أقر الرئيس الأمريكي جو بايدن 5 خطوات تصعيدية استفزت الجانب الروسي، ودفعته -لأول مرة منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير (شباط) 2022- إلى إطلاق صاورخ بالستي “فرط صوتي” استهدف أحد أهم المصانع العسكرية في مدينة دينبرو الأوكرانية، وهو الصاروخ الذي يطلق عليه الروس “أوريشنيك”؛ أي “شجرة البندق “.
الخطوة الأولى التي استفزت موسكو هي سماح البيت الأبيض لمن يُسمون “المقاولين العسكريين الأمريكيين” بدخول أوكرانيا تحت غطاء أنهم “فنيون ومهندسون” لإصلاح الأسلحة الأمريكية التي أعطبها الجيش الروسي، مثل الدبابات والمدرعات الغربية، وأنظمة الدفاع الأمريكية والأوروبية التي تحتاج إلى مهارة كبيرة لصيانتها، وفق الرواية الأمريكية، لكن تقدير موسكو يقول إن تلك الأطقم الفنية تؤدي دورًا كبيرًا في إدارة الأسلحة الأمريكية وتوجيهها ضد الجيش الروسي.
الخطوة الثانية كانت تزويد واشنطن لكييف “بألغام برية مضادة للأفراد” بهدف وقف تقدم الجيش الروسي، سواء في شرق أوكرانيا وجنوبها، أو في منطقة كورسك الروسية، التي نجح الكرملين في استعادة أكثر من 60% منها من أيدي الجانب الأوكراني، وهذا القرار من جانب بايدن لم يجد انتقادات شديدة من جانب وزارة الخارجية الروسية فحسب؛ بل من منظمات “الحد من انتشار السلاح”، التي تنادي بالتزام الولايات المتحدة بنصوص وروح معاهدة “حظر استعمال وتخزين وإنتاج ونقل الألغام المضادة للأفراد، وتدمير تلك الألغام”، وهي المعاهدة التي تم الاتفاق عليها في 3 مايو (أيار) 1966، ووقعت عليها نحو 160 دولة، وتتسبب هذه الألغام في “القتل العشوائي” حتى بعد نهاية العمليات القتالية.
الخطوة الثالثة، التي كانت أكثر استفزازًا لموسكو، هي سماح واشنطن لكييف باستخدام الصواريخ الأمريكية الدقيقة من طراز
ATACMS
لضرب عمق الأرضي الروسية، وهو ما سمح لكل من لندن وباريس برفع قيودهما على استخدام أوكرانيا الصواريخ الفرنسية والبريطانية، مثل “ستورم شادو”
Storm Shadow
لاستهداف عمق الأراضي الروسية، وهي خطوة وجدت انتقادات من قيادات فريق الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترمب، خاصة نجله دونالد جونيور ترمب، والملياردير إيلون ماسك، اللذين فسّرا خطوة بايدن بأنها تهدف إلى عرقلة مساعي الرئيس ترمب إلى وقف الحرب الروسية الأوكرانية.
الخطوة الرابعة التي دفعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى التلويح باستخدام كميات كبيرة من صاروخ “شجرة البندق” هي مساعدة الولايات المتحدة لأوكرانيا في استخدام الأسلحة الجديدة في قصف العمق الروسي عبر التوجيه بالأقمار الصناعية؛ لأن تقديرات وزارة الدفاع الروسية تقول إن صواريخ “أتاكمز”، و”ستورم شادو”، وغيرهما، تحتاج إلى “توجيه” من الأقمار الصناعية، وهي إمكانات لا تتوافر للأوكرانيين، وهو ما تراه روسيا “مشاركة فعلية أمريكية” في ضرب العمق الروسي.
خامسة الخطوات التي استفزت الجانب الروسي هي افتتاح واشنطن في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري قاعدة عسكرية جديدة في ريدزيكوفو شمال بولندا قرب ساحل بحر البلطيق، ضمن ما يسمى “الدرع الصاروخية” الأمريكية شرق أوروبا، التي بدأت منذ عام 2007، لكن القاعدة الجديدة يمكن أن تكون منطلقًا لاستهداف روسيا بسلاح نووي، وهو ما دفع موسكو إلى التلويح بقصف هذه القاعدة وتدميرها.
فما أهداف بايدن الحقيقية من تلك الخطوات الخطيرة؟ وما الرسائل التي أراد “سيد الكرملين” توصيلها من خلال إطلاق صاروخ “شجرة البندق”؟ وهل يمكن أن تتسبب “الأفعال” الأمريكية، و”ردود الفعل” الروسية في اشتعال “حرب واسعة” تشارك فيها واشنطن ودول “الناتو” ضد موسكو؟
يبدو أن الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته جو بايدن، ونائبته التي خسرت الانتخابات الرئاسية كامالا هاريس يرفعان “شعار شمشون” بعد خسارتهما كل شىء، بداية من البيت الأبيض مرورًا بالكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ، وصولًا إلى خسارتهما كثيرًا من مناصب حكام الولايات، وتحول الديمقراطيين إلى أقلية في المحكمة الدستورية العليا؛ لذلك أخذت قراراتهما الأخيرة بشأن أوكرانيا منحى يتجاوز كل أعراف “المرحلة الانتقالية” وتقاليدها؛ فكل الأعراف السياسية تقول إن الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته في أثناء فترة “البطة العرجاء” التي تمتد من 5 نوفمبر (تشرين الثاني) حتى تنصيب الرئيس المنتخب في 20 يناير (كانون الثاني) لا يقوم بخطوات “تعرقل” خطط الرئيس الجديد، خاصة في قضية واضحة تمامًا مثل الحرب الأوكرانية الروسية، فالرئيس الأمريكي المنتخب أعلن عشرات المرات أنه سوف يوقف الحرب الروسية الأوكرانية في غضون 24 ساعة، والخطوات الخمس التي قامت بها إدارة بايدن بعد أيام قليلة من فوز ترمب تشكل عرقلة وعقبات لإجهاض خطط ترمب لوقف الحرب الروسية الأوكرانية، وحرمان الرئيس الجمهوري من “أول انتصار سياسي” يمكن أن يحققه حتى قبل دخوله المكتب البيضاوي في الأسبوع الثالث من شهر يناير (كانون الثاني) المقبل.
لم يتأخر الكرملين في الرد على الخطوات الأمريكية من خلال إرسال أحدث الصواريخ البالستية الروسية “فرط الصوتية” وأسرعها، وهو الصاروخ الذي تزيد سرعته على 3 كم في الثانية الواحدة، ويمكن أن يحلق حتى 5500 كم، وهو ما يجعل كل الأراضي الأوكرانية، وحتى كل العواصم الأوروبية، ومنها لندن وباريس وبرلين، في مرمى صاروخ أوريشنيك (شجرة البندق)، ونجحت روسيا من خلال إطلاق هذا الصاروخ في إرسال 6 رسائل رئيسة لأوكرانيا والناتو بقيادة الولايات المتحدة، وهذه الرسائل هي:
أولًا- حكمة الـ30 دقيقة
دائما ما تتحدث روسيا أن ردها سيكون متناسبًا مع أي خطوة تراها استفزازية تقوم بها واشنطن بمشاركها حلفائها في “الناتو”، وهدف روسيا في ذلك هو عدم التصعيد، وعدم توسيع دائرة الحرب؛ ولهذا أبلغت موسكو الجانب الأمريكي قبل إطلاق الصاروخ بـ30 دقيقة، وذلك من خلال المركز الوطني للحد من المخاطر النووية، حسبما قال الكرملين والبنتاغون، وأعاد ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين، تأكيد هذا الموقف عندما قال: “أُرسِل التحذير في الوضع التلقائي الدائم قبل 30 دقيقة من الإطلاق”، وهو ما يقول للعالم بوضوح إن هناك نية روسية جادة لوقف الحرب وعدم التصعيد خلال الفترة المقبلة، وهو أمر يمكن أن يفتح “نافذة للدبلوماسية”، وهي رسالة للرئيس الأمريكي المنتخب يمكن أن يعمل بها أو يتكئ عليها في مساعيه المقبلة لوقف الحرب، وسبق لروسيا أن انخرطت في مباحثات من أجل وقف الحرب في أوكرانيا بعد أسابيع من العملية الروسية الخاصة عندما ذهب الوفد التفاوضي الروسي إلى تركيا في مارس (آذار) 2022.
ثانيًا- “أتاكمز” لن يغير موازين الميدان
الرسالة التي وصلت إلى الجميع في أوكرانيا، ونحو 50 دولة تقدم لها المساعدات العسكرية، أن تزويد أوكرانيا بصواريخ دقيقة، مثل “ستورم شادو” و”أتاكمز”، وقبلهما “هاريمارس”، لن يغير قواعد الميدان لصالح الجيش الأوكراني، وأن أتاكمز لن تفعل أكثر ما فعلت من قبل دبابات “ليوبارد” و”تشالنجر”، وأنه لا يمكن لأي سلاح أمريكي أو غربي جديد أن “يقلب الطاولة” على روسيا، وخير شاهد على هذا -وفق الرؤية الروسية- أن صواريخ مثل “ستينغر” و”جافلين”، ومنظومات دفاعية حصلت عليها أوكرانيا، مثل “باتريوت” و”إيرس”، لم تغير من معادلات الجبهات طوال أكثر من 1000 يوم من الحرب.
ثالثًا- رسالة لترمب
يزعم الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترمب أن فلسفته في وقف الحرب الروسية الأوكرانية تقوم على “القوة التي تخدم السلام”، التي تقول إنه سوف يزود أوكرانيا بأسلحة “أكثر فتكًا” لو رفض الروس رؤيته للحل، كما أنه سوف يتوقف عن إرسال السلاح لأوكرانيا إذا رفضت كييف خطته لوقف الحرب، لكن صاروخ “أوريشنيك” يقول بوضح لترامب إن موسكو تريد رؤية وخطة لوقف الحرب تأخذ في حسبانها مصالح روسيا والوقائع الجديدة على الأرض، دون أي تهديد أو انتقاص من مصالح موسكو.
رابعًا- عجز المنظومات الدفاعية الغربية
اللافت أن روسيا والرئيس بوتين أعلنوا كل شىء يتعلق بصاروخ “أوريشنيك”، حيث أبلغت وزارة الدفاع الروسية نظيرتها الأمريكية بالأمر، كما أن الرئيس بوتين أعلن عبر وسائل الإعلام زيادة الإنتاج من هذا الصاروخ، وأن لدى موسكو بالفعل مخزونًا ضخمًا من صواريخ “شجرة البندق”، وهذا ينطلق من حقيقة وقناعة تقول إن روسيا مطمئنة تمامًا بأنه لا يوجد أي منظومة دفاعية أمريكية أو غربية يمكنها أن توقف أو تسقط صاروخًا بسرعة “أوريشنيك” وحيويته.
خامسًا- ردع إستراتيجي غير تقليدي
يتيح صاروخ “أوريشنيك” لروسيا مزيدًا من “القدرات الردعية” في مواجهة كل الترسانات الغربية التي تزود بها أوكرانيا، لكن الأهم أن صاروخ “شجرة البندق” يستطيع حمل “روؤس نووية” بجانب الصواريخ البعيدة المدى الأخرى، وهي قدرة إستراتيجية جديدة لروسيا لم تتحدث عن دوائر الاستخبارات الأمريكية من قبل، وهو ما يقول بوضوح إن أي محاولة لاستهداف المدن الروسية الكبيرة، مثل موسكو أو سانت بطرسبورغ، بصواريخ أتاكمز وستورم شادو، يمكن أن تواجه بضربات نووية روسية، خاصة بعد أن قال الرئيس بوتين أكثر من مرة إن الهجوم التقليدي الأوكراني على روسيا بأسلحة من “دولة نووية” يبرر لروسيا استخدام السلاح النووي وفق التعديلات الأخيرة على العقيدة النووية الروسية.
سادسًا- نهاية لأوهام الهزيمة الإستراتيجية
منذ منتصف عام 2022 تروج الولايات المتحدة ودول حلف “الناتو” لقدرة أوكرانيا على “هزيمة روسيا إستراتيجيًّا”، وبررت إدارة بايدن إرسال السلاح والذخيرة إلى كييف من منطلق أن الهزيمة الإستراتيجية لروسيا باتت قريبة، لكن ما حمله صاروخ “شجرة البندق” من رسائل أكد استحالة هزيمة روسيا إستراتيجيًّا.
المؤكد أن ارسال مزيد من السلاح الى أوكرانيا لن يحقق النصر لأوكرانيا، ولن يهزم روسيا، وهو ما يدفع العقلاء في العالم إلى البحث عن معادلة جديدة تعطى الفرصة من جديد للدبلوماسية بعد أكثر من 1000 يوم لم تفلح فيها لغة البندقية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.