تُعد الوثيقة المعروفة باسم “أساسيات سياسة الدولة في مجال الردع النووي”، من أهم النصوص التي تعكس موقف القيادة الروسية تجاه استخدام الأسلحة النووية ومفاهيم الردع، وتعد تحديثًا جوهريًّا لسياسة الردع النووي الروسية لمواكبة التحولات الكبيرة في الساحة الدولية، والتطورات العسكرية والتكنولوجية.
يأتي هذا التحديث في ظل مناخ عالمي متوتر، حيث يتزايد التنافس بين القوى الكبرى، وتتعقد التحالفات العسكرية، وتبرز التهديدات غير التقليدية. لقد أصبحت الأسلحة النووية والردع جزءًا حيويًّا من الاستراتيجية الدفاعية الروسية، لا سيما في ضوء التهديدات المتزايدة التي تواجهها روسيا على حدودها الغربية والجنوبية، والتوسع المستمر للبنى التحتية العسكرية لحلف الناتو قرب حدودها. يعكس تحديث العقيدة النووية الروسية لعام 2024 حرص القيادة الروسية على تأكيد موقفها الدفاعي، وقدرتها على الردع النووي كوسيلة للحفاظ على أمنها القومي، وردع أي تهديدات محتملة.
تتطرق العقيدة النووية المحدثة إلى الشروط والظروف التي يمكن بموجبها استخدام الأسلحة النووية، وتحدد بوضوح السيناريوهات التي تعتبر فيها موسكو نفسها ملزمة باللجوء إلى القوة النووية. من بين هذه السيناريوهات تعرض روسيا أو حلفائها لهجوم نووي، أو وجود تهديد مباشر لسيادتها أو بقائها. وتؤكد الوثيقة أن الردع النووي لا يقتصر على الهجوم المباشر فقط؛ بل يشمل أيضًا استخدام أسلحة الدمار الشامل الأخرى، أو الهجمات التي تستهدف بنى حيوية تؤثر في القدرة الدفاعية للبلاد.
تعد هذه العقيدة إشارة قوية للمجتمع الدولي بشأن طبيعة السياسات الدفاعية الروسية، وتأكيدًا لالتزام روسيا بحماية سيادتها ومصالحها الحيوية في مواجهة أي تهديدات. كما أن توقيت إصدار هذه العقيدة يأتي في سياق تحولات دولية معقدة، بما في ذلك الصراعات الإقليمية، وسباق التسلح المتجدد؛ ما يجعل من الضروري أن تكون العقيدة واضحة ومحدثة لتتماشى مع الظروف الراهنة.
بناء على التغييرات الرئيسة في العقيدة النووية الروسية، وتفسير الدوافع وراء تلك التحديثات، وكذلك التحديات التي تحاول موسكو مواجهتها من خلال هذه السياسات؛ سيوفر هذا التحليل فهمًا أعمق لموقف روسيا الإستراتيجي وأهدافها في مجال الردع النووي، بالإضافة إلى دراسة تأثير ذلك في الاستقرار الدولي، والسياسات النووية العالمية.
بدأت العقيدة العسكرية الروسية بالتبلور منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث أصبحت روسيا تواجه تحديات جديدة في البيئة الأمنية الإقليمية والدولية. تم تبني أول عقيدة عسكرية لروسيا المستقلة في عام 1993، وكانت تهدف إلى إعادة تعريف المصالح الوطنية والأمنية بعد فقدان السيطرة على جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة. ركزت هذه العقيدة على مواجهة التهديدات الناشئة من النزاعات الإقليمية، وتداعيات انهيار الاتحاد السوفيتي، وكانت تتميز بالتوجه نحو الدفاع عن الحدود الجديدة لروسيا.
في عام 2000، تبنت روسيا عقيدة عسكرية جديدة تحت قيادة الرئيس فلاديمير بوتين، حيث تم التركيز على تعزيز الردع النووي بوصفه جزءًا أساسيًّا من إستراتيجية الدفاع الوطني. وقد اعتبرت الأسلحة النووية عنصرًا حيويًّا لضمان الأمن القومي الروسي ومنع العدوان، وأكدت استخدامها وسيلةً للردع ضد أي تهديد يواجه روسيا وحلفاءها. تزامن هذا التحديث مع بداية زيادة التوتر بين روسيا وحلف الناتو، حيث بدأت روسيا تنظر إلى توسع الناتو كتهديد رئيس لأمنها.
في عام 2010، شهدت العقيدة العسكرية الروسية تحديثًا آخر تحت قيادة الرئيس دميتري ميدفيديف. ركز هذا التحديث على التهديدات غير التقليدية، ومنها الإرهاب الدولي، وانتشار أسلحة الدمار الشامل، وأكد مجددًا دور الأسلحة النووية في الحفاظ على الاستقرار الإستراتيجي. وفي عام 2014، تم تحديث جديد للعقيدة العسكرية استجابةً للأزمة الأوكرانية وضم شبه جزيرة القرم، حيث تم تعزيز التركيز على الردع النووي في مواجهة التهديدات الغربية، وأصبحت روسيا أكثر وضوحًا في تعريف الحالات التي يمكن فيها استخدام الأسلحة النووية.
في يونيو 2020، أصدر الرئيس فلاديمير بوتين مرسوم “أساسيات سياسة الدولة في مجال الردع النووي”، الذي أصبح وثيقة منفصلة عن العقيدة العسكرية. قدمت هذه الوثيقة تفاصيل دقيقة عن الظروف التي يمكن أن تلجأ فيها روسيا إلى استخدام الأسلحة النووية، بما في ذلك الرد على أي هجوم باستخدام أسلحة الدمار الشامل، أو أي تهديد لبقاء الدولة. كان هذا التحديث يهدف إلى إعطاء روسيا مرونة أكبر في استخدام ترسانتها النووية في ظل تزايد التوترات مع الغرب، وتصاعد سباق التسلح.
تشمل النسخة الجديدة من العقيدة النووية لعام 2024 تغييرات مهمة في تعريف الحالات التي يمكن فيها لروسيا استخدام الأسلحة النووية، وذلك في سياق التوترات العالمية المتزايدة. ومن أبرز هذه التحديثات:
يعكس تحديث العقيدة النووية الروسية لعام 2024 تحولًا في موقف روسيا من استخدام الأسلحة النووية وسيلةً للردع إلى كونها أداة لتحقيق أهداف سياسية وردع تهديدات جديدة. يشير هذا التحديث إلى أن روسيا باتت أكثر استعدادًا لاستخدام الأسلحة النووية في حالات غير تقليدية، مثل الهجمات غير النووية التي قد تتلقى دعمًا من دول نووية، أو نشر الأسلحة في الفضاء.
كما أن توقيت هذا التحديث يأتي بعد منح الولايات المتحدة أوكرانيا صواريخ ATACMS البعيدة المدى؛ مما يدل على أن روسيا ترى في هذه الخطوة تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.
التحديثات الأخيرة للعقيدة النووية الروسية لعام 2024 جاءت رد فعل على التحولات الجيوسياسية المتسارعة، والتهديدات الأمنية المتزايدة التي تواجهها موسكو. تتضمن هذه التحديثات توسيع نطاق استخدام الأسلحة النووية ليشمل حالات العدوان غير التقليدي والدعم الذي تتلقاه بعض الدول غير النووية من قوى نووية كبرى. هذا التحول يعكس رغبة روسيا في الحفاظ على أمنها القومي ومرونتها في مواجهة مختلف السيناريوهات التهديدية.
تطور العقيدة النووية الروسية عبر السنوات يعكس تحول روسيا من استخدام الأسلحة النووية وسيلةً دفاعية بحتة إلى اعتبارها أداة لتحقيق أهداف سياسية إستراتيجية. في سياق التوترات مع حلف الناتو، خاصة بعد توسع الحلف شرقا، تسعى روسيا إلى تعزيز موقفها الدفاعي والردعي من خلال توضيح الحالات التي قد تستخدم فيها ترسانتها النووية.
من بين أبرز ملامح العقيدة النووية المحدثة إدراج الأخطار الناشئة من استخدام أسلحة الدمار الشامل، سواء التقليدية أو الحديثة، وكذلك التهديدات المتعلقة بالأسلحة في الفضاء، وهو ما يعكس مدى تطور التهديدات الأمنية التي تواجهها روسيا في القرن الواحد والعشرين. هذه العقيدة الجديدة تسلط الضوء على الأهمية الإستراتيجية للأسلحة النووية بوصفها عاملًا حاسمًا في منع العدوان، وضمان الاستقرار.
توقيت إصدار هذه العقيدة يأتي في ظل سياق دولي متوتر، وتصاعد المنافسة بين القوى العظمى، بما في ذلك التوترات مع الولايات المتحدة التي قدمت أسلحة متقدمة لأوكرانيا. من خلال هذا التحديث، ترسل روسيا رسالة واضحة بأن أي تهديد لأمنها القومي، سواء أكان نوويًّا أم غير ذلك، سيواجه برد قوي، وهو ما يعزز فكرة أن الردع النووي لا يقتصر على الهجوم المباشر؛ بل يشمل كل أنواع التهديدات الإستراتيجية؛ ومن ثم تظل هذه العقيدة أداة مهمة للحفاظ على الاستقرار الداخلي، ومواجهة التحديات الخارجية، وتشير إلى تحول في الطريقة التي ترى بها روسيا استخدام القوة النووية، وهو ما يعكس التوجهات الجديدة في الإستراتيجية العسكرية الروسية، ويؤكد أن موسكو مستعدة للرد بحزم على أي تهديد يمس سيادتها أو مصالحها الحيوية. من جهة أخرى، يزيد هذا التحديث تعقيد المشهد الدولي؛ مما يجعل مناقشات نزع السلاح النووي أكثر صعوبة في المستقبل القريب.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.