 1824 في الصعيد، وعام 1826 في بلبيس.
هناك فريقان لتقييم فترة حكم كلتا الشخصيتين، أحدهما يشيد بما قام به كل من بطرس -إمبراطور روسيا- ومحمد علي -والي مصر- من إصلاحات لخدمة بلديهما، والآخر يقلل من شأنهما، زاعمًا أن كلا منهما يسعى إلى الشهرة والمجد الشخصي، دون النظر إلى مصلحة شعبيهما.
وبذلك أنشأ بطرس الأكبر دولة قوية مستقلة ذات نفوذ بين الدول الأوروبية الكبرى، وكذلك استطاع محمد علي الكبير أيضًا إقامة دولة مصرية ذات سيادة، دون تدخل من دول أخرى، ولم يحمّل مصر دينًا لدولة أجنبية، ولم يقع فيما وقع فيه خلفاؤه من استدانة، وفتح ثغرات التدخل الأجنبي في شؤون البلاد.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.