بالعودة إلى التسعينيات، عندما خرجت روسيا الحديثة من رماد الاتحاد السوفيتي، كان الغرب هو الأفضل ومن يمتلك النموذج الواقعي الوحيد. لقد تغيَّر الزمن، لكن بروكسل وواشنطن، لم تدركا بعض تراجع هذه العملة.
اليوم، تغير الوضع بشكل كبير. من الأمثلة الجيدة على ذلك كيف ردت روسيا على الانتقادات في ضوء قضية أليكسي نافالني. في السابق، عندما واجهت مواقف مماثلة حول شركة يوكوس (عملاق النفط والغاز التي تم الحصول عليه عن طريق الاحتيال من قبل الأوليغارشيين في التسعينيات) أو عند توقيف أنشطة فرقة (بوسي ريوت – «المهبل المتمرد») أو أي قضية أخرى، حاولت موسكو تبرير تصرفاتها أمام الغربيين الباحثين عن الأخطاء باستخدام أسلوبهم الخاص في النقاش – حتى على الرغم من أن المسؤولين الروس في بعض الأحيان قد يكونون قاسين للغاية وعاطفيين عند عرض قضيتهم.
الآن، الأمر بات مختلفًا. يتم تجاهل التعليقات الانتقادية للغرب أو السخرية منها. لقد تغيرت روسيا، ولكن يبدو أن التحولات الأكبر في الشؤون العالمية هي جزء من تفسير هذا التغير.
لقد وصل النظام العالمي الليبرالي المتجذر في قوة المؤسسات والمعايير إلى نهايته. لقد كان نموذجًا يحتذى به بمعاييره الاجتماعية والسياسية الخاصة التي يُعتقد أنها عالمية. الآن لم يعُد هذا هو الحال. اليوم، تُحدد كل أمة تقريبًا مسارًا سياديًّا مختلفًا لنفسها، وتسعى إلى اكتساب المزيد من السيطرة السياسية والاقتصادية والأيديولوجية محليًّا.
أثار اعتقال أليكسي نافالني ضجة في الغرب، حيث دعا العديد من الشخصيات السلطات الروسية إلى التراجع عن القرار على الفور. إذا تركنا ظروف القضية والمحاكمة للمحللين الآخرين، فسنركز بدلًا من ذلك على التأثير المحتمل للضغط الدولي في البيئة العالمية الحالية، بالنظر إلى الموقف الصريح الذي طرحه كلٌّ من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
الحقوق والحريات غير القابلة للتصرف التي تشمل معايير العدالة مذكورة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1948. وقد تم تكريس الالتزام باحترام هذه الحقوق والحريات في قانون هلسنكي الختامي لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا الموقع في عام 1975.
في كلتا الحالتين عدد الموقعين كبير. كان للوثيقتين بالتأكيد تأثير على الشؤون الدولية وسياسات الدول الفردية؛ حتى إن البعض يقول إنه من خلال الموافقة على الأجندة الإنسانية في اتفاقيات هلسنكي، أو بالأحرى السماح لها بالارتباط بالإطار العسكري والسياسي، وضع الاتحاد السوفيتي بنفسه قنبلة موقوتة ساهمت في انهياره من الداخل بعد عقد ونصف.
على أي حال، فإن المحصلة النهائية هي أن مذكرة الحرب الباردة التاريخية وضعت قائمة بالمعايير الإنسانية دون أي ترتيبات لكيفية فرض تنفيذها. كانت أي إشارات إلى أشكال معينة لوضعها موضع التنفيذ مفقودة أيضًا. بعبارة أخرى، يمكن للبلدان من مختلف المعسكرات السياسية استجواب وإدانة بعضها البعض، لكن في الواقع، ما زالوا يدركون أن خصومهم يحق لهم اتباع سياساتهم الخاصة، دون وجود آليات للمحاسبة.
قلبت نهاية الحرب الباردة كفة الميزان، ومكّنت الغرب من الدفع باتجاه المبادئ العالمية على غرار تعاريفه الخاصة وأشكال التعبير الخاصة به. أحد الأمثلة على مثل هذا الضغط هو الاقتراحات بأن روسيا قد انتهكت التزاماتها تجاه مجلس أوروبا، لا سيما فيما يتعلق بحقوق الأقليات الجنسية. كان رد موسكو واضحًا: «تلك المزاعم لا تشير إلى الالتزامات التي تم التعهد بها في عام 1996، عندما انضمت روسيا إلى الهيئة الدولية، بل إنها تكشف عن الرواية السياسية والأيديولوجية التي شكلتها الدول الرائدة في الغرب». كما تصر موسكو على أن بإمكانهم تفسير الأحكام الأساسية على النحو الذي يرونه مناسبًا، لكن ليس لهم الحق في فرض تعريفاتهم على الآخرين.
أصبحت الأنماط الإنسانية التي ظهرت في السياسة الغربية جزءًا لا يتجزأ مما يُعرف باسم «النظام العالمي الليبرالي». الذي ساد دون تغييرات كبيرة لمدة ربع قرن – منذ نهاية الحرب الباردة حتى منتصف عام 2010. على الرغم من أنه لم يتم قبوله عالميًّا، لم تكُن هناك محاولات دراماتيكية لمراجعته في الواقع، لم يكُن هناك نفوذ حقيقي أو حافز حقيقي لتحديه أو دفعه نحو تجريد الدول من السيطرة السيادية على القواعد وتسليمها إلى المستوى فوق الوطني.
من الناحية الاقتصادية، كانت هذه الاتجاهات مدعومة بالعولمة. أخلاقيًّا، تم تبريرها من خلال إجماع واسع على أن التدخل في الشؤون الداخلية لبعض الدول، يُعد أمرًا شرعيًّا إذا انتهكت المعايير الإنسانية أو القانونية. ومع ذلك، فشلت محاولات تقديم إطار قانوني لهذا المفهوم في الأمم المتحدة؛ لأن الأطراف لم تتفق على دوافع مثل هذا التدخل.
مع ذلك، فقد ثبت أنها طريقة فعالة إلى حدٍّ ما لممارسة التأثير على الحكومات الأجنبية. من أجل الجدل، دعونا نترك التدخلات العسكرية جانبًا ونركز على الوسائل الأخرى الممكنة، مثل الضغط السياسي والاقتصادي الذي تبرره عادةً الحاجة إلى دعم قيم معينة، وكان على الدول المُستهدفة إما تعديل سلوكها أو على الأقل اتخاذ موقف دفاعي، وبالتالي الاعتراف بشرعية هذه الهجمات عليها.
في ظل النظام العالمي الليبرالي، كان يُنظر إلى هذه المطالب على أنها مجموعة من القواعد التي لا يمكن تجاهلها ببساطة. لذا فإن هذه المبادئ التوجيهية عملت بالفعل كأداة سياسية، ولكن فقط داخل النظام العالمي الليبرالي. كان يُعتبر في الأساس الخيار الوحيد الممكن وخيارًا بدون أي عيوب كبيرة، على الرغم من أنه غير مناسب للبعض ومن الصعب استيعابه لدى البعض الآخر. قال كبار المسؤولين الروس والرئيس بوتين عدة مرات إن روسيا تسعى لتحقيق نفس الأهداف مثل الدول الغربية المتقدمة، لكنها لا تريد أن يدفعها الآخرون لذلك، بل أن تمنحها المساحة والوقت للقيام به على طريقتها الخاصة.
لكن السؤال هنا: ماذا حدث؟ بدأت المعايير الليبرالية في التآكل لسببين
أولًا: عززت البلدان ذات الثقافات والتقاليد غير الغربية مواقفها، وباتت تتمتع الآن بدور أكثر أهمية في الشؤون العالمية. لم تعد تريد اللعب وفقًا للقواعد التي وضعها الغرب ذات مرة.
ثانيًا: أدت التغييرات المعقدة والواسعة النطاق في المجتمعات الغربية الرائدة إلى تقويض جاذبيتها كنموذج يُحتذى به للآخرين.
نتيجة لذلك، لدينا اليوم الشكل القديم الذي يُخفي المحتوى الجديد. لم يعد سرد القيم الليبرالية وحقوق الإنسان والحريات عالميًّا لأن الكثيرين لا يشاركونه الآن. لقد تحولت هذه «القيم» إلى أداة سياسية بحتة، وعواقب مخالفتها في بعض الأحيان مسلية إلى حدٍّ ما.
هذا مثال جيد. أجرى مستشار الأمن القومي السابق لترامب، جون بولتون، مقابلة في اليوم الذي تمَّ فيه تحويل عقوبة نافالني مع وقف التنفيذ إلى السجن الحقيقي. بولتون، القومي الأمريكي المخلص الذي يدعم علانية أيديولوجية اليمين المتطرف، بالكاد يستطيع أن يصبح نصيرًا لحقوق الإنسان والحريات. مع ذلك، تحول إلى ناشط حقوقي في تلك المقابلة.
مثال آخر، ربما يكون أكثر توضيحًا، هو كيف استجابت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وإن كان بدرجة أقل لقرار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، بحظر ثلاث قنوات تلفزيونية معارضة في كييف بين عشية وضحاها للاشتباه في تقويضها لسلطة الدولة. المثير للدهشة أن الغرب رحَّب بهذه الخطوة على نطاقٍ واسع.
الآن، لنتخيل أن الكرملين قام بنفس الخطوة، وقام بسحب القابس من على الوسائط الرقمية المستقلة. ستقول واشنطن وبروكسل العكس تمامًا يمكن للمرء أن يقول إن هذه حالة معايير مزدوجة، بينما في الحقيقة لم يعُد هناك معيار على الإطلاق. الآن النفعية السياسية هي الدافع الرئيسي وراء كلٍّ من الثناء والتقريع. ربما ليس من قبيل المصادفة أن نفس هذا النوع من التحول قد حدث في السياسة المحلية في العديد من البلدان، وخاصة في الولايات المتحدة.
تمَّ الكشف بوضوح عن الهوة بين سياسات العصر الليبرالي والواقع الحالي خلال الزيارة الأخيرة للممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل إلى روسيا. كالعادة، كانت هناك بعض التوقعات الإيجابية. لكن للأسف، أثبتت الزيارة فقط أن هناك فجوة كبيرة بين موسكو وبروكسل لا يمكن سدها بالدبلوماسية التقليدية. لا يوجد إطار عمل مشترك للتفاعل، على الرغم من أننا منافسون أو حتى خصوم. ما نراه هو عدم تطابق تام في الطريقة التي يتصرف بها الطرفان ويحكمان ويفهمان بها القيم والأخلاق.
ربما بسبب هذا الجمود المريح، يتمسك الاتحاد الأوروبي بفكرة أن حالة النظام الإنساني والسياسي في روسيا وتوافقها مع المعايير الأوروبية يجب أن تظل واحدة من النقاط الرئيسية على جدول الأعمال الثنائي. إنه ارتداد للعلاقة التي نشأت في التسعينيات، والتي بموجبها ستتبنى روسيا تدريجيًّا المعايير المذكورة أعلاه ثم تنضم إلى الجهود (لم يتم تحديد الترتيب الدقيق بالتفصيل أبدًا) من أجل مشروع مشترك.
على مدار العقدين الماضيين، تلاشت فكرة مثل هذا المشروع، بينما تغيرت روسيا والاتحاد الأوروبي كثيرًا، حيث سارتا في اتجاهات مختلفة تمامًا. مع ذلك، لا يزال هذا الموقف مستمرًّا، واليوم لا يزال الأوروبيون يُصرون على أن تغيِّر روسيا بعض سياساتها المحلية التي تعتبرها بروكسل غير مقبولة.
في الوقت نفسه، رفضت روسيا بشدة وصراحة ليس النقد فحسب، بل رفضت أيضًا فكرة وجود معيار خارجي أو نمط حكم خارجي يجب اتباعه وطاعته هذا هو السبب في أن روسيا لم تعُد تقدم إجابات أو تفسيرات بعد الآن، ولكنها تتجاهل بشكلٍ واضح مثل هذه التحركات وتسلِّط الضوء على أنها ليست حتى سياسية، بل تزييف من الناحية الأخلاقية.
تعتبر موسكو جهود الاتحاد الأوروبي لإعادة الجانب المتعلق بالقيم في علاقاتنا الثنائية أكثر من مجرد أداة لممارسة الضغط السياسي. حيث ردت وزارة الخارجية بشكلٍ حاسم قائلة إنها ستطرد الدبلوماسيين من بولندا والسويد وألمانيا الذين شاركوا في الاحتجاجات الأخيرة في موسكو. الرسالة واضحة «من غير المقبول أن يشارك ممثلو الدول الأخرى في الشؤون الداخلية لروسيا بأي شكل من الأشكال، حتى ولو لمجرد المراقبة».
مع ذلك، لا يوجد نموذج آخر مقبول للطرفين لعلاقاتنا. من المستحيل العودة إلى شكل التفاعل الذي كان قائمًا أثناء الحرب الباردة في هذه المرحلة على الأقل. كما قلت، قد يعني ذلك الاعتراف بأن نظيرك مؤهل لممارساته السياسية الخاصة، وهو ما لا يريد الغرب القيام به بعد ثلاثة عقود من استخدام نهج عالمي للقيم.
السبب الثاني هو أن روسيا لا يزال يُنظر إليها على أنها لاعب ضعيف إستراتيجيًّا ومن المحتمل أن يكون غير مستقر على المستوى الدولي، وستبدأ قوته حتمًا في التضاؤل قريبًا. لذا فإن الاعتراف بحق روسيا في أن يكون لها مجموعة مختلفة من القيم عطاء سخي للغاية لا لزوم له. لا تعتبر المقايضات القائمة على المساواة الطريقة الصحيحة لضبط العلاقات؛ لأنه على عكس ما كان منذ 40 عامًا، لا يوجد توازن للقوى.
يبدو الوضع الحالي غير سار؛ لأنه لا توجد آلية لمواءمة مصالحنا
لكن إذا أردنا إيجاد أساس جديد للحوار، فنحن بحاجة إلى تقليل تفاعلنا، إن لم يكُن إيقافه تمامًا.
بعد ذلك سوف يتضح ماذا تمثِّل روسيا والاتحاد الأوروبي أو روسيا والولايات المتحدة، من حيث الأهمية الحاسمة لبعضهما البعض، وهناك مناطق أقل مما قد يبدو. بالإضافة إلى ذلك، قد تفقد توقعات أواخر القرن العشرين زخمها أخيرًا. في هذه المرحلة، من شبه المؤكد أن تؤدي الاتصالات السياسية إلى عداء أقوى؛ وهو أمر يجب أن نسعى إلى تجنبه، فهناك الكثير من العداء بالفعل.[1]
ترجمة: وحدة الرصد والترجمة في مركز الدراسات العربية الأوراسية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير