ثمة انشغال وسواسيّ لدى حكام تل أبيب في إعادة صياغة مسائل المشهد التاريخي المعاصر، حملته في المحتوى والمستوى عبارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في التوجه إلى بناء “شرق أوسط جديد”.
ورغم قدم هذه المقولة/ المصطلح، فهي لم تعتمد سابقًا كحالة إستراتيجية لإسرائيل على النحو الذي يتم تنفيذه الآن، وفق كل معاني ومضامين ووسائل السيطرة على معضلات الصراع وساحاته.
العبارة النتنياهوية كانت قد تكررت مرات كثيرة، وبصور مماثلة في مجالات خطابية متعددة، لتظهر بحرفيتها في ختام يوم كامل لما اصطلح على تعريفه بـ”طوفان الأقصى” يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الفائت، إبرازًا لدوافع سيكولوجية عميقة، متعلقة بالنقاش الإسرائيلي الداخلي، وفي محاولة لاحتواء ما حصل يومذاك، وإمكانية استغلاله لما سيحصل لاحقًا.
إن لصيغة قول نتنياهو غداة وقائع السابع من أكتوبر (تشرين الأول) قيمة أساسية في فهم موقفه اليوم، وأيضًا غدًا وبعد غد، كأفضل أشكال فهم الصراع في نسخته الحالية، الذي تطلقه “إرادة القوة” الإسرائيلية، وتواجهه “إرادة الالتزام” بفلسطين وقضيتها.
لقد تأتت عبارة/ مصطلح “الشرق الأوسط الجديد”، من المحافل الداخلية المقدسة لليمين الإسرائيلي، وأكثرية ذريته المتطرفة، التي أنشأت محاكمة لمعنى الحدث بنفسها، ليغدو خطاب نتنياهو تعبيرًا عن حرية الصياغة الذاتية لدى النخب السياسية والاقتصادية والفكرية، الصهيوينة الأصل والوحي والروح، حيث وقعت إسرائيل الآن داخل عقول تلك النخب على نحو أكبر، للوقوف على أهلية معركة التأسيس والتكون الغابرة، وصولًا إلى فلسفة تكوين “الدولة ” أصلًا، وواقعها التاريخي فيما يعدّ ضمان أمن إسرائيل، والعمل على تأكيد وجودها.
وفي عملية تقطير فهم نتيناهو ومشايعيه لبناء “شرق أوسط جديد”، من الضروري أيضًا أن نطل على مدى التطابق الحاصل بين الحركة الدولية، والمصطلح المطروح إسرائيليًّا في النهج والتفسير والتطبيق، وبمعنى أدق، وضع مصطلح “الشرق الأوسط الجديد” في السياق الكامل، لإدراك أبعاد ونتائج ما جرى حتى الآن، أو ما يجري حاليًا، حيث يمتلك المصطلح، الذي بات مألوفًا إعلاميًّا، وكثر استعماله إسرائيليًّا، بعدين:
الأول له علاقة بالنتيجة النهائية التي خلصت إليها كواليس السلطة في إسرائيل، وفلسفتها السياسية للأحداث، التي يترجمها نتنياهو إلى فعل.
والثاني يصف الزمن التاريخي لمرحلة برمتها، بما حوته من تشابكات وتداخلات وتناقضات.
فهناك خلاصة شبه حاسمة، وصل إليها اليمين الإسرائيلي الحاكم في تل أبيب مع نظرائه في واشنطن من المجموعة التي تحتضن شعار “شرق أوسط جديد”، ترى في هذه اللحظة حتمية تاريخية ومصيرية للصراع في الشرق الأوسط، وهي لا تتوقف على سياسة القوى المؤثرة والمعنية، بأقل مما تتوقف على سياسة (إسرائيل) الكثيفة الاعتماد على مهارة الأطراف الفاعلة (اللاعبين)، وتصوراتهم المستقبلية لحدود هذا الصراع، وإمكانية التحكم به.
هذه القوى (إسرائيل والأطراف الفاعلة) لا تقيم وزنًا إلا لشيء وحيد ومهم لها؛ هو سياسة النفوذ التي تدعم مراكزها ونماءها في هذا الجزء المهم من العالم، بأساليب أكثر ما تكون ميكافيلية، ولا أخلاقية.
وهذه النتيجة ستبدو غير مقبولة منطقيًّا، لكنها تصبح واضحة في إطار زمنها التاريخي، فهناك نظام حركة كاملة وقائمة لما يسمى مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، تتجلى سمته الأساسية في الإستراتيجية التفسيرية العامة، التي يقدمها ملكوت السياسة الدولية بقيادة أمريكية لضلال سياسة القوة الإسرائيلية وعدم إدانته باعتباره ضرورة قصوى.
هذه الضرورة تعني فعليًّا أن التركيبة الإجمالية للنظام الدولي تتصرف وفقًا لمعايير متضمنة أو كامنة في بنية المجتمع الدولي وسيرورتها، وتنفض أيديها -بطريقة أو بأخرى- من الصراع “العربي – الإسرائيلي”، الذي يعد أهم وأقدم ملف من ملفات المنطقة، سياسيًّا وتاريخيًّا، لا يدانيه أو يجاريه في الأهمية سوى الملف النووي الإيراني.
وفق منطق نتنياهو نفسه، سيظهر لنا بعد ثالث لمصطلح “الشرق الأوسط الجديد”، تحمله إسرائيل في بذور ذاتها الاستيطانية، وهو معطى “إرادة البقاء بالقوة”، الذي صار مفهومًا يسيطر على جميع الأغراض والأسس الإستراتيجية العسكرية لدى نخبها.
ومن هنا، غدت مشكلة “الأمن”، محور حياة إسرائيل، وقطب تفكيرها كله، بل شكل “الأمن” و”الدفاع” صلب المذهب العسكري الإسرائيلي، باعتباره مفهومًا حركيًّا، مجاله الحيوي خارج إسرائيل، عدا كونه مفهومًا “هجوميًّا- عدوانيًّا”، ينبثق من طبيعة العقيدة الصهيونية وأهدافها السياسية، ومن طبيعة المجتمع الإسرائيلي، وذهنيته السائدة، وهو ما يفسر لدينا سعي الإستراتيجيين الإسرائيليين الدائم إلى تطوير مفهوم “الأمن”؛ لما يتعلق باستمرار “الكيان/ الدولة” نفسه، واستمرار البقاء الفيسيولوجي للمستوطنيين.
فعلى أثر حرب يونيو (حزيران) 67، وبعد أن احتلت إسرائيل سيناء، وشرم الشيخ، والضفة الغربية، والقدس، وهضبة الجولان، ظهرت في القاموس الصهيوني، مصطلحات “الحدود السياسية”، و”الحدود المأمونة”.
ولا يزال المضمون الفكري والتطبيق العملي لـ”أمن إسرائيل” مستندًا ثابتًا لدى كل مستويات القيادة في تل أبيب، واجتهادات إستراتيجيي العقل العسكري الإسرائيلي، سواء لجهة تنفيذ فكرة هذين النوعين من الحدود، أو الفصل بينهما على اعتبار أن الحدود السياسية لا ينبغي أن تكون بالضرورة هي الحدود المأمونة.
بالضرورة هنا أن نشير إلى كنه الغرض الأساسي من تحديد الأبعاد السابقة لمصطلح “الشرق الأوسط الجديد”، حيث يتعلق بإيجاد تطابق ما بين طبيعة التحركات والمباحثات الدولية بمساراتها المختلفة، والمصطلح المذكور، دون الدخول في تأويلات خاصة، أو بعيدة عن صلب ما يجري؛ فالنظام الدولي يخضع أيضًا لمصطلحات السياسة الدولية، سواء في كونه (المصطلح) نتيجة لأحداث محددة، أو معبرًا عن زمن تاريخي خاص، وله انعكاسات متباينة بين الدول وفق توزعها الجيوبوليتيكي.
ختامًا، إن إدراج نتنياهو مفهوم بناء “شرق أوسط جديد”، من خلال وسائل الحرب، ومجريات المعارك، وتبدل الموازين، يبين أنها ليست عبارة خشبية مبتذلة؛ وإنما زعم إسرائيلي جذري، يضع المصالح العليا لشعوب المنطقة، والدول المستهدفة، في وضع مصيري، فرئيس الوزراء الإسرائيلي يعلم أنه موظف في جهاز له توجهات محددة، وعليه تنفيذها، وهامش الحرية الذي يتمتع به هو مدى دقة أدائه للدور المرسوم، الذي كان عليه القيام به.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.