لم تكتفِ الجمهورية الإسلامية والجمهورية السورية بالتحالف الوثيق على مدى أكثر من أربعة عقود؛ بل سار الرئيس السوري السابق بشار الأسد على نفس خطى شاه إيران محمد رضا بهلوي الذي هرب خارج البلاد على متن طائرة عام 1979. إيران لم تخسر فقط أهم حلفائها في المنطقة وآخرهم بسقوط النظام السوري، وهروب الرئيس السوري السابق في السابع من ديسمبر (كانون الأول) الجاري لروسيا؛ بل خسرت هيبتها ومكانتها الإقليمية، وأطيح بآخر ورقة ضغط للجمهورية الإسلامية في التعامل مع النظام الإقليمي والدولي في المنطقة؛ ومن ثم يحمل السقوط المفاجئ لنظام الأسد تكهنات عدة بشأن مستقبل التحرك الإيراني في سوريا ارتباطًا بمحورية الدولة السورية في ركائز السياسة الإيرانية في المنطقة.
منذ بداية الثورة السورية ضد حكم الأسد في مارس (آذار) 2011، قدمت إيران الدعم السياسي واللوجستي والاستخباراتي والدعائي للنظام السوري، وسيطرت طهران فعليًّا على جيش الأسد منذ سبتمبر 2012، حيث درّبت عشرات الآلاف من رجال فصائلها المسلحة لسد النقص في القوات السورية، كما أرسل حزب الله اللبناني -المدعوم إيرانيًّا- مقاتليه منذ عام 2013 لإنقاذ نظام الأسد بالقرب من الحدود اللبنانية.
ومع أن الجمهورية الإسلامية كانت حليفًا سياسيًّا وعسكريًّا للرئيس السوري بشار الأسد لأكثر من ثلاثة عشر عامًا ضد المعارضة المسلحة، فإنه لم يكن من الواضح كيف ستدعم طهران دمشق في أحداث تصعيد الصراع بين النظام والمعارضة بعد عمليتي “ردع العدوان“ و”فجر الحرية”، حيث انتهجت عدة إستراتيجيات لدعم النظام، بدأت بتكثيف تخريج دفعات جديدة من جماعة “فاطميون الأفغانية” في شمال شرق سوريا، لتعويض الخسائر البشرية التي تتعرض لها الميليشيا، ولتعزيز قوة الجماعات الموالية لإيران في شمال شرق سوريا من أجل دعم جهودها لإحداث تغيير ديموغرافي في تلك المنطقة.
كما اعتزمت طهران إرسال صواريخ وطائرات مسيرة إلى سوريا، وزيادة عدد مستشاريها العسكريين بعد التقدم السريع لقوات المعارضة، وسيطرتهم على حلب وإدلب وحماة، كما أرسل حزب الله اللبناني عددًا صغيرًا من القوات المشرفة إلى سوريا بهدف المساعدة في منع المعارضة السورية من الاستيلاء على مدينة حمص ذات الأهمية الإستراتيجية، قبيل سقوط نظام الأسد.
إن تراجع نفوذ الفصائل الموالية لإيران في المنطقة، وعلى رأسهم حزب الله اللبناني، الذي تكبد خسائر كبيرة في صراعه مع إسرائيل، وفصائل المقاومة العراقية التي تسعى لتخفيض هجماتها على تل أبيب؛ خوفًا من رد الفعل الذي يفوق ضرباتها المحسوبة، فضلًا عن أن الوضع الاقتصادي المتردي للجمهورية الإسلامية لم يسمح لإيران بتقديم مزيد من الدعم لسوريا، إلى جانب تآكل القوى البشرية واللوجستية للحرس الثوري الإيراني في سوريا، حيث قُتل قادة رئيسون في الحرس الثوري الإيراني؛ ومن ثم أصبحت الجماعات الوكيلة أقل فاعلية من ذي قبل، كل تلك المعوقات حدّت من الدعم الإيراني لنظام الأسد، وأدت في نهاية المواجهات إلى استسلام الأسد، وهروبه إلى روسيا.
بعد أن ضعف نفوذ إيران في لبنان وغزة، نظرت الجمهورية الإسلامية إلى الصراع في سوريا كفرصة لإعادة تأكيد نفوذها من خلال دعم النظام السوري ضد معارضيه؛ إذ رأت طهران في هذا الانخراط منقذًا لشرعيتها، وتعزيزًا لسيطرتها على وكلائها في المنطقة، بيد أن انهيار حكم الأسد فكك حجر الزاوية في إستراتيجية إيران الإقليمية ضد إسرائيل، ومن شأنه أن يهدد بقاء الجماعات التابعة لإيران، التي تعتمد -اعتمادًا كبيرًا- على دمشق للحصول على الدعم. وبدون دعم الأسد، قد تكافح تلك الجماعات للحفاظ على عملياتها؛ ما يعرض نفوذ الجمهورية الإسلامية في المنطقة للخطر.
كانت حكومة الأسد كانت تشكل لخامنئي ركيزة أساسية لمحور المقاومة؛ لما يحمله النظام السوري من دعم للبعد العَقَدي للجمهورية الإسلامية، المرتبط بالمذهب الشيعي على حساب المذهب السني، كما أن سوريا تتيح لطهران مقرًا لتصنيع الأسلحة، ومسارًا لنقلها، فضلًا عن مركز قيادة للقادة الإيرانيين الذين يعملون مع حزب الله، ولعل الخطر الأبرز من سقوط نظام الأسد أن سوريا كانت توفر لإيران إمكانية الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط عبر ممر بري يمتد من طهران إلى بغداد ودمشق وبيروت، ويربط بين وكلائها في المنطقة، ومن المرجح أن يؤدي انهيار النظام إلى تعطيل نقل الأسلحة إلى حزب الله عبر مطاري دمشق واللاذقية؛ ما يسفر عن انخفاض الدعم العسكري لجماعاتها في غزة ولبنان.
ورغم تلك الأخطار من جرّاء سقوط النظام السوري، لم يبدِ النظام الإيراني تأثرًا كبيرًا بخسارة أهم حلفائه التقليديين في المنطقة، وسرعان ما تخلت طهران عن دعمها للنظام وعداء فصائل المعارضة السورية، وعقد البرلمان الإيراني جلسة طارئة مغلقة ناقش فيها تطورات الوضع السوري، ودعا إلى تشكيل حكومة شاملة تمثل كل فئات المجتمع السوري؛ بهدف ترسيخ أهمية الدور الإيراني في مرحلة ما بعد الأسد.
تطرح المعطيات الحالية سيناريوهين لمستقبل التعامل الإيراني مع سقوط النظام السوري، يتضحان فيما يلي:
السيناريو الأقل ترجيحًا: تنامي التدخل الإيراني عسكريًّا في سوريا من خلال جماعاتها المسلحة: حيث ينطلق هذا السيناريو من تحول سوريا إلى ساحة حرب بعد الهجوم الإسرائيلي على الجولان عقب هروب الأسد إلى روسيا، حيث شن الجيش الإسرائيلي نحو 480 ضربة خلال 48 ساعة على أهداف إستراتيجية في سوريا، دمر من خلالها معظم مقدرات الجيش السوري بعد توغل إسرائيل بنحو 25 كيلومترًا -حتى الآن- في الجنوب الغربي من دمشق؛ ومن ثم تتمثل أهم مبررات هذا السيناريو في سعي إسرائيل والولايات المتحدة إلى السيطرة على المنطقة من خلال الساحة السورية، وتطويق طهران من كل الجبهات، وقطع طرق الإمداد من إيران إلى لبنان عبر سوريا؛ ما قد يفرض على الجمهورية الإسلامية ضرورة الوجود العسكري، واستهداف جماعاتها لإسرائيل من خلال هجمات محدودة تتناسب مع قدراتها الحالية.
السيناريو الأكثر ترجيحًا: انتهاج إيران مسارًا تفاوضيًّا بشأن مستقبل سوريا بعد الأسد: يرتبط هذا السيناريو بسعي إيران إلى ضمان وجودها في تشكيل مستقبل سوريا بعد سقوط النظام؛ لذا تأتي أبرز مسوغات هذا السيناريو في الضعف الواضح في الفصائل المدعومة إيرانيًا بعد إنهاك حزب الله اللبناني بسبب مواجهته الدامية مع إسرائيل، وفقدانه جميع قياداته الفاعلة، وخشيته من التداعيات السياسية لانخراطه بقوة في الساحة السورية، كما أن اكتفاء فصائل المقاومة العراقية بإرسال المئات فقط من المقاتلين لمساندة نظام الأسد قبل سقوطه، يشير إلى نجاح ضغوط الحكومة العراقية عليها، خاصة أن الفصائل العراقية تسعى إلى ضمان مشاركتها في المشهد السياسي العراقي، إلى جانب محاولة الفصائل النأي بنفسها عن الدخول في الصراع السوري، خاصة بعد انهيار النظام، فضلًا عن تصريحات وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي الأخيرة التي تحاول الحفاظ على ما تبقى من نفوذ طهران في سوريا عبر التمسك بمسار آستانا، وتأكيد أن أي مسار دبلوماسي في سوريا مرتبط بقرارات الدول الثلاث؛ روسيا وإيران وتركيا. كما دعم هذا التوجه التقارير التي تشير إلى محاولات طهران فتح قناة مباشرة للتواصل مع فصائل المعارضة المسلحة بالقيادة الجديدة في سوريا؛ ما يعكس إستراتيجية براغماتية جديدة ينتهجها النظام الإيراني تجاه المتغيرات الجارية على الساحة السورية، خاصة في ظل التخوف من استغلال ترمب سقوط الأسد في ممارسة سلسلة ضغوط سياسية واقتصادية على إيران.
رغم سقوط النظام السوري، وهروب بشار الأسد خارج البلاد، لا يزال عصر عدم اليقين في سوريا قائمًا؛ إذ إن سوريا تشكل اليوم مركزًا للصراعات بين القوى المحلية والإقليمية والدولية؛ ومن ثم فإن التدخل الإيراني في سوريا يتشابك مع مصالح عدة فاعلين، من أبرزهم روسيا وتركيا والمعارضة السورية المسلحة وإسرائيل والولايات المتحدة، فضلًا عن أن تغير طموحات الجماعات المدعومة إيرانيًّا في المنطقة التي أنهكت الحرب الدائرة مع إسرائيل قواها، قد يجعل تلك الجماعات تتخلى عن الجمهورية الإسلامية للنأي بنفسها عن حرب شاملة. كان الحفاظ على حكومة الأسد في نظر إيران مسألة بقاء إستراتيجي، والآن مع سقوط النظام، لم يبقَ مفر أمام خامنئي إلا هدنة طويلة لإعادة حسابات الخسارة والربح في ظل المتغيرات الجديدة؛ لتتمكن الجمهورية الإسلامية من ترتيب أولوياتها في منطقة الشرق الأوسط.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.