تاريخ

الأوراسيون الجدد والفكر الحضاري في روسيا (2/ 2)


  • 30 نوفمبر 2024

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: rabkor

نكمل في هذا المقال رؤية الباحث الأمريكي غوردون هان عن الأوراسية الجديدة في روسيا، وعلاقتها بالحرب في أوكرانيا وفقًا لما جاء في كتابه الشهير “أوكرانيا على الحافة.. روسيا والغرب والحرب الباردة الجديدة”. عرضنا في المقال الأول لرواد الأوراسية في القرنين الماضيين، ونتناول هنا مرحلة الأوراسية الجديدة.

الفكر الأوراسي بعد تفكك الاتحاد السوفيتي

لقد شهد الفكر الأوراسي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي صحوة حذرة تمثلت في إعادة نشر أعمال تروبيتسكوي وغيره من الأوراسيين، وسبق ذلك نشر هذه الأعمال في السنوات الأخيرة من البيريسترويكا، ويبدو أن بعض هذه الأفكار تسللت إلى بعض أروقة السلطة الروسية.

وتكرارًا لتجربة الأوراسيين الرواد في القرنين التاسع عشر والعشرين، استجاب الأوراسيون الجدد في القرن الحادي والعشرين لتحدي فشل روسيا في التعامل مع الغرب و”التغريبيين”.

ويعد كل من بانارين ودوغين أبرز الأمثلة على الفكر الأوراسي الجديد المعاصر. ويبدو أن هؤلاء الجيوستراتيجيين قد تأثروا بماكيندر وغيره من أصحاب الأيديولوجيات الحضارية الأوراسية؛ مما يعكس وظيفة الجغرافيا بوصفها القاعدة والبنية الأساسية.

يشكل المنظور الحضاري الأوراسيوي متغيرًا وسيطًا رئيسًا بين السبب البنيوي للجغرافيا من ناحية، والأيديولوجية وصنع السياسات من ناحية أخرى، تمامًا كما نجح نهج صمويل هنتنغتون الحضاري في ربط الجغرافيا وتحليل ماكيندر الجيوسياسي بالأيديولوجية والسياسة الغربية.

واليوم، في القرن الحادي والعشرين، ومن خلال التعمق في أعمال سافيتسكي وتروبيتسكوي وغوميليف، يعمل أتباع الأوراسيوية الجدد على إعادة صياغة ونشر بديل روسي مركزي للنموذج الحضاري الغربي في فترة ما بعد الحرب الباردة.

ويستند النموذج الغربي إلى ثلاثية واضحة هي:

  • الاقتصاد النيوليبرالي،
  • مجتمع المعلومات المفتوح،
  • التدخل السياسي والعسكري خارج مجتمع الديمقراطيات عبر الأطلسي.

ولكن الحقيقة الواضحة أن هناك عوزًا عقَديًّا وافتقارًا أيديولوجيًّا فيما يحاول أن يطرحه الأوراسيون الجدد بديلًا لهذا النموذج الغربي.

ورغم هذا الافتقار الأيديولوجي اتسعت خريطة التطلعات الجغرافية لدى الأوراسيين الجدد بدرجة تفوق ما كان متصورًا لدى رواد الحركة الأوراسية الأصلية.

ألكسندر بانارين  Aleksandr Panarin

يؤكد بانارين صراحة أن الغرب “لم يرفض روسيا في (البيت الأوروبي) فحسب؛ بل حاول أيضًا منعها وعزلها داخل الفضاء ما بعد السوفيتي باستخدام المشاعر المعادية لروسيا”.

ويهون بانارين من هذا الرفض قائلًا: “ولكن هذا الرفض الأوروبي لروسيا ليس مصدر قلق؛ لأن النجاح الإبداعي الرئيس للحضارة الروسية (روسيسكايا) يتلخص في القدرة على تشكيل توليفات عرقية كبيرة، وكان هذا هو ردها على تحدي امتداد سهول السهوب”.

على هذا النحو، يتصور بانارين ومن يتبنى فكره من أتباع الحركة الأوراسية الجديدة، على نحو أكثر اتساقًا من أسلافهم، مصيرًا روسيًّا يسوعيًّا أو مسيحانيًّا (رساليًّا) في تشكيل عرقية أو حضارة عظمى لا تشمل فقط قلب أوراسيا، بل ربما حافتها الممتدة من جنوب شرق آسيا إلى الجنوب الإسلامي إلى وسط أوروبا.

في منهج بارانين وأنصاره، يتعين على روسيا -في خطوتها الأولى- أن تسعى إلى “إعادة دمج الفضاء ما بعد السوفيتي على أساس فكرة تكوينية جديدة”. ويبدو أن نموذج بانارين الشامل للتنوع الحضاري مصمم لمواجهة العولمة المتجانسة التي يهيمن عليها الغرب و”الهمجية التي تتجلى فيما يسمى “صراع الحضارات”.

بالنسبة لبانارين، فإن روسيا قادرة على أن تكون قوة التحديث الكبرى للشرق، ومنبع الإصلاح لخراب الغرب في الوقت نفسه.

وفق هذا النهج، فإن الجذور الثقافية الأوروبية والسلافية لأوراسيا تجعلها الجسر المنطقي الذي يمكن من خلاله توليف شكل أكثر روحانية واستدامة من أشكال التنمية العالمية في أوراسيا الأقل نموًا، وتقديمه إلى أوروبا بديلًا للكارثة البيئية العالمية التي يتنبأ بها بانارين، والتي قد تنجم عن سيطرة الولايات المتحدة على العالم؛ أي إن بانارين، على غرار المفكرين الروس الرواد في الماضي، مثل فيودور دوستويفسكي وفلاديمير سولوفيوف، يعتقد أن بوسع روسيا إنقاذ العالم من خلال الحركة الأوراسية الجديدة.

إن هذه النزعة الأوراسية الجديدة شبه العالمية الأكثر توسعًا هي تطلعات طموحة جدًا، وليست ذات حدود معرفة ماديًّا أو روحيًّا.

ويشكك بانارين في الوجهة النهائية التي ستتجه إليها دول السلاف وأوروبا الشرقية وأوروبا الوسطى، فبعد أن وقعت هذه الدول بين ألمانيا وروسيا، فإنها محكوم عليها في أحسن الأحوال بألا تتجاوز  مرتبة دول من الدرجة الثانية في الغرب، وهذا ما يصرح به صراحة فيما يتصل بالدول السلافية في هذه المناطق.

ومن المفترض أن دول السلاف ومناطق أوروبا الشرقية والوسطى “مهتمة موضوعيًّا بوجود بديل جيوسياسي روسي. وفي ظل روسيا القوية فإن وضع دول السلاف في أوروبا الوسطى سوف يكون في كل الأحوال أعلى وأكثر قبولًا مما هو عليه في ظل روسيا الضعيفة”.

لكن تحليل بانارين يتضمن أن روسيا تشكل اليوم للدول السلافية اعتبارًا ثانويًّا مقارنة بتطلعاتها إلى أن تصبح أوروبية بالكامل. وفي هذا السياق الأخير فقط تصبح روسيا مهمة، وباعتبارها رافعة يمكنها استخدامها لتعزيز مواقفها في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، والغرب عامةً.

إن أفضل ما يمكن لروسيا أن تأمله هو إقامة رابطة بين الشعوب السلافية تجعلها على بعد خطوة واحدة من أوروبا ومؤسساتها، ولكن هذا لن يحل مشكلات انفصال السلافية عن روسيا، وتحول أوروبا الشرقية والوسطى إلى نطاق جيوسياسي حاجز أو عازل بينها وبين حدود المشروع الأوراسي الجديد.

وعلى المستوى الأيديولوجي، يؤكد الأوراسيون الجدد، مثل أسلافهم الأوراسيين ومعاصريهم من أتباع هنتنغتون، الدور المركزي الذي يؤديه الدين في تشكيل الحضارة. ويركز الأوراسيون الجدد على الأديان التقليدية، وخاصة القرابة الفريدة بين الحضارة الروسية الأرثوذكسية والتصوف في الديانات الكبرى الأخرى في أوراسيا -الإسلام، والكونفوشيوسية، والبوذية، والهندوسية.

ووفقًا لبانارين، فإن الدور المسيحاني لروسيا يتلخص في “اقتراح توليفة جديدة قوية فائقة الطاقة على شعوب أوراسيا” تقوم على عمودين: “المحافظة الشعبية”، و”التنوع الحضاري”.

 إن المبدأ الأساسي لـ”مهمة المحافظة الشعبية” الروسية الأوراسية هو “المحافظة الاجتماعية الثقافية”، التي يتلخص هدفها في الحفاظ على الثقافات التقليدية لأوراسيا والعالم، والتصوف الديني، والتنوع والتعددية العرقية والحضارية، في مواجهة العولمة ذات الإطار الغربي، والتجانس الثقافي.

وبوسع روسيا أن تقفز فوق مرحلة الصناعة المتقدمة إلى مرحلة تنمية أعلى قائمة على التكنولوجيا النظيفة. وسوف تقود أوراسيا والعالم إلى عالم جديد ما بعد الصناعة، وبيئي في نزعته الثقافية، ومتعدد الحضارات، يرفض “التكنولوجيا” المناهضة للثقافة، والاستهلاك، والتجانس الذي تتسم به النظرة العالمية الأمريكية “العديمة الروح” التي تهدد الطبيعة والثقافات الوطنية.

ويؤمن بانارين، ومن في نفس مدرسته، بأن الغرب أفرط في الاعتماد على عقلانية العلوم المادية والاجتماعية (وخاصة اقتصاد السوق)، والتكنولوجيا، والتكنوقراطية.

ألكسندر دوغين

يتوقع دوغين، في دعمه لبانارين، مواجهة كارثية بين الخير والشر: بين “النظرة التجارية والفردية والمادية والعالمية” للأطلسية و”الروحانية والأيديولوجية والجماعية والسلطة والتسلسل الهرمي والتقاليد” لروسيا الأوراسية.

ففي مقاله الذي نُشر عام 2014 بعنوان “أوراسيا في حرب الشبكة”، قدم دوغين قائمة شاملة من المتضادات الثقافية التي تقسم أوراسيا والغرب بمصطلحات ماكيندرية: “إما أن نكون على جانب حضارة الأرض، وإما أن نكون على جانب حضارة المحيط. الأرض هي التقاليد والإيمان (في نظر الروس العرقيين ـ المسيحية الأرثوذكسية)، والإمبراطورية، والشعب، والمقدس، والتاريخ، والأسرة، والأخلاق. والمحيط هو التحديث، والتجارة، والتكنولوجيا، والديمقراطية الليبرالية، والرأسمالية، والبرلمانية، والفردية، والمادية، وسياسات النوع الاجتماعي.

وفي كتابه “الطريق الأوراسي كفكرة وطنية”، افترض دوغين الدور المسيحاني لروسيا، وعبّر عن ذلك بقوله: “إن روسيا وحدها في المستقبل قادرة على أن تصبح القطب الرئيس، والملاذ للمقاومة الكوكبية، ونقطة التجمع لجميع قوى العالم التي تصر على مسارها الخاص، وتبالغ في أنانيتها الوطنية والدولية والتاريخية”.

في كتابه “أسرار أوراسيا”، يؤكد دوغين أنه كانت هناك ذات يوم جزيرة أقرب إلى الجنة القطبية (هايبربوريا)، انتقل منها عرق آري نقي، أسلاف الروس، إلى القطب الشمالي؛ أي إن المفكرين الروس من أنصار الأوراسية الجديدة يرجحون ظهور روحانية تقليدية جديدة تتواصل مع الطبيعة والله، وسوف تكون، -وفقًا لمصطلحات هيجل- النقيض الجديد لأطروحة العولمة التكنولوجية، وتنتج حضارة جديدة ومستوى جديدًا من الحضارة.

ومع ذلك، وعلى الرغم من التأكيد المتكرر في خطاب روسيا الأوراسية على المساواة بين شعوب أوراسيا وثقافاتها، تظل روسيا  في نظر كثير من الأوراسيين اليوم “الأولى بين المتساوين”، وتمتلك ما سمّاه دوستويفسكي “عالمية روسيا” القائمة على القرابة الثقافية، والقدرة على الشراكة مع الحضارات الأخرى، وما لذلك من فوائد ومنافع للمجموعة الشريكة.

الأوراسيون الجدد في الكرملين

يذهب الكتاب الذي بين أيدينا إلى الترجيح بأن أفكارًا أوراسية جديدة تتبدى بوضوح في التصريحات العامة للمسؤولين الروس؛ ففي أغسطس (آب) 2015، أعاد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف أفكار بانارين بشأن الحاجة إلى مقاومة الجهود الغربية الظاهرية لفرض مجموعة متجانسة من المعايير الدولية والمجتمعية تحت عنوان الديمقراطية. يقول لافروف في هذا الصدد:

“نرى محاولات للحفاظ على الهيمنة (الغربية) على نحو مصطنع، حتى من خلال الضغط على البلدان الأخرى، واستخدام العقوبات، وحتى القوة العسكرية، في انتهاك للقانون الدولي، وميثاق الأمم المتحدة، وهذا يضيف عنصر الفوضى إلى العلاقات الدولية، ويحول مناطق ودول بكاملها إلى جيوب للإرهاب والتطرف العنيف، وكثير من الأشياء السلبية الأخرى، التي نراها تحدث -مع الأسف- في معظم أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”.

وعلى الرغم من “الحرب الباردة الجديدة” الناجمة عن الأزمة الأوكرانية، ردد لافروف خطابات بوتين عن الدور المحتمل للاتحاد الاقتصادي الأوراسي بوصفه جسرًا اقتصاديًّا وتجاريًّا بين منطقة آسيا والمحيط الهادئ والاتحاد الأوروبي، حين أعرب بالقول:

 “إن الاتحاد الاقتصادي الأوراسي لديه القدرة أن يصبح حلقة وصل بين عمليات التكامل في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وما يعمل عليه زملاؤنا في أوروبا إلى الغرب من الاتحاد الاقتصادي الأوراسي”.

هذا التصريح يعكس بوضوح أن الأوراسية الجديدة التي يتبناها بوتين هي نزعة اقتصادية عملية، ولا علاقة لها بالنيو- أوراسية التقليدية المثالية، أو الصوفية، أو الإمبريالية.

خاتمة ونتائج

ينتهي الكتاب الذي بين أيدينا في دراسته مسألة الأوراسية الجديدة إلى القول بأن التركيز الروسي على التعددية القطبية بوصفها البنية “الديمقراطية” الناشئة المناسبة للنظام الدولي قد تأسس أولًا، في مرحلته الأولى، مع تعيين يفغيني بريماكوف وزيرًا للخارجية الروسية في أواخر تسعينيات القرن العشرين، أي قبل فترة طويلة من حكم فلاديمير بوتين؛ لذا فمن الصعب فصل التعددية القطبية والأوراسية الجديدة عن نظرة بوتين إلى العالم، ونظرة كبار المسؤولين الآخرين في السياسة الخارجية.

وعلى نحو مماثل، لا يوجد فصل جغرافي كبير بين أفكار مثل “الفضاء ما بعد السوفيتي”، والاتحاد السوفيتي السابق، وما إلى ذلك، وبين أوراسيا الجغرافية، وأنه قبل وصول بوتين إلى السلطة بعدة سنوات كانت الجهود الرامية إلى توحيد الفضاء الجغرافي ما بعد السوفيتي/ الأوراسي اقتصاديًّا و/أو سياسيًّا قد سبقت بوتين، بما في ذلك: كومنولث الدول المستقلة (1991)، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي (1992)، والاتحاد الأوراسي. وقد اقترح الرئيس الكازاخستاني نور سلطان نزارباييف الاتحاد الأوراسي لأول مرة في عام 1994.

والخلاصة أن بوتين من أتباع الرؤى الأوراسية الجديدة المعتدلة، مع التركيز على دور الشعوب التركية في توحيد أوراسيا في التحالف مع روسيا، حتى إنه افتتح جامعة ليف غوميليف التي تديرها الدولة في ألما آتا في تسعينيات القرن العشرين.

إن خطابات بوتين وكتاباته لا تعكس تفكيرًا أوراسيًّا منهجيًّا أو واضحًا، ولم يستخدم بوتين كلمة “الأوراسية” قط. وهو يشير أحيانًا إلى بعض العناصر الأساسية للأوراسية الجديدة، مثل أهمية الأرثوذكسية المسيحية للثقافة الروسية، وفكرة أوراسيا الجغرافية، وحتى الحضارة الأوراسية، ولكن هذه لا ترقى إلى التفكير الأوراسي الجديد؛ فقد كانت هذه العناصر حاضرة، وكانت في كثير من النواحي مواقف افتراضية مع انهيار الشيوعية والتحول ما بعد السوفيتية عن الديمقراطية الغربية والسوق الحرة بعد الفشل في الإصلاحات الداخلية الروسية والعلاقات الروسية الغربية.

ويؤكد مؤلف الكتاب -غوردون هان- أن الحل للصراع بين روسيا والغرب، هو صياغة “نهج مشترك” على مستوى القاعدة الشعبية، وإن كانت الصعوبة تكمن في أن هذا النهج لا بد أن يتأتى في البداية من داخل الهياكل الإقليمية القائمة -الاتحاد الأوروبي، واتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، ومنتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ، ورابطة دول جنوب شرق آسيا، وغيرهاـ ثم من خلال الحوار فيما بينها. ومن خلال هذه “الأحجار” التكاملية بالذات يمكن تشكيل اقتصاد عالمي أكثر استقرارًا.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع