بعد ثلاثة أرباع قرن من تفجير أول قنبلة ذرية في صحراء نيو مكسيكو، وبعد ثلاثة عقود من نهاية الحرب الباردة، يبدو أن هناك اعترافًا في كلٍّ من الأدبيات الأكاديمية ودوائر صنع السياسات بأن «عصرًا نوويًّا جديدًا» يمكن أن يحل بنا.
هذا التحول مدفوع بمزيج من الدوافع السياسية والمعيارية والتكنولوجية، والتي عند أخذها معًا، تتحدى البديهيات والأدوات المركزية التي يقوم عليها النظام النووي العالمي وعبرها يتم الحفاظ على الاستقرار النووي، وفي نفس الوقت تغير طبيعة المخاطر النووية، وهو ما يدفعنا للتفكير في أننا على أعتاب «عصر نووي ثالث».
تشمل دوافع هذا العصر النووي الثالث ما يلي: «ظهور تقنيات غير نووية وغير ملموسة في كثير من الأحيان تؤدي إلى خلق عدد كبير من الأخطار النووية الجديدة ومسارات الاستخدام النووي؛ الإدراك التدريجي بأن العديد من الآليات المركزية للحوكمة النووية العالمية تتعرض لضغوط كبيرة أو حتى تتآكل؛ الحد من الاهتمام بالأسلحة النووية كخطر وجودي عالمي بين النخب والجمهور على حدٍّ سواء». يضاف لذلك حقيقة أننا نشهد عودة إلى السياسة النووية للقوى العظمى، وسط خطابات خطيرة ومواقف عدوانية، في نفس الوقت الذي أصبح فيه النظام النووي العالمي متعدد الأقطاب بالفعل وهو ما جعله أكثر تعقيدًا.
بالنظر إلى هذا التدفق الكبير، من الضروري أن نفكر في الآثار المترتبة على هذا الانتقال إلى ما ينذر بأنه حقبة جديدة للسياسة النووية. على الأقل، نحتاج إلى العمل الآن على إعادة تقييم الصلاحية المستمرة للأفكار والأطر الراسخة وقدرتها على إبقائنا آمنين في هذا العصر النووي الثالث الأكثر تعقيدًا والذي يحتمل أن يكون خطيرًا.
بالتأكيد، توصيف التاريخ النووي بـ«العصور النووية» (يقال إن العصر النووي الأول كان موجودًا خلال الحرب الباردة وركز على سباق التسلح بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، والعصر النووي الثاني ركز على الانتشار الإقليمي والإرهاب النووي في السنوات اللاحقة) توصيف غير كامل تاريخيًّا ويمكن اتهام هذه الفكرة بأنها تتمحور حول الغرب بشكلٍ مفرط. لكن استخدام مثل هذه البنى يساعد في تركيز تفكيرنا على المشاكل والمخاطر الأكثر إلحاحًا التي نواجهها، آملين أن تمنعنا من السير أثناء النوم، غير مستعدين إلى فصل أكثر خطورة وغير مؤكد في قصتنا النووية.
الحجة هنا هي أن البيئة المتكشفة للتغييرات في الفضاء النووي العالمي تعني أننا بحاجة إلى إعادة توجيه تركيزنا مرة أخرى، بعيدًا عن التركيز العلني لما بعد الحرب الباردة، وبعد 11 سبتمبر (أيلول) وبالتالي من المفيد التفكير في اللحظة الحالية على أنها بداية لعصر نووي ثالث متميز، حيث ستكون القواعد والتحديات والديناميكيات المركزية للعبة النووية العالمية مختلفة عن تلك التي كانت من ذي قبل.
ربما تكون السمة الأبرز للعصر النووي الثالث هي تأثير وأهمية «التقنيات التخريبية» الجديدة. بالطبع، إن تأثير التطورات التكنولوجية العسكرية على النظام النووي ليست جديدة، ولكن التحدي اليوم مختلف كونه يتشكل عبر مجموعة كاملة من الأسلحة والتقنيات التمكينية، وكثيرًا منها غير نووي وغير ملموس ومزدوج الاستخدام، وفي نفس الوقت حدث ذلك التحول الكبير في فضاء المعلومات النووية. إنها أيضًا ظاهرة عالمية بطبيعتها.
دمج الذكاء الاصطناعي والأتمتة في التخطيط النووي، والاستخدامات المحتملة لعمليات شبكة الكمبيوتر عبر المجال النووي، والطباعة ثلاثية الأبعاد وظهور قدرات الفضاء المضادة غير النووية، والتحرك نحو دفاع صاروخي كامل الطيف، وإمكانية استخدام أنظمة أسلحة بدون طيار، والحوسبة الكمومية، والتقدم في الاستشعار عن بعد، وتتبع وتطوير الأسلحة التقليدية الدقيقة بعيدة المدى (بما في ذلك الصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت) بالإضافة إلى النظام البيئي النووي الرقمي في الوقت الحقيقي، كل ذلك يخلق ضغوطًا مختلفة لعلاقات ردع مستقرة.
يبدو أيضًا أن العصر النووي الثالث يتسم بتآكل، أو على الأقل إضعاف الآليات الدولية السابقة للحد من التسلح والمعايير التقليدية لضبط النفس النووي. جزء من هذا هو الاعتراف المقلق بأن العديد من المعاهدات والهيئات التفاوضية التي تم إنشاؤها في العصرين النوويين الأول والثاني إما تحت ضغط (معاهدة عدم الانتشار) وخطر سقوط معاهدة (ستارت الجديدة ومعاهدة الأجواء المفتوحة) التي تعرضت لأضرار بالغة، والخروج من بعض الاتفاقيات: (خطة العمل الشاملة المشتركة) مع إيران، نموذجًا. أو في حالة معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى، التي ساعدت على إحلال الاستقرار في أوروبا لجيل كامل، وتم التخلي عنها تمامًا.
يمكن تفسير بعض هذا التآكل من خلال تأثير القدرات العسكرية الجديدة والمنافسات الجيوسياسية المتجددة ولكنه أيضًا انعكاس لما يبدو أنه تزايد اللامبالاة النووية بين الجماهير العالمية، وربما أيضًا بين العديد من صانعي السياسات. قد يكون هذا بدوره يساهم في ما وصفه البعض بأنه اضمحلال المحرمات النووية (وعودة القتال الحربي والخطاب النووي العدواني) وعدم الاهتمام العام بالقضايا النووية باعتبارها تهديدًا وجوديًّا للبشرية على نطاقٍ أوسع.
من المفارقات، أن هذا الوضع قد يكون تضاعف بسبب معاهدة حظر الأسلحة النووية لعام 2017، والتي يبدو أنها أدت لتزايد اتساع الشقاق والاختلافات بين من يملكون ومن لا يملكون سلاحًا نوويًّا، بدلًا من خلق مسار قابل للتطبيق إلى الأمام لتقليل المخاطر النووية.
الجزء الأخير من لغز العصر النووي الثالث هو العودة العلنية للسياسات النووية للقوى العظمى، وخاصةً في الخطاب والمواقف، ولكن أيضًا التحديث النووي والانتشار الرأسي، والتحرك الحقيقي نحو عالم نووي متعدد الأقطاب. بالتأكيد، أصبح النظام النووي بشكل أساسي متعدد الأقطاب في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي حين انضمت المملكة المتحدة ثم فرنسا إلى النادي النووي، ولكن من الواضح اليوم أن التوازنات والمخاطر النووية في الشرق الأوسط وجنوب وشمال شرق آسيا على قدم المساواة إن لم يتعدَّ ذلك التركيز التاريخي على المنطقة الأوروبية الأطلسية.
هكذا، وبينما قد لا نزال نعيش في عالم نووي تقوده الولايات المتحدة في الغالب، فإن هذا النظام النووي أصبح الآن أكثر ترابطًا جغرافيًّا؛ حيث ستكون للإجراءات أو التطورات في منطقة واحدة آثار عالمية حقيقية. وبالتالي فإن ما يحدث في أجزاء أخرى من العالم يشكل بشكلٍ متزايد الصورة النووية الشاملة، وهو ما ينبغي أن يدفعنا للتحرك نحو تعديل أطرنا النووية النظرية والمفاهيمية، وهياكل التحكم في الأسلحة والحوكمة التي تركز على الغرب الأوروبي الأطلسي.
في الوقت الحالي، تسعى جميع الدول المسلحة نوويًّا إلى تحديث، وفي بعض الحالات توسيع قدراتها النووية والمتقدمة/الإستراتيجية غير النووية، مما يشير إلى أن الأسلحة النووية قد تصبح أكثر أهمية وليس أقل أهمية في السياسة الدولية. كما تشير إلى أننا ربما قد وصلنا إلى نهاية الاتجاه الذي دام 30 عامًا لتقليل المخزونات النووية العالمية، على الأقل في الوقت الحالي. في الواقع، تشير هذه اللمحة من التاريخ الحديث إلى أن الأطر والآليات الجديدة والمبتكرة وربما المرنة لإدارة المخاطر النووية ستكون مطلوبة مع تقدمنا في العصر النووي الثالث.
النظام النووي العالمي في حالة تغير مستمر، مع ضغوط جديدة لا تعد ولا تحصى يجب فهمها إذا أردنا الاستمرار في إدارة المخاطر التي تشكِّلها الأسلحة النووية. سيكون هذا العصر النووي الثالث مختلفًا من الناحية المفاهيمية والمادية عن العصر النووي الذي سبقه، وسيتطلب إعادة مشاركة تعاونية عالمية متضافرة مع التحدي المتمثل في ضمان السلام النووي. ربما تكون نقطة البداية هي الاعتراف بأننا ندخل إلى نوع مختلف من العالم النووي، حيث تغيرت بعض المخاطر والتحديات النووية (وإن لم تكُن كلها) وحيث سيكون التفكير والتدابير الجديدة ضروريًّا. قد يبدو هذا أمرًا مروعًا بالنظر إلى التعقيدات الواضحة للسعي وراء الحد من التسلح للتقنيات التخريبية؛ نظرًا لطبيعتها المختلفة جدًّا عما حدث من قبل، لا سيما في مثل هذا المناخ الجيوسياسي غير المواتي والمشتت، والسعي إلى إعادة إشراك الرأي العام العالمي واهتمام صانعي السياسات باعتبار تحديات تغير المناخ وآخرها جائحة كوفيد-19 لا تزال تحتل مركز الصدارة.
لكن العالم واجه تحديات مماثلة من قبل، بما في ذلك أثناء فترات التوتر الجيوسياسي المتزايد التي دفعته للتفكير الحازم بشأن الحد من المخاطر والآليات غير الرسمية لضبط النفس، وأنواع مختلفة من هياكل بناء الثقة والمعرفة بالمخاطر عبر جميع مستويات المجتمع، يمكن حال جمعنا كل هذه العناصر ببعضها أن تساعدنا في إعداد أنفسنا لما يبدو أنه عالم نووي أكثر خطورة في مرحلة الانتقال إلى العصر النووي الثالث.[1]
الكاتب: أندرو فيوتر – أستاذ السياسة الدولية، جامعة ليستر، المملكة المتحدة
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير