نستكمل في هذا المقال عرض كتاب تاريخ “الأدب الجغرافي العربي” لكراتشكوفسكي، حيث تناول المؤلف الأدب الجغرافي العربي والإسلامي من العام إلى الخاص بالتركيز على الأدبيات الجغرافية للكتّاب المصريين والفرس والأتراك، وأماكن محددة، كالشام وفلسطين، وليس العالم العربى ككل. وجاءت موضوعات الجزء الثاني كالتالي:
ظلت مصر تتربع على قمة الأدب العربي بأجمعه منذ القرن الخامس عشر حتى الفتح العثماني، فكانت مركز الثقافة العربية، وبلغ نمط الموسوعات ذروته في ذلك الوقت بما يسمى الجغرافيا الإقليمية الإدارية، وقدم بالجغرافيا الإقليمية نمط الخطط التاريخي الطبوغرافي، الذي بلغ أوجه في مصنف المقريزي المشهور بالخطط. ولم يكتفِ المؤرخون بإدراج مادة جغرافية كبيرة إلى مصنفاتهم في التاريخ العام، بل أحيانًا عالجوا الكتابة في الأنماط الجغرافية المختلفة، وخير مثال على ذلك من المؤلفين ابن دقماق (1349-1407)، فبجانب كتاباته التاريخية ترك مصنفًا جغرافيًّا من نمط الفضائل جمع فيه بين الفضائل والجغرافيا الإقليمية، وهو “كتاب الانتصار لواسطة عقد الأمصار”، مبينًا فيه أمصار العالم الإسلامي، وموليًا اهتمامه بمدن مصر وفضائلها. كذلك أسهم ابن شاهين الظاهري بأدبيات الجغرافيا، وبسبب تقلبه في كثير من مناصب الدولة المملوكية بمصر والشام، مكنه ذلك من التعرف على ولاياتها الكبرى، فأدرج معارفه بها في “زبدة كشف الممالك في بيان الطرق والمسالك”، وهو تقويم حكومي لأراضي المماليك والنظام الإداري ببعض البلدان التابعة لسلطانهم، وأضاف ابن الجيعان مؤلفه “التحفة السنية بأسماء البلاد المصرية”، الذي ذكر فيه ما بمصر من أقاليم.
يشير كراتشكوفسكي إلى أن نظام الخطط بلغ القمة بظهور خطط المقريزي التي ترتبط بالتاريخ والجغرافيا التاريخية، وهو إن لم يكن الوحيد الذي ألّف في هذا النمط، فإنه كان أعظمهم مكانًا، وقد شملت مؤلفات المقريزي أخبار مصر من حوادث وتغيرات، ونيلها وخراجها وجبالها ومدنها وأجناسها، وأخبار الفسطاط وملوكها، وآثار القاهرة، وملوك قلعة الجبل، وأسباب خراب إقليم مصر في تلك الفترة، وقد أشار كراتشكوفسكي إلى أن عدد المصادر التي رجع إليها المقريزي تحتاج إلى بحث منفرد.
من معاصري المقريزي وممثلي المدرسة التاريخية والمهتمين بالجغرافيا بدر الدين العيني، والسيوطي الذي تتماس بعض مؤلفاته مع علم الأجناس “الإثنوجرافيا”، فبعض كتبه تحمل طابعًا جغرافيًّا مثل “حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة”، وأضاف تلميذه ابن إياس الحنفي للأدب الجغرافي إضافة مهمة عن عجائب مصر وأعمالها وخططها وأقطارها في سِفره المهم “نشق الأزهار في عجائب الأقطار”.
ظل الإنتاج الأدبي الجغرافي في الجغرافيا الإقليمية مزدهرًا في الشام وفلسطين طوال القرنين الرابع والخامس عشر، لكن لم يكن كمثيله في مصر مهتمًا بمسائل الإدارة ونشاط الدواوين الحكومية؛ بل ركز على المدن الكبرى كدمشق والقدس، وسار على هذا النهج أبو البقاء البدري المصري الدمشقي بمؤلفه “نزهة الأنام في محاسن الشام”.
في تلك الفترة نشطت في مصر حركة تحرير فلسطين والمناطق المجاورة لها من أيدى الصليبيين، وقد تردد صداها في عدد ضخم من الآثار الأدبية، ويمكن القول إن الأدب في تلك الفترة يمكن تقسيمه إلى نوعين؛ هما أدب التحرير، والأدب الدعائي الذي انصبت فكرته في أن فلسطين، بل جميع أرض الشام، هي أرض المعاد للمسلمين، لا ينازعهم في شرعيتها منازع؛ لذلك اكتسبت مقابر الأنبياء القديمة الموجودة بها والمعابد والمساجد العتيقة قداسة لا تفوقها سوى قداسة مكة والمدينة، وأصبح الحج إليها فريضة كالحج إلى مكة؛ مما دفع إلى ازدهار المؤلفات المرتبطة بها لأغراض الدعاية، ولتعريف المسلمين بتلك البلاد نفسها من جهة أخرى.
لكن فلسطين لم تنل أهمية مستقلة في الأدبيات الجغرافية؛ بل دخلت ضمن الشام، ومنها مصنف أبي الحسن الربعي “الإعلام بفضائل الشام ودمشق وذكر ما فيها من الآثار والبقاع الشريفة”.
وكان استيلاء الصليبيين سببًا في إثارة همة العلماء في المحافظة على ازدهار الأدب الجغرافي لفلسطين، فالمؤرخ الكبير ابن الجوزي كان يدعو أهل الشام إلى الجهاد من خلال ما كتبه عن “فضائل القدس”، وكذلك فعل ابن عساكر الذي اشتهر بأمانته العلمية بمصنفه “المسجد الأقصى”.
ارتبط الأدب الجغرافي الفارسي بالأدب الجغرافي العربي من حيث المنهج، لكن بعد الغزو المغولي أخذ طريقًا مستقلًا، وبرز المؤلف حافظ آبرو في القرن الخامس عشر، وترجم إلى الفارسية بعض مؤلفات أدبيات الجغرافيا العربية، واعتمد في مؤلفه “صور الأقاليم” على أعلام المدرسة الجغرافية الكلاسيكية كالبلخي والإصطخري في ترتيبه للأقاليم والبلدان. وهناك السمرقندي بمؤلفه “مطلع السعدين ومجمع البحرين” الذى كرسه لتاريخ المغول، ومن عنوان الكتاب نلاحظ التأثير العربي بالسجع، وحتى بالمتن والاستشهادات الشعرية، لكنه أجاد وصف الصين والهند.
في القرن السادس عشر أضاف أبو الفضل مؤلفه “أكبر نامه”، وجمع فيه سيرة ذاتية للأسرة التيمورية وتاريخ السلطان أكبر، وخصص جزءًا كبيرًا منه عن أحوال الهند، استخدم فيه المنهج الإحصائي في سابقة في المؤلفات الأدبية، وقدم فيه صورة متكاملة وصادقة عن الهند، واعتمد فيه على البيروني، وقد نقله بلوتشمان إلى الإنجليزية. أما أشهر أعمال القرن السابع عشر فكان لمحمود بن أمير ولي، بمؤلفه “بحر الأسرار في معرفة مناقب الأخبار”، الذي عالج فيه مسائل الكوزموغرافيا.
خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ظهرت مؤلفات كتب الرحلات الخارجية، وخاصة الهند، وجميعها في مخطوطات متفرقة لم تخضع للبحث بعد، وكتب الجغرافيا الإقليمية المشوبة بالرحلات، ومنها كتاب “تحفة العالم” لعبد اللطيف التستري، الذي تحدث فيه عن أمريكا، فضلًا عن رحلة أبي طالب خان إلى أوروبا، التي دونها باسم “مسير طالبي في بلاد إفرنجي”، ويتشابه الأدب الفارسي هنا مع أوصاف الرحلات التركية المعروفة باسم سفارتنامه التي ظهرت في القرن الثامن عشر، وهي أوصاف السفارات التي بعث بها الباب العالي إلى مختلف الحكومات الأوروبية. كذلك أدى محمد حسن خان دورًا كبيرًا في تطور الأدب الفارسي برحلاته ومؤلفاته الكثيرة التي تناول فيها المسائل المتعلقة بالجغرافيا التاريخية؛ فقد مكّنه مركزه الحكومي من زيارة كثير من البلاد، ومصاحبة السلاطين والملوك، ومنها معجمه الضخم “مرآة البلدان”، وإليه يرجع الفضل في الاهتمام بالأدب الجغرافي في الإمبراطورية الفارسية، واستكمال المناهج التى سار عليها الأدب الجغرافي العربي.
رغم شهرة العرب في الملاحة، وإرثهم الأدبي بالجغرافية الملاحية، فإن هناك حدثين مهمين لم يقدّرهما العرب جيدًا، وهما نجاح البرتغاليين أواخر القرن الخامس عشر في الطواف حول إفريقيا، واكتشاف كولومبس لأمريكا. فمع أن العرب سبقوا الغرب برحلات ملاحية، فإنهم لم يستغلوا ذلك في الأدب الجغرافي، فنتج نقص جوهري في أدبهم الملاحي للفصل بين النظرية والتطبيق، والدليل على ذلك أن فاسكوداجاما استند إلى التجربة العملية للعرب. أما القائد البحري والسياسي البرتغالي ألبوكيرك فيدين بفتوحاته لمنطقة عمان والخليج الفارسي إلى خريطة بحرية من عمل ربان عربي. وذلك الخلاف الضخم بين النظرية والخبرة العملية لم يكن في مصلحة العلم والأدب الجغرافي العربي؛ فقد عرفت أوروبا كيف تستغل الموقف.
في القرن الخامس عشر تمكن علماء أوروبا -بفضل الرحلات البحرية والطواف حول العالم- من التحرر من نظريات الجغرافيا الرياضية، كمصنفات الفراغاني والبتناني، فظهرت أولى الخرائط البرتغالية والإيطالية التي أطلق عليها البرتولاناتportolans ، ومع ذلك ظهر في القرنين الخامس عشر والسادس عشر مؤلفون ومصنفات ذات شهرة كبيرة بالجغرافيا الملاحية، وتميزت هذه الكتابات بالبعد عن القصص والأسفار البحرية التي كانت معروفة بالأدب الجغرافي الملاحي العربي سابقًا، وعرفت بأدب المرشدات البحرية، أو ما يطلق عليه الراهنامج أو الرهماني، وتحتوي على خبرة الربابنة في جميع المسائل الملاحية، ودلائل الطرق البحرية.
كانت ذروة التأليف الفلكي الملاحي بكتابات أحمد بن ماجد، ومعظمها صِيغَ شعرًا، وله واحد من مصنفاته الكبرى نثرًا؛ وهو “كتاب الفوايد في أصول علم البحر والقواعد”، وفصّل فيه الكلام النظري والعملي بالمسائل الملاحية والجغرافيا الملاحية، معتمدًا على خبرة من سبقوه وتجاربه الشخصية. وتحمل منظومة ابن ماجد الشعرية اسم الأراجيز، مع أنها لم تنظم جميعها ببحر الرجز، وتعالج كل واحدة منها طريقًا بحريًّا. وهناك ملاح عربي آخر هو سليمان المهري، وله أثر كبير في الأدب الملاحي، وآثاره مكتوبة نثرًا.
ظهر الأدب الملاحي التركي على يد الملاح والشاعر التركي “سيدي علي ريس”، أو علي جلبي، وقد اعتمد على ابن ماجد والمهري في مصنفه “الأوقيانوغرافيا Oceanography. أما الملاح “بيري ريس”، الذي استند في مجهوده العلمي إلى قاعدة أكبر وأوسع مما استند إليه سيدي علي ريس، فاعتمد على المعارف الشرقية والغربية، وبذلك وجد الأدب الجغرافي الملاحي العربي طريقه إلى الدوائر العلمية الأوروبية، وقدم بيري مؤلفات كثيرة، ومنها أطلس ملاحي كبير بعنوان “بحرية”، وخريطة كبيرة للعالم بها تأثيرات خريطة كولومبوس، وتبوأ ابن ماجد وبيرى ريس مركزي الصدارة في الأدب الملاحي العربي والتركي.
ولقد حدثت حركة تاريخية فريدة لدى الأتراك العثمانيين، خاصة إحياء العلوم الكلاسيكية، وتجدد في عهد السلطان محمد الفاتح (1451- 1481) الاهتمام بمصادر الجغرافيا العربية بترجمة أعمال بطلميوس، وفي نهاية القرن السادس عشر ترجمت بعض مؤلفات الإصطخري والقوشجي، وتجاوز الاهتمام بالجغرافيا الكلاسيكية؛ فتُرجم الوصف الفارسي للصين الذي دوّنه علي أكبر، وكذلك كتاب ابن الجيعان في وصف مصر بمخطوط معنون بـ”ذكر أقاليم ديار مصر”، وكوزموغرافيا القزويني، وخريدة ابن الوردي، وكثير من الأدبيات الجغرافية.
أسهمت الجغرافيا الوصفية التركية بكثير من المؤلفات، ومنها “كنه الأخبار” لمصطفى بن علي جلبي، وظهر أهم مصنف جغرافي باللغة التركية، وهو “مناظر العوالم” لمحمد عاشق، واعتمد فيه على تقسيم الأقاليم السبعة لبطلميوس، وهو نتاج تجوال طويل دام عدة سنوات لمؤلفه، ووصل فيه إلى مدينة دربند الروسية؛ لذلك يعد هذا العمل المتوج لتاريخ الفترة الشرقية للأدب الجغرافي التركي.
في القرن السابع عشر ظهر اثنان من كبار ممثلي الأدب التركي في المحيط الجغرافي، ومزجا بين الاتجاهين القديم والحديث، وهما مؤرخ الأدب والجغرافيا حاجي خليفة، وأهم أعماله “جهانامه”، و”تحفة الكبار بالجغرافيا الملاحية”، والرحالة الشهير أوليا جلبي؛ فقد كان القرنان السادس عشر والسابع عشر عصر ازدهار الأدب التركي بمادته الجغرافية الحافلة، وتراجع تأثير الأدب الملاحي العربي في التركي بعد القرن السابع لنفوذ الأدب الأوروبي، لكن في القرن الثامن عشر حدثت حركة لاستعادة المجد القديم في زيه الجديد، متمثلة في إدخال فن الطباعة بتركيا بالحروف العربية، وهو ما أسهم في نشر الآثار الجغرافية القديمة والحديثة وترويجها، وانتشرت مؤلفات رحلات سفراء فرنسا وبولندا وروسيا.
لم يكن القرن السادس عشر قرنًا ثريًّا في مؤلفاته في الأدب الجغرافي العربي، غير أن نمط الفضائل والرحلات حقق رواجًا كبيرًا في سوريا، واشتهر بين الأوروبيين مصنف عربي ترجم إلى الفرنسية لعبد القادر بن محمد النعيمي عنوانه “تنبيه الطالب وإرشاد الدارس لأحوال مواضع الفوائد بدمشق كدور القرآن والحديث والمدارس”، عدَّدَ فيه فضائل دمشق وغيرها. أما نمط الرحلات فقد ارتبط عدد كبير من رحلات هذا العصر بالدولة العثمانية، إما ببعثات دبلوماسية وإما برفع تظلمات، وأدّت المسافة دورًا كبيرًا لقرب سوريا من عاصمة الخلافة العثمانية، فقدّم بدر الدين محمد الغزي العامري وصفًا للمدن التي مر بها خلال رحلته إلى القسطنطينية.
ولم تقتصر الرحلات على السوريين فقط؛ فهناك رحلات أخرى في جميع الأقطار العربية، وأثرى المؤرخ قطب الدين النهراوالي الأدب الجغرافى بوصف زيارته لإسطنبول في مؤلفه “الفوائد السنية في الرحلة المدنية والرومية”.
لم يأتِ الأدب الجغرافي العربي بجديد في القرنين السابع عشر والثامن عشر مقارنة بالقرون السابقة، فقد ظلت الحال مقتصرة على أدب الفضائل والرحلات، وكانت سوريا والمغرب أكثر بلدين منتجين للأدب الجغرافي حينئذ، وظهر أهم مصنفين في المصنفات الأدبية الجغرافية؛ الأول رحلة مكاريوس الأنطاكي إلى البغدان (مولدوفيا) والأفلاق (ولاشيا في رومانيا) والأوكراين (أوكرانيا) وبلاد المسكوف (إمارة موسكو)، وبذلك تجول مكاريوس في مناطق لم تجد في هذا العصر صدى بالأدب العربي، ولا يوجد لها وصف مفصل في أي موضع آخر مثل مولدوفيا، ومكنته رحلته الطويلة التي سارت ببطء من التعرف إلى عشرات الشخصيات المهمة في مختلف الميادين، فضلًا عن اتحاد الأوكراين مع روسيا، والحرب ضد بولندا، وانتشار الطاعون، فلا تقل الأهمية التاريخية للكتاب عن الأهمية الجغرافية. أما المصنف الثاني فهو كتاب المقري التلمساني “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب”، وقد دوّن فيه رحلته إلى الأندلس، ورغم افتقاره إلى بعض المهارات الكتابية فإنه يمثل قبسًا من نور في فترة معتمة من تطور الأدب الجغرافي في القرن السابع عشر.
تميز هذا القرن أيضًا بوجود مصنفات عربية مسيحية، ومنها رحلة الشماس إفرام إلى طور سيناء، وتكمن أهميتها في تضمنها تفاصيل تاريخية وأثرية، ووصفًا مفصلًا لدير سانت كاترين، والطريق من القدس إلى سيناء. كذلك الرحلة الطويلة لإلياس بن حنا الموصلي إلى أمريكا، التي ذكر فيها جميع المدن والأماكن التي مرّ بها، وتتسم مادته الجغرافية بالصحة، وتعد رحلته أول كتابات الأدب العربي عن العالم الجديد على نحو عملي وتطبيقي.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.