تعيد “وحدة الرصد والترجمة” في مركز الدراسات العربية الأوراسية، نشر مقال رئيس تحرير المركز المنشور في المجلس الروسي للشؤون الدولية (RIAC) بعد ترجمته من الروسية إلى العربية.
تلقيتُ دعوة كريمة من وزارة الخارجية الروسية لحضور أعمال قمة “بريكس بلس” في مدينة قازان الروسية في الفترة من 22 إلى 24 أكتوبر 2024. ورغم إقامتي في روسيا وترددي إليها منذ 10 سنوات، كانت هذه هي الزيارة الأولى لي لهذه المدينة الجميلة، التي كان اختيار الرئيس بوتين لها لتكون مقرًا لانعقاد القمة بعد توسيع عضوية مجموعة بريكس، خطوة موفقة وذكية جدًّا، وقد أثارت كثيرًا من المشاعر الإيجابية والمعارف الجديدة لدى الوفود العربية المشاركة في القمة.
في أثناء حديثي مع بعض الوفود العربية التي لا تعرف طبيعة التقسيمات الإدارية للاتحاد الروسي، فوجئوا بأنه الاتحاد الروسي -بحسب الدستور- يُقسم إلى 89 كيانًا اتحاديًّا، 22 منها هي “جمهوريات فيدرالية” تمثّل معظم هذه الجمهوريات مناطق إثنية غير روسية، مع أن كثيرًا من الجمهوريات بأغلبية روسية، حيث يشار إلى المجموعة العرقية الأصلية التي تُمنح اسم جمهورية ما، بـ”الأمة ذات اللقب”.
تمثل قازان حالة التفرد الخاصة بالاتحاد الروسي، حيث يجتمع فيها الشرق مع الغرب، الإسلام مع الأرثوذكسية، يتعايش فيها التتر وغيرهم من أعراق منطقة الفولغا مع السلاف الشرقيين، وهكذا عرفت الوفود العربية هوية روسيا، وتوجهاتها في السياسة الخارجية، وهو ما حرص عليه الرئيس بوتين منذ توليه السلطة عام 2000، من خلال التأكيد دائمًا أن روسيا “بلد غني متنوع ذو هوية وحضارة فريدة من نوعها”.
ربما ليس من قبيل المبالغة القول إن روسيا لديها مهمة مقدسة تحملت وحدها عبئها عبر التاريخ، تكمن في سعيها نحو العدالة وحرية الشعوب، وحقها في التعبير عن هويتها الثقافية، وممارسة عقائدها الدينية والفكرية بحرية واستقلال. وعلى الرغم من الضجيج الغربي بشأن “حقوق الإنسان” و”الديمقراطية”، وعدم التزام روسيا بها -بحسب هذه الادعاءات- فإن روسيا تعد من أكثر بلدان العالم -إن لم تكن الوحيدة- التي تتمتع بمعايير ديمقراطية لا مثيل لها، في منحها حقوقًا كاملة للأعراق والقوميات والأديان المختلفة، مهما كان حجمها.
شرحتُ للوفود العربية أن هذه الجمهوريات تتمتع بحقوق ثقافية وقومية لا مثيل لها في أي دولة أخرى في العالم؛ فلديها حدود إدارية، ورئيس جمهورية، ودستور، وعلم، ونشيد قومي، وحق استخدام اللغة القومية، وبعض القوانين الخاصة التي تمثل خصوصية للسكان المحليين، وحتى اليهود لهم مقاطعة حكم ذاتي قبل قيام دولة إسرائيل بـ14 سنة. وفي ظل هذه الحرية تمكنت أكثر من 190 عرقية، إلى جانب الأديان المختلفة من مسيحية أرثوذكسية، وغيرها من المذاهب المسيحية الأخرى، والإسلام، واليهودية، والبوذية، والشامانية، والتنغرية، من التعايش في هذه الدولة العظمى بسلام. أما الجغرافيا فقصة أخرى، حيث تمتد روسيا من الجزء الشرقي من قارة أوروبا بنحو 40% من مساحتها، والجزء الشمالي من قارة آسيا بنحو 60%، وهو ما يجعلها دولة أوراسية بامتياز.
هذه المميزات الفريدة جعلت لدى روسيا -كما أعتقد- قلبًا أوروبيًّا غربيًّا، وعقلًا آسيويًّا شرقيًّا؛ ومن ثم كانت الأجدر عبر التاريخ منذ إعادة تجميع أراضيها، وإعلان قيام روسيا القيصرية عام 1547، بأن تتولى هذه “المهمة المقدسة”، وأن تبدو الشبيه الأكثر قربًا من نموذج روما، واستحقاق موسكو للقب “روما الثالثة” من خلال قدرتها على الجمع بين ما يبدو “متناقضين”: الشرق والغرب في آنٍ واحد.
مارست روسيا هذه المهمة بكل اقتدار في كل حقبها المختلفة؛ في العصر القيصري عندما دُمجت الأعراق والأديان غير الروسية والأرثوذكسية داخلها، وفي العصر الإمبراطوري من خلال قانون التسامح الديني، الذي أصدرته الإمبراطورة كاترين العظيمة عام 1773، والذي نص على: “احترام جميع العقائد والأديان، ومنع الكنيسة الروسيَّة الأرثوذكسيَّة من التدخُّل في شؤون الديانات الأُخرى غير المسيحيَّة”. كما نصَّ أيضًا على: “السماح لأي طائفةٍ مسيحيَّة غير أرثوذكسيَّة بإنشاء كنائسها الخاصَّة وإقامة صلواتها وطُقوسها بها”. وقد عُد هذا القانون الأساس الذي بنى عليه الآباء المؤسسون في الولايات المتحدة بند حرية الدين في الدستور الأمريكي يوم 15 ديسمبر (كانون الأول) 1791.
في العصر السوفيتي، ورغم التغيير الجذري لأيديولوجية الدولة، فإنها حافظت على هذا المبدأ، من خلال تبني قيم أكثر حداثة بحسب زمانها، وتحت شعار “حقوق الشعوب في تقرير مصيرها”، ومساعدة دول العالم، ومنها كثير من الدول العربية، على نيل استقلالها، وبنائها الداخلي بمعزل عن التأثيرات الاستعمارية الغربية.
الآن، تعود روسيا من جديد إلى ممارسة هذا الدور، ولكن على نحو أكثر حكمة؛ نتيجة لدراسة تاريخ البلاد، وتلافي الأخطاء التي وقع فيها القادة السوفيت، وقد تجلى ذلك في تصريحات الرئيس بوتين، الذي أكد في أكثر من مناسبة، وفي المؤتمر الصحفي الختامي للقمة، أن روسيا “لا توجه تحالفاتها ضد أحد”، وكذلك “لا تسعى إلى تشكيل بديل؛ بل إلى ابتكار شيء جديد”؛ للتصدي لمحاولات بعض الجهات الغربية تقسيم العالم، كما كان الوضع في أثناء الحرب الباردة، وهو ما شرحه بالتفصيل الكاتب الروسي أندري فرولوف، في مقال له بعنوان: “السياسة الخارجية الروسية.. استعادة التوازن بدلًا من رسم “الخطوط الحمراء“.
أتاحت هذه القمة، ومكان انعقادها، وما شاهدته وسمعته الوفود العربية، التعرف -على نحو أكثر عمقًا- على روسيا وتاريخها، وحضارتها التي تستحق بحق أن توصف بأنها “فريدة” من نوعها.
انضمت إلى مجموعة بريكس رسميًّا كل من جمهورية مصر العربية، ودولة الإمارات العربية المتحدة. تمتلك مصر علاقات تاريخية مع روسيا، وقد دعمت موسكو رغبة القاهرة بالانضمام إلى هذه المجموعة، وقد تقدم الرئيس المصري بشكر الرئيس بوتين على هذا الدعم، واصفًا إياه بالصديق. تتمتع الإمارات كذلك بعلاقة تزداد قوة يومًا بعد الآخر مع روسيا، ولدى الرئيس بوتين علاقة شخصية مميزة مع كلا الزعيمين؛ الرئيس عبد الفتاح السيسي والشيخ محمد بن زايد.
السعودية، حضر وزير خارجيتها الأمير فيصل بن فرحان، وتعد حتى الآن دولة “شريكة” وفق المفهوم الجديد الذي طرحه الرئيس بوتين، ولم تنضم رسميًّا لتصبح عضوًا كامل العضوية. مع أن السعودية أول دولة عربية أقامت علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي عام 1926، فإن العلاقات بين البلدين عانت عدة منعرجات تاريخية، حتى تولي الأمير محمد بن سلمان، عام 2017، ولاية العهد، وسط رغبته القوية والجادة في مواجهة ما يمكن تسميته “مكر التاريخ”، لتنال هذه العلاقة مكانتها المستحقة، وقد نشأت بينه وبين الرئيس بوتين كمياء خاصة، سبق أن تحدث عنها قبل القمة، أدت إلى التوصل إلى الاتفاق التاريخي “أوبك بلس”، الذي وحّد -لأول مرة في التاريخ- جهود أكبر منتجين للنفط (روسيا والسعودية) بما يخدم المنتجين والمستهلكين، وحافظ هذا الاتفاق -وسط المتغيرات العالمية العنيفة- على استقرار الأسواق العالمية، في تجسيد واضح لحرص كلا البلدين على الاستقلالية في القرار، مع تمتعهما بروح المسؤولية. قد يبدو عدم التعجل السعودي في الانضمام على نحو كامل مبنيًّا على رغبة الرياض في رؤية قدرة المجموعة على الانسجام، واتخاذ قرارات ذات فاعلية بعد عملية التوسع الجديدة.
هناك كثير من الدول العربية، كالجزائر على سبيل المثال، التي تتطلع إلى عضوية بريكس، ويقع على عاتق الرئاسة الروسية لهذه المجموعة تأكيد جديتها في اتخاذ خطوات لتعميق التعاون المشترك، والتركيز ربما على ملف الاقتصاد؛ لأنه يمثل الثقل الذي يستند إليه الغرب في هيمنته العالمية، وهو ما أكده مكسيم أوريشكين، الممثل الخاص لرئيس الاتحاد الروسي بشأن التعاون المالي والاقتصادي مع دول مجموعة بريكس، في مقال له بعنوان: “قصة مجموعة بريكس التي بدأت منذ عقود من الزمن“.
المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، وبقية دول الخليج من خلفهما، لديها رغبة وسعي حثيث إلى مساعدة كل القوى الداعمة لنظام عالمي متعدد الأقطاب، وقد سبق أن صرح وزير الاقتصاد الإماراتي، عبد الله بن طوق المري، بأن: “الإمارات تؤمن بالنظام الاقتصادي العالمي المتعدد الأقطاب”.
جمهورية مصر العربية، عرض رئيسها السيسي الحاجة إلى تعظيم: “الاستفادة من بنوك التنمية المتعددة الأطراف لتكون أكثر قدرة على تعزيز نفاذ الدول النامية للتمويل الميسر، وتعزيز التعاون بين دول الجنوب العالمي”، في ظل أزمة اقتصادية طاحنة تتعرض لها مصر نتيجة الشروط المجحفة من مؤسسات النقد الدولية، التي تقع تحت إطار الهيمنة الأمريكية.
دول العالم العربي وشعوبه تنتظر من الرئاسة الروسية تغييرات ملموسة، ولديها آمال عريضة في قيادة الرئيس بوتين لهذه المجموعة للتوصل إلى إجراءات جديدة في القمة المقبلة، تسهم في الحد من الهيمنة الغربية على المنطقة، التي تجلت في الدعم المطلق لإسرائيل في حروبها على قطاع غزة ولبنان وسوريا وإيران، ورفضها جميع مبادرات السلام العربية.
في نهاية هذا المقال، أحب أن أنوه -بحكم عملي البحثي- أن روسيا بحاجة إلى ابتكار آليات جديدة للتصدي للعقوبات الغربية في مجال الإعلام المخالفة لكل ادعاءات حرية الرأي والتعبير، التي طالت جميع منصاتها الإعلامية، وعلى رأسها قناة (RT) العربية، التي تميزت بأنها القناة الأجنبية الأكثر مشاهدة عربيًّا، والتي حققت تفوقًا ساحقًا على قناة (Alhurra) الأمريكية الموجهة إلى الشعوب العربية، وكذلك (BBC) عربي، و(DW) العربية. وفي هذا الإطار أشيد بجهود إدارة قناة (RT) العربية، وجميع العاملين فيها الذين يعملون في ظل ظروف شديدة الصعوبة، وتمكنوا بجانب إدارة مجموعة (RT) الاحترافية بلغاتها المختلفة من مواجهة الرواية الغربية، لكن في ظل هذه العقوبات غير المسبوقة، روسيا بحاجة إلى تعميق التعاون الإعلامي عى نحو أوسع مع الفضائيات العربية، وقد نجحت إدارة (RT) العربية في صنع هذا الخرق الأول عبر اتفاق بث مشترك مع قناة (TEN) المصرية، تم الاتفاق عليه في شهر فبراير (شباط) الماضي، وهي إحدى كبريات الفضائيات المصرية، وبمشاركة المذيع الشهير ذي الشعبية الواسعة نشأت الديهي، العضو السابق في المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام المصري. كما شارك في التعليق على أحداث القمة الإعلامي المصري- الروسي عمرو عبد الحميد، مدير مركز الدراسات العربية الأوراسية. روسيا بحاجة أيضًا إلى وجود مراكز بحثية موجهة للعالم العربي، في ظل وجود أكثر من (40) مركزًا بحثيًّا غربيًّا موجهًا إلى الشعوب والنخب العربية، أو مدعومًا منها، وعدم وجود مركز بحثي واحد لروسيا، لتقديم روايتها الخاصة للأحداث التي تُشوَّه بفضل الدعاية الغربية الكثيفة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.