في تسلسل زمني رائع ومحكم، تناول كراتشكوفسكي في مؤلفه الكبير تطور تاريخ الأدب الجغرافي العربي من القرن السادس حتى القرن الثامن عشر الميلادي. يقع الجزء الأول من الكتاب المترجم في ستة عشر فصلًا تتناول الأدب الجغرافي العربي منذ الشعر الجاهلي حتى ابن خلدون، أي في الفترة الممتدة بين القرنين السادس والخامس عشر الميلاديين.
بدأ المؤلف بتناول “الأدبيات الجغرافية عند العرب قبل ظهور المصنفات الجغرافية الأولى”، وذلك من خلال ما ورد في الأدب الشعبي والشعر الجاهلي الذي يعد مادة لا تنضب من المعارف الجغرافية، فهناك على الأقل موضعان جعرافيان في أي قصيدة منه، وقد مهد هذا النوع من الشعر لظهور الأدب الجغرافي العربي. اعتمدت أيضًا المعارف الجغرافية على ما خلفته الرحلات التجارية في وصف الطرق والآبار والجبال، وغير ذلك. ومع أن معرفة العرب قديمًا لم تتعدَّ حدود جزيرتهم فإنهم عرفوا الاهتداء بالقمر، ولاحظوا علاقته بالمجموعة الشمسية، وحددوا منازله، والطقس، ووقت الزراعة والأنواء.
ويذكر كراتشكوفسكي مجالًا آخر للمعلومات الجغرافية فيما ورد في الـقـرآن الـكـريــم والحديث الشريف، ويعد نمطًا جغرافيًّا قائمًا بذاته، ويُطلق عليه “الجغرافية الأسطورية”.
أدت الفتوحات الإسلامية لاتساع المعارف الجغرافية ليس لإثراء الأدب الجغرافي فقط؛ ولكن لنشر تعاليم الدين، فبعض الأحاديث ذكرت أبعد أماكن نائية عرفها العرب، مثل “اطلبوا العلم ولو في الصين”، وكانت أولى محاولات العرب لرسم الخرائط في أوائل القرن الثامن الميلادي.
كانت الجغرافيا العلمية أوَّل ما عرف العرب من الجغرافيا، وظهرت في شكل الجغرافيا الرياضية والفلكية بالعصر العباسي، فقد نقل العرب عن الحضارة الإيرانية التي استوعبت العلوم الهندية، واعتمدوا على رسالة الفلك الهندية التي عرّبها الفزاري ويعقوب بن طارق إلى كتاب “السند هند”، واعتمد عليها الفزاري لوضع جداوله الفلكية (الأزياج) بإضافات جوهرية وتعديلات؛ مما أتاح الفرصة لتطور علم الفلك والجغرافيا الرياضية، وقدم أكبر عالم رياضيات في عصر المأمون، وهو “الخوارزمي”، كثيرًا من الأدبيات العلمية، وخاصة الجداول الفلكية، واستمر تداولها حتى القرن الحادي عشر. ومنذ بداية القرن التاسع أصبح المذهب اليوناني هو السائد، خاصة أن المذهبين الهندي والإيراني لم يسردا البراهين والأدلة؛ بل شرح القواعد وطريقة الاستخدام للجداول، فتحول العرب إلى مصنفات إقليدس وبطليموس، خاصة بعد ترجمة كتاب المجسطي ببيت الحكمة، ويحسب للعرب في تلك الفترة إعادة تجربة قياس الأرض لإراتوستين.
اكتسب الخوارزمي صيتًا عريضًا في النصف الأول من القرن التاسع، فأطلق على عصره عصر الخوارزمي، وإليه يرجع الفضل في بزوغ فجر جديد بعلم الرياضيات، وهو الجبر، وقد استند في تقسيمه لأقاليم الأرض السبعة إلى التقسيم اليوناني. عاصر الخوارزمي يعقوب الكندي والبتاني، الذي قدم زيج البتاني، وقضى حياته يرصد الأجرام في مرصد الرقة، وقد صوب بعض أعمال بطلميوس في كتابه “المقالات الأربع”، ولم يصل إلينا منه سوى الزيج الصابئي. في تلك الفترة أيضًا ظهر ثابت بن قرة، ونصير الدين الطوسي، الذي كتب بالعربية والفارسية، وكذلك تلميذه الشيرازي، فقد فاقت موهبتهما العلمية حدود الجغرافيا الرياضية.
في القرن نفسه بدأت الجغرافية الوصفية تتشكل، واشتغل بها اللغويون، وظهر ذلك في كتب الأنواء التي ضمنها اللغويون جميع الملاحظات عن الطقس وظواهره الطبيعية مصحوبة بتعليقات لغوية وغير لغوية، وربطوا بين الأنواء وحركات منازل القمر. ومع أن الاهتمام اللغوي بالظواهر الجغرافية طغى على المنهج الواقعي فإن ضخامة المادة في تلك المؤلفات كانت كفيلة بالكشف عن نواحٍ أخرى للصورة. ومن أمثلة ذلك كتاب”الصفات” للنضر بن شميل. أما في الجغرافيا الإقليمية فانصرف اللغويون فيها إلى جزيرة العرب، وقدم فيها السيرافي كتاب “جزيرة العرب”.
وبدأ ظهور نمط آخر من الأدب الجغرافي، تشابه -إلى حد ما- مع ما حوته مؤلفات أخرى باسم المسالك والممالك، وبعضهم أضاف مادة أدبية وجغرافية فريدة، مثل الجاحظ في كتاب “الحيوان”. وقد اختلط بهذا النوع من المعلومات الجغرافية ذكر لأصناف “العجائب والغرائب”، فتحول إلى نمط قائم بذاته من أنماط الأدب الجغرافي، وقد نقل ابن خرداذبة عن الجاحظ بعضًا من هذا الأدب، وكذلك أورد بعضه ابن حوقل.
واضطلعت السفارات والرحلات والأسرى الفارون من البيزنطيين بدور كبير في توسيع نطاق المعلومات الجغرافية. وظهرت المصنفات العامة في الجغرافيا في القرن التاسع، وكذلك الجغرافيا الإقليمية، وامتدت إلى القرنين التاسع والعاشر، وتعد أعمال ابن خرداذبة أول المصنفات الجغرافية المعروفة في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين باسم “المسالك والممالك”، فضلًا عن اليعقوبي وكتابه “البلدان”، و”صفة جزيرة العرب” للهمذاني، و”أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم” للمقدسي، ويرى المستشرق إشبرنجر (1813- 1983) أن الكتابين الأخيرين أقيم ما أنتجه العرب في الجغرافيا.
رغم انتهاء الخلافة الإسلامية بالقرن العاشر، فإنه كان بداية لعصر ازدهار الحضارة العربية، وبلغ الأدب الجغرافي أوجه، وكذلك الرحالة، الذين وصلوا إلى أصقاع روسيا. وجاء المسعودي على قائمة الجغرافيين في ذلك العصر، وقد صور الحياة الاجتماعية والثقافية في عصر الخلافة بمؤلفه التاريخي “مروج الذهب”، المتضمن فصولًا يغلب عليها الطابع الجغرافي.
ظهرت أيضًا المدرسة الكلاسيكية للجغرافيا الإسلامية التي عكست مصنفات طراز المسالك والممالك، واستندت هذه السلسلة إلى مجموعة من الخرائط تسمى أطلس الإسلام، وتمثل أوج ما بلغته الكارتوجرافيا العربية، ومثّل هذه المدرسة: البلخي بمؤلفه “صورة الأقاليم”، والإصطخري وابن حوقل بمؤلفيهما اللذين يحملان العنوان نفسه “المسالك والممالك”، وقد أثارت هذه المدرسة نقاشًا ودراسات في الغرب. وأضاف المقدسي بمؤلفه “أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم” إلى هذا النمط وإلى الأدب الجغرافي الكثير، وكذلك المهلبي والجيهاني، والأخير أخذ معلوماته من ابن خرداذبة. ويمثل القرن العاشر بجميع ميادين الأدب الجغرافي خطوة مهمة، وهو ذروة الجغرافيا العربية. ومع أن عدد المصنفات الجغرافية لم ينقص في العصور التالية، لكن لم يحدث أن ظهر في وقت واحد هذا العدد الضخم من الكتّاب البارزين.
مثل البيروني أعظم شخصية علمية في القرن الحادي عشر بميدان الجغرافيا والرحلات، مع أنه لم يكن جغرافيًّا، فشملت دائرة معارفه العلوم المعاصرة، وعلى رأسها الرياضيات والفيزياء، ولفت كتابه “الآثار الباقية عن القرون الخالية” أنظار علماء الغرب المعاصرين، ومنهم المستشرق الروسي روزن، ووصلت شهرته إلى أوروبا في سبعينيات القرن التاسع عشر بفضل جهود المستشرق الألمانى زاخاو Sachau (1845- 1930)، وهو مؤلف لا مثيل له في جميع آداب الشرق الأدنى، وقد امتازت آراء البيروني بالدقة بشأن عدد من المسائل الجغرافية، خاصة دوران الأرض حول محورها، وخضوع منابع المياه لقواعد الهيدروستاتيكا، وكثير من مسائل الجغرافيا الرياضية، ونقل عنه ياقوت الكثير.
على الجانب الآخر من الغرب العربي ظهرت مؤلفات البكري والإدريسي وابن جبير، الذي أبدع في وصف نمط الرحلة بالأدب، فوصل الأدب الجغرافي العربي إلى ذروته معه، خاصة وصفه للأبنية. كما أضاف بعض اللغويين في هذه الفترة بعضًا من الأدب الجغرافي، مثل الزمخشري بمؤلفه “كتاب الأمكنة والجبال والمياه”.
يعد القرن الثالث عشر الميلادي حدًّا فاصلًا في تاريخ القسم الشرقي العربي، وكذلك بين تطور الأدب الجغرافي ما بين شرق العالم العربي وغربه، فمع الغزو المغولي للمشرق العربي والإسلامي انتقل مركز الحضارة الإسلامية للغرب إلى دمشق، ثم القاهرة. وظهر في تلك الفترة أهم مؤلف تجاوز حدود الأهداف الجغرافية، وهو كتاب “معجم البلدان” لياقوت الحموي، الذي جمع الجغرافيا في صورتها الفلكية والوصفية واللغوية والتاريخية، والأثنولوجيا والأدب الشعبي والرحلات، ونقلت معارفه إلى أوروبا بالتدريج منذ القرن السابع عشر الميلادي على يد علماء مدرسة الاستشراق الهولندية. ويشير كراتشكوفسكي إلى أن طبع معجم ياقوت الواقع في ستة أجزاء بين عامي 1866 و1873 إحدى الخدمات الجليلة التي طوق بها المستشرق الألمانى فرديناند فستنفيلد) 1808- 1899) عنق الاستعراب العالمي.
في النصف الثاني من القرن الثالث عشر، وفي أعقاب الغزو المغولي، ظهرت أنماط أخرى احتلت نفس مكانة مصنفات ياقوت في محيط الأدب الجغرافي، ومنها أعمال القزويني، وأبي الفدا، والدمشقي، وابن سعيد. وبلغ صيت القزويني مبلغًا كبيرًا لدى العلماء الأوروبيين؛ فهو أكثر قربًا إلى القراء، وتعد كوزموغرافيا القزويني المعروفة بـ”عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات” أكبر كتاب في هذا الفن مبسط للعلوم بطريقة نابغة، ومهارة في عرض المادة العلمية بحيث لا تنفر القارئ العام، وقد بدأ هذا النمط من الأدب الجغرافي نهاية القرن الثاني عشر، وتطور في القرن الثالث عشر.
ويرى البعض أن مصنفات الأدب الجغرافي لدى مدرسة القزويني تمثل تدهورًا نسبيًّا، حيث تفتقر إلى أصالة البحث، وعمق التحليل؛ فمؤلفو هذه الأعمال غالبًا متصوفة على نحو بدائي، يرون في كل شيء معجزات الخالق، ولم يبدعوا؛ بل اكتفوا بالنقل والجمع، لكن نقلهم اتسم بالأمانة، وبلغوا درجة رفيعة في التصنيف التركيبي. والميزة الكبرى للقزويني في بلوغه بهذا النمط أقصى درجة من الإبداع الفني، وانضم إلى هذا الاتجاه في العصور التالية الدمشقي، وابن الوردي.
تضاءل نصيب الأندلس في القرن الرابع عشر الميلادي من تطور الأدب الجغرافي؛ لأن غرناطة كانت المركز الوحيد في شبه القارة الإيبيرية المخصص للعرب. في المقابل، احتلت مصر المكانة الأولى في سعة الإنتاج الأدبي في ذلك الوقت. وقد أطلق كراتشكوفسكي على الأدب الجغرافي العربي في القرنين الرابع والخامس عشر الميلاديين “الأدب المملوكي”؛ بسبب تفوق مصر على المستوى الفكري ليس في الأدب الجغرافي فحسب؛ بل في نمط أدبي حافل ليس له مثيل في بلدان الشرق الأوسط، فاكتسب أدبها طابعًا مميزًا لوجود نمط الموسوعات، التي أُفرد فيها للجغرافيا مكانة مرموقة.
والموسوعات طراز مصري صرف، وضعها علماء حكومة عصر المماليك وحكماؤها، وقد وضعت أساسًا لكتبة الدواوين في الجهاز الإداري لمصر، لكن المثقفين اهتموا بها، فأولى المؤلفون اهتمامًا أدبيًّا بها، وهى أوسع من المؤلفات السابقة؛ لأنها تولي اهتمامًا بالتاريخ والحضارة. وتعد موسوعتا النويري والعمري أهم موسوعات عهد المماليك، وقد سبقهما الوطواط بموسوعته “مباهج الفكر”، أما النويري فقد استغرق عشرين عامًا في تأليف موسوعته “نهاية الإرب في فنون الأدب”، وقسمها إلى عدة أقسام (السماء، الأرض، الإنسان، الحيوان، النبات، التاريخ). وقد اهتمت الأوساط العلمية الأوروبية بهذا المؤلف الضخم منذ القرن الثامن عشر، ووصفوه بأنه لا يخلو من مادة قيمة تهم الجغرافي وغيره.
أسهم العمري أيضًا بموسوعة “مسالك الأبصار في ممالك الأمصار”، وكذلك القلقشندي بموسوعته “صبح الأعشى في صناعة الإنشا”. كذلك ظهر نمط مسح الأراضي المعروف باسم”الروك”، مثل الروك الناصري لتقسيم الأراضي.
أثرت مؤلفات ابن بطوطة الأدب الجغرافي العربي في القرن الرابع عشر، فقد كان آخر جغرافي عالمي من الناحية العملية، لكن معرفة الاستعراب الأوروبي له جاءت متأخرة بكثير عن معرفتهم بالإدريسي، ويرجع الفضل في وصول مخطوطاته إلى أوروبا إلى كل من بوركهارت وزايتسن Seetzen.
برز الأدب الجغرافي في المغرب العربي خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين، وتبوأ ابن خلدون مكانة مهمة في ذلك الوقت بمؤلفه الفريد “المقدمة”، الذي يعد جزءًا من موسوعته التاريخية التي تحمل عنوان “العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”.
ومع أن ابن خلدون وُلد في القرن الرابع عشر، وتوفي بداية القرن الخامس عشر (1323 -1406)فإن مقدمته، التي تبلغ ثلث حجم كتابه الموسوعي، كانت تستهدف وضع علم جديد في الحضارة البشرية، وجمع فيها خلاصة معارف العصور السالفة بمختلف الميادين، وامتد أثره حتى القرن الخامس عشر، ولاحقًا تنبه لها العلماء المعاصرون، ومع ذلك، كانت الجغرافيا فيها مخيبة للآمال؛ لأن معلوماته لم تخرج عن نطاق المعروف لدى بطلميوس والإدريسي، فلم يضف جديدًا في وصف الأقاليم، بل تارة يسير على النمط اليوناني بصورته العربية، وأخرى يتبع تصنيف إخوان الصفا، لكن مع ذلك، كانت مادته أغزر وأكثر تفصيلًا؛ لأنه رجع إلى مصادر كثيرة، منها ابن سعيد وياقوت. وتمتاز كتابات ابن خلدون في أقسام الجغرافيا الاقتصادية بقيمة لا يجاريه فيها أحد، وكذلك العمران البدوي، والأمم الوحشية، والقبائل والبلدان والأمصار، ويحسب له اهتمامه بالأمم المتحضرة، وتلك واقعة نادرة في الأدب الجغرافي العربي. أما تصنيفه للأجناس فقد وصل إلى مكانة لم يصل إليها علماء الاجتماع والاقتصاد والأجناس بعد.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.