بعد مرور نحو شهر على رحيل نظام بشار الأسد، وتولي الإدارة الجديدة، بدأت التحديات الداخلية والخارجية تطل برأسها. ورغم وجود تعاطف ودعم كامل من الدول العربية والمجتمع الدولي مع تطلعات الشعب السوري فإن هناك خوفًا بشأن مستقبل سوريا، خاصةً ما يتعلق بوحدة أراضيها، وسعي البعض -مثل إسرائيل- إلى تقسيمها و تفتيتها. وهناك قلق من دخول سوريا دائرة الانتقام والقتل خارج إطار القانون، أو احتكار السلطة وإقصاء مجموعات لصالح مجموعات عرقية أو دينية أخرى.
لكن رغم كل هذه المخاوف، فإن هناك إيمانًا بوجود فرصة حقيقية لعودة سوريا عنصرًا فاعلًا في معادلة الأمن القومي العربي، وتقديم نموذج في الانتقال السلس والآمن للسلطة، وأن تنتقل سوريا من “الساحة” إلى “الدولة”، وذلك من خلال رسم “خريطة طريق واضحة” للمرحلة المقبلة تبدأ بحوار وطني، ووضع الدستور؛ للانتقال من الشارع إلى “المؤسسات”، ويعزز هذه الآمال تصريحات الإدارة الجديدة بقيادة أحمد الشرع، التي أظهرت وجهًا سياسيًّا معتدلًا تجاه كل المكونات واللاعبين في الساحة السورية. وهناك 10 تحديات رئيسة تنتظر سوريا في المرحلة المقبلة، وأبرز هذه التحديات هي:
منذ اندلاع الأحداث في سوريا في مارس (آذار) عام 2011، بدأ بعض الضباط بالانشقاق عن الجيش السوري، خاصة من الطائفة السنية، وتشير التقديرات إلى أن هناك نحو 7 آلاف ضابط من رتب ودرجات مختلفة انشقوا عن الجيش السوري السابق على مدى نحو 13 عامًا من الصراع بين الجانبين، وهؤلاء حتى الآن ليس لهم وجود أو مكان في الإدارة الجديدة، وكشف كثير منهم، مثل العميد أحمد رحال -الذي انشق مبكرًا عن النظام السوري- عن عدم تواصل إدارة أحمد الشرع معهم، ويدور الحديث الآن عن دمج الفصائل المسلحة التي شاركت في إسقاط الأسد لتكون نواة الجيش السوري الجديد وعماده، وهو تحدٍّ لا يمكن معرفة المدى الذي يمكن أن يصل إليه هؤلاء الضباط في معارضتهم للإدارة الجديدة بقيادة أحمد الشرع؛ ولهذا فإن هناك دعوات لدمجهم، وعدم استبعادهم من الجيش الجديد، لكن في الوقت نفسه يعتقد قادة الفصائل المسلحة الذين أطاحوا بالأسد أن وجود هؤلاء الضباط قد يزاحمهم في المناصب الجديدة بالجيش.
تواجه الإدارة الجديدة في سوريا تحديًا من نوع خاص، يتمثل في رفض بعض المكونات السياسية والشعبية تسليم أسلحتها، فرغم قبول نحو 19 ألف مسلح تابعين للنظام السابق تسوية أوضاعهم، وتسليم ما لديهم من سلاح، فإن التقديرات تقول بوجود كميات ضخمة من السلاح الثقيل والمتوسط بين أيادي كثير من المكونات السورية التي ترفض تسليم هذا السلاح للإدارة الجديدة؛ لأنها تشعر أنها تعيش في “اللا دولة” كما قال الشيخ حكمت الهجري، زعيم طائفة الدروز الموحدين في محافظة السويداء. كذلك الأمر “لغرفة عمليات الجنوب” التي توجد في محافظات درعا والسويداء، والتي رفضت دخول أرتال مسلحة تابعة لحكومة الشرع إلى مناطقهم. وحال عدم السرعة في تشكيل جيش وطني يمثل كل المناطق، سوف يظل هذا السلاح خارج سيطرة الدولة كما كان في عهد النظام السابق الذي سمح ببقاء هذا السلاح في ظل سياسة “التسويات” التي كان يقوم بها بشار الأسد بداية من عام 2018، والتي جعلت مساحة كبيرة من الأراضي، وكميات من السلاح الخفيف والمتوسط والثقيل، خارج سيطرة الدولة، خاصةً في محافظات الجنوب، وحلب، وإدلب، والحسكة.
قبل عام 2011، لم تكن القضية الكردية تشكل مشكلة كبيرة للنظام السوري كما كانت الحال حينذاك لأكراد العراق، وكان نحو مليون كردي يعيشون في دمشق، ويتركزون في حي ركن الدين، بالإضافة إلى أعداد كبيرة أخرى في أحياء الشيخ مقصود والأشرفية في حلب، وحصل عدد كبير من الأكراد على مناصب رفيعة في الجيش والأجهزة الأمنية السورية، لكن بعد اندلاع المظاهرات عام 2011، بدأ الأكراد الذين يشكلون نحو 9% من الشعب السوري يفكرون في تشكيل كيان خاص بهم، من خلال بناء مؤسسات “الإدارة الذاتية”، التي تعمل في 3 مناطق رئيسة، هي شمال محافظة الحسكة، وشمال شرق حلب في عين العرب “كوباني”، وغرب حلب في “عفرين”، وجاء أول حديث عن دولة كردية في شمال سوريا في “معاهدة سيفر” التي وُقِّعَت بين الدولة العثمانية والحلفاء في 10 أغسطس (آب) 1920، لكن لم يأتِ عنها أي حديث بعد ذلك بثلاث سنوات عندما وُقِّعَت اتفاقية لوزان في 24 يوليو (تمّوز) 1923 بين الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك والحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى. وبعد سقوط حكومة الأسد تسعى تركيا إلى تفكيك “الإدارة الذاتية” للأكراد، وقوات “قسد”، من خلال ما يسمى “الجيش السوري الحر”، الذي يقود معارك على مدار الساعة ضد الأكراد الذين تدعمهم الولايات المتحدة، ودول غربية أخرى مثل فرنسا. وتعتقد الإدارة السورية الجديدة أن احتفاظ الأكراد بأسلحتهم يمكن أن يشجع مجموعات أخرى على الاحتفاظ بأسلحتها؛ ولذلك تطالبهم بتسليم السلاح، والاندماج في الدولة السورية.
على غرار النموذج العراقي عام 2003، عندما حلَّ وزير الدفاع الأمريكي آنذاك دونالد رامسفيلد الجيش والمخابرات العراقية، أُعلِنَ حل الجيش والأجهزة الأمنية السورية التي كانت تعمل مع الأسد، ويخشى البعض أن تعيش سوريا حالة من “الفراغ الأمني”، خاصة في ظل انتشار السلاح مع الجميع، وعدم وصول الإدارة السورية الجديدة إلى أي اتفاق لنزع السلاح مع المكونات الكبيرة في الشمال أو الجنوب، كما أن الخلفيات الفكرية المختلفة للفصائل المسلحة التي تتكون منها هيئة تحرير الشام تجعل بناء “جيش احترافي مهني” يضم الجميع، ويقف على مسافة واحدة من الجميع، أمرًا ليس باليسير. كما أن تدمير السلاح والذخيرة التي كانت لدى الجيش السوري على يد إسرائيل، يجعل الأمر بالكامل الآن في يد الفصائل المسلحة، وهو ما يعني أنه بدون اندماج كامل لهذه الفصائل، ونسيان “الحالة الفصائلية” التي كانت عليها هذه المكونات منذ نحو 13 عامًا، لا يمكن أن نرى جيشًا سوريًّا قويًّا، حتى لو توافرت الإرادة السياسية والمادية لبناء الجيش السوري الجديد، فهل ستسمح إسرائيل والولايات المتحدة بظهور هذا الجيش الذي يتمناه كل سوري وعربي؟
لا يوجد اتفاق على معنى القرار رقم 2254 ومفهومه، وهو القرار الذي يرتب للانتقال السلس في البلاد، والذي صدر بالإجماع من مجلس الأمن في ديسمبر (كانون الأول) 2015. فرغم حديث غالبية الدول العربية ودول الاتحاد الأوربي والمبعوث الأممي إلى سوريا جير بيدرسون عن ضرورة تنفيذ القرار رقم 2254، فإن الإدارة الجديدة قالت -على لسان أكثر من مسؤول- إن سوريا تجاوزت منطوق هذا القرار ومضمونه بعد أن سقط النظام السابق في أقل من 12 يومًا. فعلى سبيل المثال، نص القرار رقم 2254 على أن تكون الفترة الانتقالية مدتها 18 شهرًا، في حين يقول أحمد الشرع إنه يحتاج إلى نحو 4 سنوات حتى يمكن تنظيم الانتخابات الجديدة؛ لأن سوريا ليس بها إحصاء سكاني منذ فترة طويلة، وخرج ملايين السوريين من البلاد، وهذه الخلافات في الرأي بشأن هذا القرار تحتاج إلى توافق بشأن الفترة الزمنية للمرحلة الانتقالية.
يكافح أحمد الشرع، وبعض العاملين في الدائرة المقربة منه، لرسم “صورة نمطية” جديدة ومختلفة عن الحكم الجديد، وكانت كلماته إلى الوفود العربية والأوربية والأمريكية مطمئنة؛ حيث استخدم كلمات سياسية وليس أيديولوجية، وهو ما أشاد به الجميع، لكن على الجانب الآخر هناك 8 فصائل ضمن تحالف هيئة تحرير الشام لا تؤمن كلها بالتحولات التي يسعى الشرع أن يحدثها في سوريا، فعلى سبيل المثال نُشرت مقاطع كثيرة لوزير العدل في الإدارة الجديدة شادي محمد الويسي وهو يحضر “إعدامات ميدانية” في أكثر من مكان في سوريا، كما أن التصريحات عن دور المرأة السورية والأقليات ليست بالتناغم نفسه الذي تتمناه الإدارة الجديدة من شركائها في الفصائل المسلحة، وهناك تخوف أن تفشل الفصائل المسلحة في التحول نحو الخطاب المدني المعتدل والوسطي بعد أن عاشت هذه الفصائل طوال السنوات الماضية على خطاب مستوحى من الجماعات العنيفة، مثل القاعدة وداعش.
هناك تخوف شديد أن يأخذ الانتقام من الآخرين شعار “العدالة الانتقالية” ومظلته، فالأمم المتحدة، وغالبية الدول التي تمر بثورات، تحقق “العدالة الانتقالية”، وتجبر وتعوّض المظلومين؛ تحقيقًا لمبدأ رئيس؛ هو “عدم الإفلات من العقاب”؛ لأن هذا من أهم المطالب لأهالي الضحايا الذين قدرتهم الأمم المتحدة بمئات الآلاف، في حين تقول الإدارة الجديدة إنهم نحو مليون ضحية، لكن في الوقت نفسه، هناك من يقول إن فصائل هيئة تحرير الشام نفسها ارتكبت كثيرًا من الجرائم، وإن أفضل وسيلة لسوريا في الظروف الحالية هي “الإبراء المتبادل”؛ بمعنى عدم ترك أي فرصة للانتقام، والنظر إلى المستقبل، وليس الماضي.
التحدي الكبير الذي يواجه السوريون في الوقت الحالي هو كيفية التحول من “الساحة إلى الدولة”، ومن “الشارع إلى المؤسسات”؛ لأن في علوم الثورات فإن البقاء في الشارع هو “طفولة سياسية”، وحتى الآن لا توجد “خريطة طريق واضحة” بعد أن تأكد تريث الإدارة الجديدة في الدعوة إلى جلسات الحوار الوطني؛ ولهذا كلما سارعت الحكومة المؤقتة برسم معالم الفترة المقبلة؛ تقلصت حالة عدم اليقين بالمستقبل، وهو تحدٍّ يحتاج ليس فقط إلى تكاتف القوى الداخلية؛ بل إلى المساعدة من الجهات الدولية، مثل الأمم المتحدة، والجامعة العربية.
دائما ما كانت سوريا مساحة لتقاطع المصالح، فهي الدولة الوحيدة في العالم التي بها قوات أمريكية وروسية، وبها قوات تركية واحتلال إسرائيلي. ومع أن القوات الروسية هي الوحيدة التي دخلت دخولًا قانونيًّا من خلال اتفاقية شرعية بين دمشق وموسكو، فإن قدرة الإدارة الجديدة على التوفيق بين مصالح كل هذه القوى الإقليمية والدولية تشكل تحديًا بالغ التعقيد، لا سيما في ظل سعي إسرائيل إلى قضم مزيد من الأراضي السورية وضمها إليها، وكشف واشنطن مؤخرًا أن عدد قواتها في سوريا يزيد على 2000 عنصر بعد أن كان المعروف سابقًا أنهم 900 جندي فقط، وهو ما يؤشر على أن الولايات المتحدة لا تنوي الانسحاب قريبًا من سوريا، وهو ما يشكل عبئًا كبيرًا على الإدارة الجديدة في التعامل مع كل هؤلاء اللاعبين الإقليميين والدوليين.
التهمت أكثر من 13 عامًا من الحرب مقدرات الشعب السوري بعد أن كانت سوريا من الدول العربية القليلة التي تتمتع باكتفاء ذاتي في سلع كثيرة، واليوم، لا يزيد الدخل الشهري للموظف في القطاع العام على 25 دولارًا شهريًّا، وهناك دول عربية سوف تمول زيادة المرتبات إلى 400%، لكن هذه حلول مؤقتة، وحل مشكلات الاقتصاد السوري لا تنفصل عن باقي الملفات والتحديات، خاصةً تلك المتعلقة بالمسارين الأمني والسياسي.
المؤكد أن سوريا كانت -وستظل- في عقل كل عربي وقلبه، والجميع يتمنى لها أن تعبر هذه الفترة الانتقالية، وتتجاوز كل تلك التحديات حتى تعود دولة قوية وعفية ضمن معادلة الأمن القومي العربي.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.