تقدير موقف

هل تشهد جورجيا “ثورة ملونة” جديدة؟


  • 31 أكتوبر 2024

شارك الموضوع

تبدأ جورجيا فصلًا آخر من عدم الاستقرار، و”الثورات الملونة الجديدة”، مع تحريض الغرب لأحزاب المعارضة ضد نتائج الانتخابات التي فاز فيها الحزب الحاكم “الحلم الجورجي” بنحو 54% من أصوات الناخبين في الانتخابات التي جرت يوم 26 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، وذلك بعد أن ضمن 89 مقعدًا من إجمالي 150 مقعدًا هي إجمالي عدد مقاعد البرلمان، الذي حصلت فيه تحالفات المعارضة على نحو 39% من مقاعده، وهي تحالفات “وحدة لإنقاذ جورجيا”، و”التحالف من أجل التغيير”،  و”جورجيا القوية”.

وقبل أن تُفرز كل الأصوات في الانتخابات التي جرت لأول مرة “بالتصويت الإلكتروني”، خرجت رموز المعارضة الجورجية للادعاء بأن الانتخابات “سُرقت” من جانب الحزب الحاكم، وقالوا إن استطلاعات الرأي التابعة لهم أكدت أن الحزب الحاكم لن يحصل على سوى 42%، وأن المعارضة هي من يجب أن تحصل على 52% من الأصوات.

 ولم يتوقف زعماء المعارضة عند هذا الحد، بل بدأت الدعوات لحشد المظاهرات في سيناريو يشبه سيناريو 2003، الذي أطلق عليه “الثورة الوردية”، مع أن كل المؤشرات تنفي ادعاءات المعارضة الموالية للغرب، وأبرز تلك المؤشرات هو الإقبال الكبير على صناديق الاقتراع، حيث شارك لأول مرة -وبشهادة المعارضة- نحو 59% من المسجلين في جداول الانتخابات، وهي أعلى نسبة مشاركة منذ عام 2012، كما أن التصويت والفرز تم “إلكترونيًّا لأول مرة” في تاريخ جورجيا، ومن الصعب تزوير انتخابات يتم التصويت والفرز فيها من خلال أدوات التصويت الإلكتروني؛ لأنه -ببساطة- يمكن الرجوع إلى هذه الماكينات في أي وقت، لكن الواضح أن فوز حزب “الحلم الجورجي” يعود إلى أمرين لا ثالث لهما؛ الأول هو الأداء الجيد للحزب الحاكم خلال 12 عامًا ماضية، والذي أقنع الغالبية من الشعب الجورجي أنه ليس من مصلحة جورجيا معاداة روسيا أو الدخول في حرب ثانية ضد الكرملين، والسبب الثاني هو تبني الحزب الحاكم لأجندة وطنية تقوم على ضرورة “النأي بالنفس”، بعيدًا عن الحرب الروسية الأوكرانية، والتركيز على أجندة جورجية تحافظ على السلام، والنسيج الاجتماعي والسياسي للبلاد؛ لذلك كانت البرامج الانتخابية لحزب “الحلم الجورجي” تصور الانتخابات بوصفها خيارًا بين السلام والحرب، وهي رؤية تخالف رؤية المعارضة التي يخشى كثير من الجورجيين أن تجرهم إلى نيران الحرب الروسية الأوكرانية، حيث قامت البرامج الانتخابية لجميع تحالفات المعارضة على أن الانتخابات هي خيار واحد فقط بين الغرب وروسيا.

واستبقت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الانتخابات الأخيرة بفرض عقوبات على عدد من مسؤولي الحزب الحاكم  الذي يرفض الدخول في عداء مع روسيا بعد أن أقرت الحكومة الجورجية قانونًا يلزم الجماعات الحقوقية، التي تتلقى أكثر من 20% أو أكثر من تمويلاتها من الخارج، بكشف مصادر هذه التمويلات، و هو ما قاد إلى غضب شديد في الغرب، وخاصة في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة التي عاقبت الوفد الجورجي المشارك في اجتماعات الأمم المتحدة في الأسبوع الثالث من سبتمبر (أيلول) الماضي بمنعه من حضور اللقاء الجماعي لرؤساء الوفود مع الرئيس جو بايدن، فما آفاق الخلاف بين المعارضة والحكومة الجورجية؟ وما الأوراق التي يمكن التلاعب بها لدفع جورجيا إلى سيناريو يشبه “السيناريو الأوكراني”؟ وما المكاسب التي تسعى إليها واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون من بناء “جدار من العداء” بين روسيا وجورجيا؟

مهد الفوضى الملونة

لا تترك الولايات المتحدة فرصة لجذب جورجيا بعيدًا عن سياقها الإقليمي والثقافي بوصفها كانت دولة ضمن دول الاتحاد السوفيتي السابق، ويرتبط شعبها بعلاقات خاصة مع الشعب والدولة الروسية، حيث تشترك روسيا وجورجيا في حدود تصل إلى نحو 1000 كم؛ لذلك كانت جورجيا من أوائل الدول التي عانت “الثورات الملونة” عندما اندلعت فيها ما تسمى “الثورة الوردية” عام 2003، وعندما فشلت هذه الثورات الملونة، دفعت واشنطن تبليسي إلى الصدام مع جارتها موسكو، فيما سُمي بالحرب الروسية الجورجية عام 2008، وكان هدف جورجيا المعلن من تلك الحرب هو استعادة جمهوريتي أفخازيا وأوسيتيا الجنوبية اللتين أعلنتا استقلالهما منذ عام 1991.

وهذا العام، تحاول الإدارة الأمريكية -ومعها دول الاتحاد الأوروبي- دفع جورجيا من جديد نحو “السيناريو الأوكراني”؛ بالتحريض تارة على العلاقات التي تجمع روسيا وجورجيا، والتشكيك في نتائج الانتخابات التي فازت فيها الحكومة، وتارة أخرى بدعم مظاهرات المعارضة الجورجية ضد الحكومة التي يقودها في الوقت الحالي حزب “الحلم الجورجي”، وشهد شهر مايو (آذار) الماضي دعمًا أمريكيًّا وأوروبيًّا غير مسبوق للمظاهرات التي خرجت احتجاجًا على قانون “النفوذ الأجنبي”، أو “قانون العملاء”؛ ونتيجة لذلك جمد “الاتحاد الأوروبي” ملف انضمام جورجيا إلى بروكسل، وفرضت واشنطن عقوبات على عشرات المسؤولين الجورجيين بتهمة ممارسة العنف في حق المتظاهرين، وترتكز خطوات واشنطن وبروكسل على نص في  الدستور الجورجي تدعي فيه واشنطن وبروكسل أنه يكرس طلب العضوية في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.

السيناريو الأوكراني

هناك من يعتقد أن رؤية الولايات المتحدة تهدف في النهاية إلى تكرار “السيناريو الأوكراني” مع جورجيا، خاصة أن جورجيا هي التي كانت مهد الثورات الملونة في شرق أوروبا عندما بدأت المظاهرات عام 2003، تحت اسم “الثورة الوردية” ضد حكومة إدوارد شيفرنادزه، الذي كان آخر وزير خارجية للاتحاد السوفيتي، وأصبح فيما بعد رئيسًا لجورجيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في 25 ديسمبر (كانون الأول) 1991، وكان هذا قبل عامين فقط من “الثورة البرتقالية” في أوكرانيا عام 2005، بل إن جورجيا سبقت أوكرانيا في الحرب مع روسيا عندما دخلت تبليسي الحرب ضد موسكو في عهد الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيدف عام 2008، وانتصرت روسيا انتصارًا ساحقًا، وكادت تحتل العاصمة الجورجية تبليسي في ساعات قليلة.

اليوم هناك من يدعو إلى إنهاء العلاقة بين روسيا وجورجيا على غرار الصراع الحالي بين موسكو وكييف، ليس لتخفيف الضغط على القوات الأوكرانية فقط؛ بل لاستعادة ما يقال إنها “أراضٍ جورجية” في أفخازيا وأوسيتيا الجنوبية.

حلقات من الفتن

لم تتوقف الولايات المتحدة عند تفكك الاتحاد السوفيتي السابق؛ بل لديها هدف طموح هو خلق دائرة من العداء والصراعات حول روسيا، كما يجري الآن في أوكرانيا؛ ولهذا لم تتوقف محاولات جر جورجيا وروسيا نحو الحرب طول العقود الثلاثة الماضية، وأخذت هذه المحاولات مسارت عدة، وهي:

أولًا: أفخازيا وأوسيتيا الجنوبية

لم تتوقف الخطط الغربية يومًا عن زرع بذور الفتن والخلافات بين روسيا والدول المجاورة لها، وبدأت الأزمة الروسية الجورجية مع الأنباء التي تحدثت عن انهيار جدار برلين وسقوطه، وتفكك الاتحاد السوفيتي، وهو ما أدى إلى اندلاع الحرب بين جورجيا من جانب وأوستيا الجنوبية عامي 1991 و1992، كما دارت حرب أخرى بين جورجيا وأفخازيا عامي 1992 و1993، وانتهت الحرب بانفصال كل من أفخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا، وأرسلت روسيا قوات لحفظ السلام هناك؛ خوفا على أرواح الناطقين بالروسية في هاتين الجمهوريتين، وأراد الرئيس الجورجي السابق ميخائيل ساكاشفيلي -المدعوم من الغرب- في أبريل عام 2008،  استعادة جمهوريتي أوستيا الجنوبية، التي تبلغ مساحتها 3900 كم، ويسكنها نحو 100 ألف نسمة، وأفخازيا التي تطل على البحر الأسود، وتصل مساحتها إلى نحو 12% من إجمالي أراضي جورجيا، لكن الرد الروسي كان صارمًا عندما عبر الجيش الروسي الحدود الجورجية الروسية، وفشلت حرب ميخائيل ساكاشفيلي خلال 5 أيام فقط.

ثانيًا: فتح جبهة ثانية مع روسيا

تعد جورجيا ومولدوفا من أكثر الجبهات التي يراهن الغرب على فتحها ضد روسيا، فهناك رغبة في فتح “جبهة ثانية” مع روسيا بالتزامن مع سعى أوكرانيا لأخذ الإذن من الغرب لاستهداف العمق الروسي وفق ما يسميها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي “خطة النصر”، وأن فتح جبهة ثانية قد يجبر موسكو على الرضوخ لمطالب الغرب، ليس فقط في أوكرانيا؛ بل في جورجيا أيضًا.

ثالثًا: استغلال البيئة العسكرية الجديدة

تقوم خطة المعارضة الجورجية على أن العالم لم يلتفت إلى جورجيا عامي 2003 و2008، لكن بعد الحرب الروسية الأوكرانية بات هناك 50 دولة تدعم أوكرانيا عسكريًّا، وأن الرئيس الأمريكي حينذاك جورج بوش الابن لم يستطع فرض عقوبات على روسيا بسبب هذه الحرب، لكن الوقت الحالي ملائم لجورجيا في ظل الحشد الغربي ضد روسيا، وإذا قامت جورجيا بأي محاولة لاستعادة أفخازيا وأوسيتيا الجنوبية في الوقت الراهن فإن حظوظها ستكون أفضل، ليس فقط للأضرار التي لحقت بالجيش الروسي بسبب الحرب الروسية الأوكرانية؛ بل لأن العالم الغربي سوف يتعامل مع أي حرب بين جورجيا وروسيا “بدعم كامل وغير مشروط” لجورجيا، بخلاف التجاهل الأمريكي والدولي الذي كان تجاه حرب 2008؛ ولهذا فإن الوقت مناسب الآن-من وجهة نظرهم- لاستعادة جورجيا لكل من جمهوريتي أفخازيا وأوسيتيا الجنوبية.

رابعًا: خبرات عسكرية متراكمة

منذ اليوم الأول للحرب الروسية الأوكرانية، شكل الجورجيون المعارضون لموسكو ما يسمى “الفيلق الجورجي” ضمن الفيلق الأجنبي، الذي يحارب بجانب الجيش الأوكراني ضد روسيا، ويقال إن هذا الفيلق أصبح مستعدًا لنقل خبراته وتكتيكاته العسكرية التي اكتسبها من أوكرانيا ليطبقها في أي حرب تندلع في أوسيتيا الجنوبية وأفخازيا ضد روسيا.

خامسًا: وعود الناتو والاتحاد الأوروبي

لا يرى الغرب الخراب الذي حل بأوكرانيا نتيجة تحديها لروسيا والجيش الروسي، وتواصل واشنطن وبروكسل ترديد السردية نفسها التي تقول لجورجيا -كما قالت لأوكرانيا- إن وعد دخول جورجيا حلف “الناتو” عام 2008 ما زال قائمًا، خاصة أن البعض يرى أن “حلف الناتو” في الوقت الحالي أكثر قوة من أي وقت مضى.

سادسًا: تخريب العلاقات الروسية القوقازية

تقوم التقديرات الأمريكية والغربية على أن أي حرب جديدة تندلع بين روسيا وجورجيا سوف تكون لصالح الغرب؛ لأنها سوف تخلق “شرخًا كبيرًا” في العلاقة، ليس فقط بين الجورجيين وروسيا؛ بل بين كل الشعوب القوقازية وموسكو.

الأوراق الروسية

أكثر الأوراق الروسية قوة هي انحياز الشعب الجورجي من خلال صناديق الانتخابات إلى الرؤية التي تحافظ على العلاقة مع روسيا، وترفض الدخول في مغامرات سياسية أو عسكرية جديدة ضد موسكو، خاصة أن روسيا استفادت من بناء القدرات العسكرية لجمهوريتي أوسيتيا الجنوبية وأفخازيا خلال أكثر من 3 عقود، حيث بات للجمهوريتين قوات على أعلى مستوى من التدريب والمهنية، كما أن وجود قوات السلام الروسية في أفخازيا وأوسينيا الجنوبية أسهم في تقدير موقف دقيق للأوضاع العملياتية في المنطقة التي تمتلك فيها روسيا قدرات عسكرية، وخطوط إمداد متعددة.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع