تاريخ

قراءة في كتاب “الإمبراطورية الروسية والجزيرة العربية والخليج” (1/ 3)


  • 24 ديسمبر 2024

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: wikipedia

في عام 2023 صدرت الترجمة العربية لكتاب “الإمبراطورية الروسية والجزيرة العربية والخليج”، من تحرير المؤرخ الروسي إيجور شينشينكو (2018)، وقد ترجمه من الروسية إلى العربية ثلاثة من كبار المترجمين المصريين؛ هم: عامر محمد عامر، ومحمد نصر الدين الجبالي، ووائل فهيم، وصدرت الترجمة عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة فيما يربو على 600 صفحة. وسنعرض هذا الكتاب في ثلاثة مقالات لأهميته البالغة.

محتويات الكتاب

 يحتوي هذا الكتاب على 15 فصلًا، خصصت الفصول الخمسة الأولى منها للأنشطة الدبلوماسية والقنصلية والسياسية الروسية في المنطقة، في حين خصصت الفصول العشرة الباقية لمختلف دول المنطقة وأقاليمها، واختتم آخرها بسرد بضع قصص كتبها الروس عن المنطقة.

تناول الفصل الأول نشاط القنصلية الروسية العامة في بغداد، التي وصفت بأنها “عين” الإمبراطورية الروسية في بلاد النهرين وشبه الجزيرة العربية والخليج.

وقد ركز الفصل الثاني على “السياسة الجديدة للإمبراطورية الروسية في الخليج، في حين استعرض الفصل الثالث النشاط التجاري للإمبراطورية الروسية في حوض الخليج العربي.

وخُصص الفصل الرابع لتناول أعمال الدبلوماسية العسكرية للإمبراطورية الروسية في الخليج، من خلال مجموعة من الوثائق الأرشيفية. وتناول الفصل الخامس شخصية نيكولاي فاسيليفيتش تبوجويا فلينسكي، وهو عبارة عن ملحمة عربية لعالم روسي.

أما بقية الفصول فقد تناول كل منها دولة أو إقليمًا من المنطقة على النحو التالي:  

  • تناول الفصل السادس الكويت، باعتبارها أرض أهل الشجاعة والكرامة والشرف.
  • ألقى الفصل السابع الضوء على “المحمرة”؛ المدينة العربية الواقعة في فارس، موضحًا ما جرى فيها من تقلبات الأوضاع.
  • خُصص الفصل الثامن لدراسة البحرين، بوصفها الجزيرة المتلألئة في الخليج العربي.
  • تناول الفصل التاسع “قطر.. الأرض والشعب، الزمن والمصير”.
  • أشار الفصل العاشر إلى الإمارات العربية المتحدة، في شكل صفحات من مذكرات الزمن.
  • جاء الفصل الحادي عشر عن “عُمان وعلاقات الإمبراطورية الروسية”.
  • تناول الفصل الثاني عشر “اليمن ورياح التاريخ”.
  • كان الفصل الثالث عشر عن الحجاز، من خلال وجود القنصلية الروسية في جدة.
  • انصب الفصل الرابع عشر على “نجد والأحساء”، من خلال رسم صورة من قلب الزمن والجغرافيا.
  • عرض الفصل الخامس عشر والأخير بضع قصص من الجزيرة العربية، من خلال حكايات الروس عن شبه الجزيرة العربية.

تمهيد الكتاب ومدخله

يسمح النظر إلى الماضي التاريخي لروسيا، وتحليل الوثائق الأرشيفية التي تتناول سياسة الإمبراطورية الروسية في شبه الجزيرة العربية ومنطقة الخليج، بتقييم أبعاد مآرب هذه السياسة والأخلاقيات السامية، بمعايير ذلك العصر، في التعامل بين الدول.

وتشهد التقارير والمواد الإعلامية، التي كان الدبلوماسيون المتخصصون في شؤون الشرق يُعدّونها، إلى أن نشاط الإمبراطورية الروسية في شبه الجزيرة العربية، وجنوب بلاد الرافدين، ومنطقة الخليج العربي كان ملموسًا، وكان يؤتي ثماره؛ فقد نجح الدبلوماسيون الروس في تنفيذ المهمة الموكلة إليهم كما يجب، والتي تتلخص في العمل على أن تشغل الدولة الروسية في الشرق مكانتها الرفيعة التي تليق بعظمتها، وتحوز حب أهل هذه المناطق وتقديرهم.

وتؤكد دراسة الوثائق الأرشيفية المتعلقة بالسياسة الجديدة للإمبراطورية الروسية بمنطقة الخليج العربي، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، التي يمكن وصفها “بسياسة الأعمال”، أن الإمبراطورية في نشاطها السياسي والدبلوماسي والتجاري والاقتصادي في هذه المنطقة من العالم كانت تهدف إلى فتح أسواق المنطقة أمام السلع الروسية، أما سياسة الزوارق الحربية والابتزاز والتهديد باستخدام القوة العسكرية، فلم يكن لها مكان بين أدوات السياسة الخارجية لهذه الإمبراطورية ونهجها.

إذا رسمنا صورة وثائقية من الأثر السياسي والدبلوماسي والتجاري والاقتصادي الذي تركته الإمبراطورية الروسية في شبه الجزيرة العربية، وجنوب بلاد ما بين النهرين، في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، فإن هذا يسمح بالحديث عن أن هناك تعاطفًا عميقًا وصادقًا كان الشعب الروسي يكنّه تجاه عرب الجزيرة الذين كانوا يناضلون من أجل التحرر من نير الإمبراطورية العثمانية، والحصول على الاستقلال الوطني. ويقدم النشاط السياسي والدبلوماسي والتجاري للإمبراطورية الروسية في شبه الجزيرة العربية وحوض الخليج العربي واحدة من أهم صفحات تاريخ روسيا، وأقلها دراسة في الوقت نفسه.

وتشير وثائق المحفوظات الوطنية الروسية إلى أن الإمبراطورية الروسية كانت تركز في أنشطتها العملية في هذه المنطقة من العالم على البحث عن أسواق جديدة لترويج السلع الروسية، وحماية مصالح التجار ورجال الأعمال الروس، أما علاقاتها مع القوى الأخرى العاملة هناك فكانت تقوم على مبدأ المنافسة والحوار البناء، كما كانت تنأى بنفسها عن أعمال التحرك العسكري واستخدام القوة، التي كانت تنذر بتفاقم العلاقات بين الدول.

وقد جاء في تعليمات وزارة الخارجية إلى المستشار السري إيفان أليكسييفيتش زينوفيف (۱۸۳۵- ۱۹۱۷) -الذي عُيّن في عام ۱۸۹۷ رئيسًا للبعثة الدبلوماسية الروسية في القسطنطينية، كما كان مسؤولًا أيضًا عن عمل القنصليات الروسية في كل من البصرة وبغداد وجدة- أن الهدف النهائي للسياسة الروسية في الشرق هو رعاية جلال روسيا وهيبتها، والحفاظ على السلام بوصفه خير ضامن لهذا الهدف، فقد كانت المهمة الرئيسة هي الدفاع في الشرق عن كرامة روسيا وحقوقها ومصالحها.

وفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، كان دور منطقة الخليج العربي ومكانتها قد ازدادا أهمية في هيكل العلاقات الدولية، حيث صارت ساحة للمكايد السياسية والدبلوماسية من دول العالم الكبرى، إذ يشير القنصل الروسي في بغداد أليكسيي فيودوروفيتش كروجلوف (١٨٦٤- ١٩٤٨)، في تقرير له، أنه لا يمكن أن نتجاهل حقيقة أن القطاع الجنوبي من بلاد ما بين النهرين وسواحل الخليج العربي قد صار دورها أبرز أكثر من ذي قبل في مجال العلاقات الدولية، حيث باتت تجذب انتباه أوروبا بالكامل، فإذا لم تكن أي من الحكومات الأجنبية، ما عدا الإنجليزية، تهتم من قبل اهتمامًا كبيرًا بمنطقة الخليج والدول المجاورة لها، فإن كل شيء الآن انقلب رأسًا على عقب، فكما لو كان تيار كهربي سرى في جسد أوروبا بكاملها، فجعلها توجه أنظارها إلى هذا الخليج الدافئ، الذي صار دوره يمثل بالفعل أهمية مختلفة، ومعنى آخر في السياسة العالمية الشاملة، فلم تعد بلدان هذه المنطقة في نظر الدول الأوروبية مجرد كيانات تضعها تحت المراقبة فحسب؛ وإنما صارت مصدرًا تسعى من خلاله هذه الدول -بكل السبل- إلى الحصول على أكبر قدر من المنفعة وفقًا لمصالحها الوطنية.

وأشار إلى أن مساعي إنجلترا كانت ترمي إلى أن تفرض في هذه المنطقة من العالم سيطرتها المطلقة على حساب النفوذ الروسي في بلاد فارس وتركيا، وشق طريق لها إلى وسط شبه الجزيرة وشمالها، وإزاحة الباب العالي من بلاد ما بين النهرين وشبه الجزيرة العربية، وضم هذه المنطقة بكاملها إلى “الكماشة البريطانية”. أما أهداف ألمانيا فكانت تكمن في أن تحوّل -تحت ظل صداقة الأتراك الذين سلموا أنفسهم لها- بلاد ما بين النهرين وقطاعي كردستان المجاورين إلى مصدر دخل لإمبراطوريتها. هذا من الناحية التجارية، أما من الناحية السياسية فكانت ألمانيا تهدف إلى إنشاء قاعدة لها في هذه المنطقة تنطلق منها تحركاتها ضد روسيا وإنجلترا، وتسهل بذلك مهمة صراعها المقبل مع هاتين الدولتين على هذا الإقليم.

وإلى جانب الألمان والإنجليز، باتت أراضي حوض الخليج العربي محط أنظار النمساويين والفرنسيين، الذين صاروا يتحركون من خلال المؤسسات التجارية، والبعثات اللاتينية، وفرق التنقيب على الآثار، فبدؤوا رويدًا رويدًا الدخول في علاقات مباشرة مع الأهالي المحليين لتحقيق مآربهم السياسية والتجارية في بلاد الرافدين وسواحل الجزيرة العربية.

وتوصل القنصل إلى استنتاج مفاده أن كل ما يحدث في حوض الخليج إنما ينم عن أن صراعًا ضاريًا بين الدول الكبرى في العالم يدور هناك خلف الجبال، ويبدو أنه لن يعتزم الفرنسيون فحسب الدخول في هذا الصراع مع إنجلترا، وإنما ربما أيضًا منافسون أكثر شراسة؛ هم الألمان الذين لن يرحموا بالطبع أي خصم لهم في هذه السوق، مهما كانت جنسيته. وأغلب الظن أنه تبين أن على الروس تكثيف تحركاتهم، وبذل قصارى جهدهم لضمان الدفاع عن حقوقهم في الاضطلاع بدور رائد في شؤون منطقة جنوب فارس.

وأكد تقرير القنصلية الروسية في بغداد عن عام ۱۸۹۳ أنه يستحيل ألا نرى أن الإنجليز، رغم استقرار وضعهم في جنوب الجزيرة العربية، لم يتوقفوا عن السعي نحو تعزيز سلطانهم في شبه الجزيرة، وأول أهدافهم في هذا المسار هو الاستيلاء تدريجيًّا أيضًا -إلى جانب مشيخات معاهدة عمان- على الساحل العربي للخليج بالكامل، فقد كانوا يخضعون هذه المنطقة للرقابة اليقظة والمشددة، ولم يتورعوا عن استخدام أي وسيلة من أجل تعزيز مواقعهم هناك وتوسيعها.

وفي تقاريرها عن التحركات النشيطة التي كانت إنجلترا تتخذها في الجزيرة العربية وحوض الخليج، التي كانت تهدف من ورائها إلى فرض سيادتها المطلقة دون منازع، لم تفتأ القنصلية الروسية تشير إلى الضرورة الملحة لزيادة “مراقبة” الوضع في منطقة الخليج، طارحة مسألة زيادة نقاط المراقبة الروسية هناك، وتوسيع الشبكة القنصلية الروسية، وقبل كل شيء إنشاء قنصلية في البصرة.

ففي تقرير بتاريخ 22 فبراير (شباط) ۱۸۹٦ إلى ألكسندر إيفانوفيتش نيليدوف (١٨٣٥- ۱۹۱۰)، سفير روسيا في القسطنطينية، كتب فيكتور فيودوروفيتش ماشكوف (١٨٥٨- ۱۹۳۲) مدير شؤون القنصلية الروسية في بغداد، يقول: “إننا نفتقر تمامًا للمعلومات الواردة من المنطقة الشاسعة المطلة على الخليج العربي وبحر العرب، التي ربما يمكن توقع حدوث مفاجآت كبيرة فيها. فبما أن الإنجليز يسيطرون فعليًّا منذ زمن على هذه المنطقة، فلن يفوتوا -في الأغلب- انتهاز الفرصة المناسبة ليضفوا على هذه السيطرة الصبغة القانونية”. وحتى لا نفاجأ بهذا الأمر هناك حاجة ماسة لنراقب -من كثب- هذه المناطق على نحو منظم إلى حد ما.

كما جاء في أحد تقارير كروجلوف أن سياسة الإمبراطورية الروسية في منطقة الخليج لن تؤتي ثمارها إلا في ظل وجود برنامج تحركات مناسب، تتم صياغته بمشاركة الوزارات والمؤسسات الروسية، وطبقة التجار والدوائر الصناعية والمالية في الإمبراطورية.

ولقد أُعِدَّ برنامج من هذا النوع، مع التركيز على تعزيز نفوذ الإمبراطورية الروسية وسمعتها في حوض الخليج، وتنمية التجارة الروسية هناك. ومن أجل تنفيذ المهام التي حُدِّدَت، نص البرنامج على توسيع الشبكة الإقليمية لنقاط المراقبة الدبلوماسية الروسية، وقيام وزارة البحرية الروسية بأنشطة من الدبلوماسية العسكرية من خلال تنظيم عمليات دخول منتظمة لسفن الأسطول الحربي الروسي إلى الخليج، وكذلك فتح خط رحلات بحرية منتظمة من المواني الرئيسة في هذه المنطقة وإليها.

ومع بداية القرن العشرين -حسبما تشير المذكرات التحليلية لوزارة الخارجية بالإمبراطورية الروسية- أقرت الحكومة الإمبراطورية بضرورة تدشين سياسة جديدة في الخليج العربي، وهي “سياسة الأعمال”.

الفصل الأول- القنصلية الروسية في بغداد

قبل تدشين السياسة الجديدة للإمبراطورية الروسية في منطقة الخليج، وإنشاء مراكز قنصلية روسية في جدة (۱۸۹۰)، والبصرة (۱۹۰۱)، وبندر بوشهر (۱۹۰۱)، كانت مهمة مراقبة الأوضاع في بلاد ما بين النهرين وشبه الجزيرة العربية والخليج تقع على عاتق القنصلية العامة الروسية في بغداد (افتُتحت في ۱۸۸۰) التي كانت تقدم تقاريرها للسفارة الإمبراطورية الروسية في القسطنطينية. وكان من المهام الرئيسة لقنصلية بغداد -حسب تعليمات وزارة الخارجية لسنة ۱۸۹۹- “المساعدة على نشر النفوذ الروسي في هذا الجزء من الإمبراطورية العثمانية”، وحماية مصالح التجار الروس هناك.

كذلك أوكل للبعثة الروسية في بلاد ما بين النهرين -نظرًا إلى “غياب العملاء الروس تمامًا في تلك المناطق- أن تراقب بعناية نشاط الإنجليز”، ليس في بلاد الرافدين فحسب؛ وإنما أيضًا “في القطاع الجنوبي الشرقي من بلاد فارس”، ومنطقة نهر كارون والخليج وشبه الجزيرة العربية، حيث وُضعت مهمة “الحصول قدر الإمكان على معلومات ذات طابع سياسي واقتصادي من بندر بوشهر، ومتابعة سير الأوضاع في وادي الفرات الذي يتيح للإنجليز الوصول من ناحية الخليج إلى أعماق آسيا”.

وفي ملاحظاته عن زيارته لمواني هذا المنطقة (في مايو/ آذار ۱۸۹۹ وهو في طريقه إلى مقر عمله من أوديسا عبر بومباي والبصرة)، كتب القنصل الروسي العام ومستشار الدولة القائم في بغداد بيوتر يجوروفيتش بانافيدين يقول: “إن الخليج العربي وبحر العرب يمكن تسميتهما بالبحار الإنجليزية”، موضحًا أن كل المواني، بدءًا من خليج مرباط (سلطنة عمان) حتى أرخبيل البحرين، تقع تحت سلطة إنجلترا.. وهناك شبكة من المسؤولين الإنجليز تنتشر بطول ساحل بلاد فارس”. ففي جميع النقاط التي تمثل أهمية ما، تجد لدى الإنجليز وكلاء قنصليين، وموظفي بريد وبرق، وممثلين لشركة البواخر البريطانية “British India”. كما تترامى اللغة الإنجليزية إلى مسامعك في كل مكان هناك، حتى يمكن القول إنها “حصلت على حق المواطنة في كل مواني الخليج”، و”الدكتاتور الذي يقف وراء ذلك هو العقيد روس “القائم السياسي البريطاني في بوشهر، الذي لا يفتأ يجوب بزورقه الحربي المدن الساحلية لدى الفرس والعرب، فيظهر حسبما تقتضي الضرورة تارة في جاسك، وأخرى في البحرين، وثالثة في مواني عمان”.

ويلاحظ بانافيدين أنه حتى الآونة الأخيرة لم يواجه البريطانيون، الذين بسطوا النفوذ السياسي لإنجلترا في الخليج العربي برمته، أي مقاومة تذكر لخططهم، فبعد أن ثبتوا أقدامهم بقوة في حوض الخليج “واصلوا تقدمهم”، حيث سعوا جاهدين على مدار العقد الأخير (تحت ذريعة تنمية التجارة الإنجليزية، وفي واقع الأمر كان هدفهم توسيع رقعة نفوذهم السياسي) إلى إيجاد الفرصة للتغلغل داخل الممتلكات التركية في شبه الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين، وكذا المناطق الداخلية لبلاد فارس.

كذلك يشير الدبلوماسي الروسي المتخصص في شؤون الشرق ألكسندر إليكسييفيتش آدموف إلى أن “الدور الأول في الخليج العربي يظل في يد الإنجليز”، فقد ثبتوا أقدامهم بقوة في جنوب فارس، والساحل الجنوبي الشرقي لشبه الجزيرة العربية؛ ففي جاسك، التي تقع عند مدخل الخليج تقريبًا، شيّدوا مبنى يكاد يكون حصنًا على أنه محطة تليغراف، وذلك على أرض استأجروها من الحكومة الفارسية، ومنذ بضع سنوات صارت سكنًا لعدة مئات من السباهية (السباهية هم جنود مرتزقة في الهند البريطانية كانوا يُجنَّدون من السكان المحليين)، والحكام الفرس في بندر عباس وبندر بوشهر “يمكن القول، يرقصون على مزمارهم”.

وأراد آدموف جذب انتباه الحكومة الإمبراطورية الروسية في سانت بطرسبورغ إلى “النشاط اليقظ والدؤوب” للإنجليز، والرامي إلى توسيع نفوذ الإمبراطورية البريطانية وتعزيزه في شبه الجزيرة العربية، و”فرض هيمنتها على منطقة الخليج بالكامل”، فأعرب عن توقعه بأن تدخل الكويت أيضًا في القريب العاجل تحت حكم الإنجليز، حيث كتب يقول: “يبدو أنه لم يتبقَ على إمارة الكويت سوى فترة وجيزة ليحين الوقت الذي سيضع الأسد البريطاني مخلبه… على إمارة الكويت هي أيضًا”. “إن أبناء الصحراء لم يحافظوا على عذريتهم أمام النفوذ الإنجليزي”، وهذا النفوذ “بدأ يغرس جذوره العميقة أيضًا في الأراضي المجاورة لمسقط”، وحتى في نجد.

أما جافريل فلاديميروفيتش أوفسيينكو (۱۸۷۰- ١٩١٦)، سكرتير القنصلية الإمبراطورية الروسية في بغداد وترجمانها، الذي وصل إلى مقر عمله وبدأ بممارسة مهامه عام ۱۸۹۸، فقد أشار إلى أن “العملاء الإنجليز غير الشرعيين” قد تناثروا عمليًّا على ساحل الخليج بكامله، الذي “لا يبحر في مياهه دون عائق سوى السفن الإنجليزية”، وسيطر التجار الإنجليز والهنود “على التجارة في المنطقة كلها تقريبًا”، كما وضع الإنجليز جميع الحكام هناك عمليًّا “تحت إمرتهم”، وذلك عن طريق “الرشوة، والهدايا الثمينة، والترغيب والترهيب”.

وأما السفير الروسي الكونت نيكولاي دميتروفيتش أوستين ساكين (۱۸۳۱- ۱۹۱۲) فأرسل تقريرًا من برلين في يناير (كانون الثاني) (۱۹۰۲) يقول فيه إن إنجلترا بحكم امتلاكها فعليًّا لقناة السويس “كانت تحكم سيطرتها على واحد من أهم طرق التجارة العالمية”، وتنشر نقاط حراسة عسكرية لحمايته. “ولم تغض إنجلترا الطرف للحظة” عن الكويت بوصفها “المحطة النهائية لخط سكك حديد بغداد المزمع إقامته”، وكذلك عن مسقط؛ لأن المدينتين تمثلان نقطتين إستراتيجيتين على الممرات المائية الرئيسة المؤدية إلى الهند من الخليج العربي والبحر الأحمر. ويستخلص السفير أن مسقط والكويت هما الحلقتان الرئيستان في سلسلة التحركات السياسية والدبلوماسية والعسكرية والتجارية للبريطانيين في منطقة الخليج العربي.

كما تضمن تقرير آدموف أن “نقاط الارتكاز لدى إنجلترا في شبه الجزيرة العربية هي عدن ومسقط والكويت؛ فعدن، التي لا تعد المدخل إلى اليمن فحسب؛ وإنما أيضًا إلى غرب شبه الجزيرة العربية بالكامل”، استولت عليها إنجلترا عام ١٨٣٩، “ودخلت القبائل العربية، التي تقطن الشريط الساحلي بطول ۲۷۰ ميلًا شرقي عدن حتى ميناءي مسقط والشحر، تحت الحماية البريطانية”. وكان البريطانيون (شركة الهند الشرقية البريطانية) قد استولوا قبل ذلك، في عام ۱۷۹۹، على جزيرة بريم بالبحر الأحمر، ثم تركوها بعد ذلك لفترة، لكن في عام ١٨٥٧ انتقلت الجزيرة إليهم نهائيًّا، وهي الآن “محصنة تحصينًا شديدًا”. وفي جنوب شرق الجزيرة العربية سيطر البريطانيون على جزر كوريا موريا (خوريا موريا)، التي تنازل لهم عنها سلطان مسقط، الذي يخضع للحماية الإنجليزية منذ عام ١٨٢٢. والقبائل العربية في ساحل القراصنة (الإمارات العربية المتحدة حاليًا) المتاخم لمسقط بالخليج العربي تربطهم بإنجلترا معاهدة السلام الأبدي التي وقعها شيوخهم عام ١٨٥٣. أما فيما يخص أرخبيل البحرين فيمكن القول إنه يخضع فعليًّا لسيطرة إنجلترا، ويقع في نطاق صلاحيات القائم السياسي في الخليج العربي الذي يتخذ من بوشهر مقرًا له.

وفي تقريره عن الأوضاع في الخليج العربي بعد افتتاح نقطة دبلوماسية روسية في البصرة، ذكر القنصل ومستشار الدولة القائم هناك سيرجيي فلاديميروفيتش توخولكا (١٨٧٤- ١٩٥٤) أن الإنجليز كانوا يضطلعون “بالدور الغالب” في شؤون الخليج، مشيرًا إلى أن سلطان مسقط، وشيوخ ساحل القراصنة (الإمارات العربية المتحدة حاليًا)، مثلهم مثل حاكم البحرين، مقيدون بالتزامات تجاههم. وهم لديهم وكلاؤهم السياسيون في مسقط والبحرين والكويت. أما على الضفة الأخرى من الخليج، فلديهم قنصل في بندر عباس، وقنصل عام في بوشهر، ولكن مع لقب المقيم السياسي، الذي يقع تحت إمرته جميع الوكلاء الإنجليز، وكل السفن العسكرية الإنجليزية في الخليج. وكان المقيم يقوم سنويًّا بالمرور على نقاط الوكالة الإنجليزية، وكان على علاقة بالشيوخ، والأكثر خنوعًا منهم كان يجزل له العطايا من الخزانة. ويقول توخولكا إن مراكز الحجر الصحي في بندر عباس ولنجة، وفي بندر بوشهر والمحمرة، مع أنها تتبع شكليًّا المجلس الصحي الدولي في طهران، فإنها في واقع الأمر كانت تقع تحت سيطرة الإنجليز دون غيرهم، فجميع الأطباء في هذه المراكز كانوا من الإنجليز، وكانوا يصدرون الشهادات الصحية باللغة الإنجليزية فقط.

وفي كل النقاط المذكورة، وكذلك في مسقط والكويت والبصرة والبحرين، أي على ضفتي الخليج ومشارفه، كانت هناك مكاتب توكيل لشركة البواخر الإنجليزية “British India Steamship Company”، كما كانت مكاتب البريد الإنجليزي تعمل هناك. أما في الفاو، التي تقع عند مدخل شط العرب، فكان هناك مكتب للتليغراف. ولم يكن يقبل في التعاملات إلا الذهب الإنجليزي، والروبية الهندية. وهذه الشبكة -حسب رأي الدبلوماسيين الروس- لم توفر فقط سرعة الاتصال بين المقيم السياسي الإنجليزي والعملاء البريطانيين المعلنين وغير المعلنين في الخليج، وعلى ساحل شبه الجزيرة العربية؛ وإنما كان يتم من خلالها أيضا العمل على ربط العمليات التجارية في هذه المنطقة بالوحدات النقدية الإنجليزية.

وكانت لندن تساورها المخاوف من أن “تغلغل فرنسا وألمانيا وروسيا في الخليج” سينسف الخطط البعيدة المدى لدى إنجلترا في شبه الجزيرة العربية؛ فاستقلال الجزيرة العربية -كما قال نائب البرلمان ديفيد لويد جورج (١٨٦٣- ١٩٤٥) في إحدى خطبه- كان دائمًا هو المبدأ الرئيس لسياسة روسيا في الشرق، لكن هذا كان يعني لروسيا أنه لا بد أن تكون الجزيرة العربية -في ظل استقلالها- خارج دائرة المؤامرات السياسية الأوروبية.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع