الغضب الذي أعقب تهديد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بقطع العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي لم يكن مبررًا، ويبدو حقًّا مبالغًا فيه: «لم يكُن هناك ما يمكن الحديث عنه بين روسيا وأوروبا منذ عام 2014».
أطلق الإحراج الدبلوماسي الذي تعرض له جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، في موسكو العنان لمشاعر كلا الجانبين تجاه مستقبل العلاقة بين روسيا وأوروبا، والتي كانت تتراكم أسباب تراجعها لفترة طويلة، وكان من المحتَّم أن تتفجر في نهاية المطاف. تسميم الناشط المعارض أليكسي نافالني وسجنه، كان فقط السبب وراء التعجيل بهذه المناوشة. لكن السؤال الأساسي هنا: “هل الاتحاد الأوروبي هو الخيار الوحيد حقًّا لتنظيم الفضاء السياسي والاقتصادي في أوروبا، وللعمل كمعيار أخلاقي وسياسي لشركائه الخارجيين؟”
تم وضع أسس علاقات روسيا مع الاتحاد الأوروبي في النصف الأول من التسعينيات من خلال اتفاقية الشراكة والتعاون، التي تم توقيعها في عام 1994، وتم التصديق عليها في عام 1997، من الناحية المفاهيمية، فقد استندت هذه الاتفاقية إلى فرضية تم التسليم بها، تدعي أن نهاية الحرب الباردة، قد خلقت فرصًا لتوطيد العلاقات بالعالم القديم، والذي حسب المفهوم الليبرالي، يمتد إلى أقصى الشرق والجنوب قدر الإمكان، والقائم على أساس المعايير والقواعد التي تم تطويرها وصقلها في أوروبا الغربية أثناء تكامل المنطقة من الخمسينيات إلى التسعينات من القرن العشرين.
تم قبول العديد من الدول السوفيتية السابقة المستقلة حديثًا في الاتحاد الأوروبي، الذي نما من اثني عشر دولة عضوًا في عام 1992 إلى 28 دولة في عام 2015. ودُعيت البقية ليكونوا جزءًا من «أوروبا الأوسع» مع عدم وجود خيار ثالث مطروح – إما داخل الاتحاد الأوروبي أو خارجه.
لم يكُن احتمال انضمام روسيا مطروحًا على الإطلاق. مع ذلك، كان يُعتقد أنها ستتحول بعد الشيوعية لاتباع النموذج الأوروبي، وهو ما سيجعل البلاد متوافقة إلى حدٍّ ما مع الاتحاد الأوروبي، والذي ستشكل معه روسيا وفق هذه الرؤية تكتلًا، لكنه لم تكُن له ملامح واضحة.
شاركت موسكو هذا المنظور في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. حتى بعد ذلك، حاولت التوفيق بين هذا التوقع واختلافه الواضح بشكلٍ متزايد مع الاتحاد الأوروبي، ومن هنا جاء الحوار السياسي المكثف رفيع المستوى الذي انخرط فيه الطرفان حتى عام 2014: «امتياز منحه الاتحاد الأوروبي لروسيا وحدها». للتأكيد على رغبتها في تحسين العلاقة وتطويرها، ألحت موسكو على عقد قمتين في السنة، في الوقت الذي كانت تعقد فيه بروكسل، مؤتمر قمة واحدًا فقط كل عام مع أهم شركائها.
كان المنطلق من وراء كل هذا هو أن التكامل الأوروبي، وسيلة لتنظيم الفضاء السياسي في أوروبا. وبغض النظر عن تطبيقه الناجح في أوروبا الغربية فقد كان متوافقًا بشكل مثالي مع فكرة النظام العالمي الليبرالي المنتصر بعد الحرب الباردة. أدى افتقار أوروبا إلى القوة الصارمة التقليدية، إلى اعتمادها على أدوات أخرى، وعلى رأسها التوسع المعياري والشرطية – أي مطالبة الشركاء بتغيير ممارساتهم في مقابل الوصول إلى الامتيازات (أي لا يمكن قبول أي شيء ما لم يكن متسقًا مع المبادئ الليبرالية).
يعد تطور العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا من الفجر المأمول في أوائل التسعينيات إلى غروب الشمس اليائس في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أحد أكثر الأحداث كشفًا في تاريخ التحول العالمي بعد الحرب الباردة. منذ أن فقدت فكرة الشراكة المؤسسية المكونة من أوروبا وروسيا أهميتها (لم يتم اتخاذ خطوات عملية لتحقيق هذه الغاية منذ أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين) كانت المبادئ الأصلية للعلاقة بلا معنى.
تمثل محاولة الشراكة المؤسسية هذه، تتويجًا لنحو 200 عام من الجهود التي بذلتها إحدى المدارس الفكرية في روسيا لتغريب البلاد. لأول مرة، رأى أتباع النهج الغربي فرصة لتغيير طبيعة علاقات روسيا مع الغرب نوعيًّا، لكن أثناء هذه المحاولة، اتضح لأصحاب هذا الاتجاه أن محاولتهم هذه تعني «خيانة» روسيا. لم يقصد المُتغربون في روسيا مطلقًا أن تخضع بلادهم رسميًّا لقواعد وأنظمة أوروبا، حتى عندما دفعوا باتجاه التحديث والتعاون النشط مع أوروبا ومحاكاة أساليبها. مع ذلك، كان هذا هو بالضبط ما طلبته أوروبا من روسيا بعد العام 1992.
أدت تجربة أوروبا مع تحولها إلى التوحيد السياسي، إلى طرح إطارها المعياري إلى الخارج، والذي يفترض وجود علاقات هرمية بين الاتحاد الأوروبي وجيرانه المباشرين. منذ البداية، كان من المتوقع أن تتعاون روسيا ليس فقط مع الاتحاد الأوروبي، ولكن تعمل أيضًا على تطوير مؤسسات مشتركة في علاقاتها مع روسيا، لم توافق أوروبا على التراجع عن إصرارها على ضرورة اتباع قواعدها وقيمها.
لو قررت موسكو أن تصبح جزءًا من «أوروبا الموسعة» لكانت التنازلات التي كان من المتوقع أن تقدمها مبررة، لكن أصحاب الاتجاه الغربي الروس فشلوا في إقناع الدولة بمزايا تقييد سيادتها نوعيًّا من أجل فقط اتباع النموذج الأوروبي.
اليوم، يجد الطرفان نفسيهما غاضبين بشدة من بعضهما البعض، وعلاقاتهما السياسية غير موجودة فعليًّا. يمكن القول إن قضية نافالني قد كشفت عن التناقض المركزي لصراع روسيا مع الاتحاد الأوروبي: «سبب جميع العقوبات والتوترات السياسية هو السياسة الداخلية لروسيا».
إذ أكدت المؤسسات الأوروبية وممثلوها في انتقاداتهم لمعاملة نافالني، على استخدام روسيا المزعوم لعوامل الحرب الكيماوية لتسميمه، مع التأكيد على المخاطر التي يشكلها تداولها من قبل أشخاص مجهولين، يمكن التعامل مع هذه القضية على أنها مسألة دولية مثيرة للقلق. كما هو الوضع الآن فإن اعتراضات أوروبا تتعلق في المقام الأول بانتهاك المعايير والحقوق والحريات الديمقراطية داخل روسيا، والتي يؤكد الاتحاد الأوروبي أنه لا يمكنه تحملها أو السكوت عنها.
من السهل فهم موقف بروكسل من منظور منطق «أوروبا الموسعة». لكن هذا المنطق لم يكُن له مكان طويل في علاقات روسيا مع الاتحاد الأوروبي الحقيقة هي أن حوارهم السياسي من مخلفات حقبة ماضية. لقد تغير كل شيء، من روسيا وأوروبا إلى الغرب والعالم الأوسع. كما لم يعُد النظام العالمي الليبرالي قادرًا على التمدد أكثر مما هو عليه الآن.
إن حسم موسكو في كيفية استجابتها لمحاولات الاتحاد الأوروبي للضغط على روسيا بشأن نافالني يدل على ثقتها في أنه ليس لديها ما تخسره في علاقاتها مع أوروبا، وهي تعتقد بشكل متزايد أن الاتحاد الأوروبي يمر بتغييرات لا رجعة فيها، ونتيجة لذلك لن يكون له النفوذ الذي كان يتمتع به منذ خمسة عشر إلى عشرين عامًا.
في ذلك الوقت، بدا أن الاتحاد الأوروبي سيصبح لاعبًا عالميًّا على قدم المساواة مع الولايات المتحدة والصين، وسيشكل بشكل أحادي ليس أوروبا فحسب، بل أيضًا جزءًا كبيرًا من أوراسيا. من الواضح الآن أن مثل هذا الهدف غير ممكن: «ليس فقط في أوراسيا ولكن في أوروبا أيضًا، حيث أصبح من الممكن تصور وسائل بديلة لتنظيم الفضاء السياسي والاقتصادي للقارة».
عندما يتعلق الأمر بالعلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، إذن، فإن الإطار القديم لا يمكن وصفه بأنه قد عفا عليه الزمن فحسب، بل قد يكون ضارًّا لأنه يخاطر بإثارة صدامات جديدة. بمجرد أن يصبح الاتحاد الأوروبي وروسيا جاهزين، كما سيكون الحال في نهاية المطاف، سيكونون على موعد مع إطار عمل جديد: يُعطي دفعة جديدة للتعاون بين الاتحاد الأوروبي وروسيا على أساس التفاهم، أما في ظل الوضع المؤسسي الحالي فالأمر برمته لا يستحق المتابعة.[1]
ترجمة: وحدة الرصد والترجمة في مركز الدراسات العربية الأوراسية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير