“النقيضان” و”الضدان” لفظان نخلط بينهما في أحيان كثيرة، اللفظ الأول يعني أمرين لا يجتمعان في الوقت والشيء الواحد (كالوجود والعدم، والحركة والسكون). أما اللفظ الثاني فيعني (صفتين وجوديتين يمكن اجتماعهما أو تعاقبهما في موضع واحد)، مثل تعدد الألوان المختلفة. عندما أتحدث عن “حزب الله” وعلاقته مع إيران، أجد نفسي أمام أمر شائك، وموضوع شديد الحساسية لطرفين تبنّا نظرية الضد، ودفعا الجميع تقريبًا باتجاه معادلة النقيضين.
هذا الأسلوب والمنطق -لو جاز تسميته “منطقًا”- يمكن تفهمه في إطار حالة الشحن الإعلامي والاستقطاب الحاد لاجتذاب العامة والدهماء، لكن لا يمكن اعتماده في أي عمل بحثي جاد. وفقًا لهذا المنطلق الأخير؛ سأتناول هذا الموضوع في الجزء الثاني من “رباعية قصة حزب الله”، التي آمل منها فهم وتحليل ظاهرته، ومن خلفه جميع ظواهر الحركات المسلحة خارج نطاق الدولة، التي شهدت -وما زالت تشهد- تناميًا في الجسد العربي، لعلنا نتمكن من منع تكرارها مستقبلًا.
الملف اللبناني بطبيعته معقد جدًّا على المتخصصين؛ ومن ثم فهو أكثر تعقيدًا وصعوبة على غيرهم. ومع تصاعد الأحداث الجارية في لبنان، ازداد الاهتمام بمعرفته وتكونيه، وخريطة أحزابه وارتباطاتها الخارجية، وحتى يمكننا فهم هذه المعادلة الصعبة نحتاج دومًا إلى العودة -ولو قليلًا- إلى الوراء؛ لأن الواقع اللبناني الحالي ما هو إلا نتاج ظروف وأحداث تراكمت عبر الزمن حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن. وللمهتمين بمزيد من المعرفة بالخريطة السياسية اللبنانية أنصحهم بالاطلاع على الجزء الأول من هذه الرباعية، تحت عنوان (قصة صعود حزب الله … دليلك لمعرفة الخريطة السياسية اللبنانية).
نشأ لبنان منذ اليوم الأول لولادته عام 1920 على يد الفرنسيين بلدًا لا يمكنه الاعتماد على نفسه، ولا مجال فيه للحديث عن دولة أو استقلال وطني بمعنى الكلمة؛ فهو تركيبة معقدة من المتناقضات الدينية، والعرقية، والطائفية، والمناطقية، ولم تنشأ فيه عبر التاريخ دولة مركزية، وكان ما يُعرف بلبنان تاريخيًّا منطقة محصورة في نطاق (3500) كم²، أما لبنان الحالي، أو “لبنان الكبير” كما سماه الفرنسيون، فمساحته أصبحت (10452) كم²، بعد اقتطاع أراضٍ من الشام الكبير، وفق صيغة التفاهم البريطاني الفرنسي، أو “اتفاقية سايكس- بيكو”، ومنذ تلك اللحظة نشأت الأزمة الكبرى بشأن لبنان ما بين أغلبية من المسلمين رافضة له، وغير مؤمنة به، معتبرة إياه شكلًا غريبًا صممته فرنسا لعزلهم عن أراضيهم وعمقهم التاريخي مع سوريا وباقي بلدان الشام الكبير؛ وعليه، كان مشروعهم قائمًا على مقاومة الانتداب الفرنسي، وإخراجه من المنطقة والوحدة مع سوريا الكبرى، مقابل أغلبية من المسيحيين الموارنة ترفض رفضًا باتًا أي وحدة مع سوريا الكبرى، وتريد دولة لبنانية مستقلة بحدودها الجديدة التي وضعها الفرنسيون، أو اقتطاع دولة مسيحية لهم، وليذهب المسلمون للوحدة مع سوريا بمفردهم.
بعد استقلال سوريا، وقيام النظام الجمهوري في مصر، وما تحقق لجمال عبد الناصر من شعبية جارفة؛ نتيجة للانتصار السياسي الذي حققه بعد العدوان الثلاثي عام 1956، وقيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا عام 1958. دخل لبنان في انقسام شعبي عمودي حاد بين وجهتي النظر السابقتين، ما زالت قائمة حتى الآن، وإن تغيرت أطرافها، لكن جوهرها واحد؛ ألا وهو هوية لبنان، وإلى من ينبغي أن ينتمي.
الرؤية الأولى: رفع أصحابها شعار “قوة لبنان في ضعفه”، وهي المقولة الشهيرة التي أطلقها رئيس حزب الكتائب اللبنانية بيار الجميل، وأيدتها باقي الأحزاب المارونية اليمينية، ويمكن اختصارها في أن “لبنان هويته فينيقية قديمة، وغربية مرتبطة بدول أوروبا المتوسطية، والوضعية المثالية له تكمن في أن يصبح سويسرا الشرق -كما سويسرا في أوروبا- بلدًا محايدًا، ويفصل نفسه عن هذه المنطقة العربية ومشكلاتها، وينفتح على الجميع بلا استثناء، ويعقد صلحًا مع إسرائيل لتجنيبه خطر الدخول في حرب معها”. كما تبنت هذه النظرية “ضرورة عدم تمتع لبنان بأي قوة عسكرية، أو موقف منحاز؛ حتى لا يشكل خطرًا على أي طرف، ليصبح ساحة مفتوحة للتجارة الحرة، والترانزيت، والبنوك والمصارف، والسياحة والترفيه، ومركزًا عالميًّا في الشرق الأوسط للخدمات، وهو ما سيمنحه قوة عبر حماية أصحاب المصالح الدوليين لبقائه مستقلًا”. أما في حال تعذر الاتفاق على هذه الهوية، فالبديل هو “نظام فيدرالي ذو صلاحيات موسعة، يسمح للأطراف المسيحية والمؤمنة بهذه النظرية أن تقرر مصيرها بمعزل عن الرافضين لها”. مع الوقت، تطور هذا التصور وصولًا إلى تأسيس جبهة تعبر عنه تحت اسم “الجبهة اللبنانية” عام 1976، ضمت 4 كيانات سياسية وعسكرية مسيحية ذات اتجاه يميني، أطلق عليها خصومها “الجبهة الانعزالية”.
الرؤية الثانية: رفع أصحابها شعار “عروبة لبنان”، مؤكدين أن نظرية “قوة لبنان في ضعفه” سخيفة وساذجة، ولا يمكن تطبيقها على أرض الواقع؛ لأن الشرق الأوسط ليس أوروبا، ولبنان ليس سويسرا، فهذه منطقة تشكلت فيها إمبراطوريات وحدت أراضيها عبر التاريخ، وأصبحت العربية لغتها، وعاداتها وتقاليدها وجغرافيتها واحدة، وعلى حدود لبنان زُرع كيان دخيل عليها لا ينتمي إليها، قطع أوصال المنطقة، وهذا الكيان بطبيعته توسعي استعماري وعدائي، ولا يمكن ضمان السلام معه دون امتلاك القوة، كما أن لبنان لا يمكنه الانعزال عن هذا الصراع ولديه آلاف من اللاجئين الفلسطينيين من مصلحته عودتهم إلى ديارهم، وإلا سيتم توطينهم؛ مما سيخل بالتوازن الطائفي بالبلد، ويؤدي إلى تفجيره. يضاف لما سبق أن فكرة انعزال لبنان -وفقًا لتصورهم- ما هي إلا فكرة استعمارية تهدف إلى عزله عن محيطه، وانسلاخه منه ثقافيًّا، بعدما خلق هذا الاستعمار إسرائيل لتكون كيانًا مختلفًا دينيًّا وثقافيًّا وتاريخيًّا يقسم العرب جغرافيًّا؛ ومن ثم سيكون لبنان فعليًّا -وفق خيار اليمين الماروني- منحازًا إلى الغرب على حساب المصالح العربية، وسيصبح لقمة سائغة لإسرائيل، ودولة بلا أي إرادة أو قيمة بالمنطقة، ولن يأمن سائح أو مستثمر على المجيء إليه؛ فنكون لا استقلال خلقنا، ولا رفاهية اقتصادية حققنا. هذا الاتجاه عُرف فيما بعد باسم “الحركة الوطنية اللبنانية”، التي تأسست عام 1969، وضمت نحو ثمانية أحزاب وجبهات سياسية من مختلف الطوائف اللبنانية، وكان يغلب عليها المسلمون.
نتيجة للخلافات الدائمة بين جميع الأطراف اللبنانية منذ تأسيس الجمهورية، وقبل خروج هذه الجبهات إلى النور، حدثت (أزمة 1958)، وهي عبارة عن صراع مسلح بين الطرفين، اتخذ فيما بعد طابعًا دينيًّا بين المسلمين والمسيحيين، وكان البروفة الأولى للحرب الأهلية اللبنانية، وبتدخل وتوافق (مصري- فرنسي- أمريكي) اتُّفِقَ على تولي العماد فؤاد شهاب، قائد الجيش اللبناني، رئاسة الجمهورية، وأن ترعى مصر المصالحة داخل لبنان، وضمان السلم الأهلي، بالاتفاق مع الأمريكيين والفرنسيين. كما قدم جمال عبد الناصر دعمًا قويًّا لفؤاد شهاب، وتعهد للبطريرك الماروني، الكاردينال بولس بطرس المعوشي، بحفاظ مصر على استقلال لبنان واستقراره، وقد دعم المعوشي الرئيس فؤاد شهاب، وأثنى على عبد الناصر ودوره، وأكد ثقته بوعده باستقلال لبنان، حتى إن اليمين الماروني سمّاه ناقدًا “محمد المعوشي”. الجدير بالذكر أن الرئيس الفرنسي شارل ديغول نصح البطريرك الماروني بالتوافق مع مصر، معتبرًا إياها “ضمانة” قوية للمسيحيين في لبنان، وحذره من الانسياق خلف الأمريكان؛ لأنهم “لا يفهمون المنطقة جيدًا”، أما إسرائيل “فلا تهتم إلا بأمنها ومصالحها”، كما ورد في شهادة الصحفي والدبلوماسي الفرنسي إيريك رولو [2].
بعد حرب السادس من أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وما أعقبها من بدء مسار جديد في شكل الدولة المصرية وتوجهاتها، وتراجع دورها عربيًّا، تجرأت الأطراف اللبنانية بعضها على بعض؛ نتيجة غياب ما سمّاه الرئيس اللبناني السابق شارل الحلو “الضمانة المصرية”، وبدأ الصراع فيما بينها من جديد، وفي هذه المرحلة رفع الرئيس السادات شعاره الشهير “ارفعوا أيديكم عن لبنان”، في جلسة مجلس الشعب المصري يوم 18 أكتوبر (تشرين الأول) 1975، الذي فسرته الأطراف المتصارعة على أنه تخلٍ مصري عن دور الضامن للسلام. ونتيجة خشية المسيحيين من ضياع هيمنتهم السياسية، سارع الرئيس اللبناني الخامس سليمان فرنجية إلى تحطيم ما تسمى “الشهابية الأمنية”، وهي المؤسسات الأمنية التي أسسها الرئيس فؤاد شهاب، لحفظ الأمن، وجمع المعلومات؛ لأنها كانت مزعجة لكل الأطراف التي لا تريد دولة في لبنان بالمعنى الحقيقي؛ بل إدارة وبلدًا مشاعًا يتم فيه تداول السلاح، وتبادل المعلومات بين الجميع، بلا أي رقابة، تضمن هيمنة زعماء الطوائف، ونصح الأحزاب المسيحية بتسليح نفسها.
شكلت زيارة السادات للقدس، عام 1977، الضربة القاضية لكل مجهودات إيقاف الحرب الأهلية، وألهبت نيرانها الجميع. الفريق الأول من اليمين الماروني خرج ليقول “لقد تأكد للكل صواب رؤيتنا منذ البداية، وضرورة انعزالنا عن مشكلات المنطقة، وها هي الدولة الكبرى مصر بقدراتها وإمكاناتها تذهب لعقد صلح منفرد مع إسرائيل”، في حين رأى الفريق الثاني “أن تصرف السادات يخصه، ويعبر عن توجهاته، لا عن توجه الأمة، وسيتأكد للجميع مستقبلًا أن هذا التوجه سيُطلق يد إسرائيل في المنطقة لتعبث بأمنها دون أي رادع، ولن تقبل في النهاية بعقد سلام مع أي دولة عربية، وأن هدفها من السلام مع مصر عزلها عن الصراع لتأمن ظهرها”. وهكذا اشتعلت الحرب الأهلية وصولًا إلى اجتياح إسرائيل -لأول مرة- عاصمة عربية؛ عندما احتلت بيروت عام 1982.
في ظل هذه الظروف، وخروج مصر من المعادلة العربية، والصراع مع إسرائيل التي أمنت ظهرها بهذا السلام، وأصبحت تضرب جميع خصومها من العرب بلا أي رادع، حدث ما يمكن تسميته “مكر التاريخ”، من خلال حدث غير متوقع، أدى إلى سقوط حكم شاه إيران، حليف الولايات المتحدة وإسرائيل الأول في المنطقة، وقيام نظام ثوري معادٍ لإسرائيل، قرر قطع العلاقات مع تل أبيب، وتسليم سفارتها للفلسطينيين، وهنا وجد النظام السوري حليفًا بديلًا عن مصر، حيث لم تكن لديه القدرة منفردًا على مواجهة إسرائيل، وبدأت في ظل هذه الظروف من حدوث الفراغ العربي قصة حزب الله اللبناني، التي تبعها تنامٍ لظاهرة الميليشيات خارج نطاق الدولة التابعة لطهران.
يوجد عالم عربي مكون من عدة دول، وهذه الدول في هذه المنطقة من العالم تتمتع بثراء وموقع إستراتيجي فريد ومهم لكثير من القوى الدولية والإقليمية. وبسبب غياب الحد الأدنى من الوحدة والاتفاق والقوة للعرب، سعى القريب قبل البعيد إلى استغلالهم، وخلق نفوذ على حسابهم، وهذا بالضبط ما فعلته الجمهورية الإسلامية الإيرانية ما بعد الشاه، التي وجدت نفسها في محيط معادٍ لها بعد الثورة، ودخلت في حرب مع العراق في العام الثاني من قيامها، استمرت من عام 1980 إلى 1988، دمرت كل مواردها، وكل القوة التي راكمتها منذ بدء القرن العشرين، وعليه اعتمدت الاستراتيجية الإيرانية على العقيدة النابليونية عبر نقل الحرب لأراضي خصومها، ورفع شعار “تصدير الثورة” عملا بالقاعدة الشهيرة “خير وسيلة للدفاع الهجوم”. وفي ظل بحثها عن فراغات بمحيطها لتشغله، وتشكيل تحالفات جديدة، استغل نظام الخميني الفراغ الذي خلفته مصر في المنطقة بعدما انسحبت منها، ورفعت شعار “مصر أولًا”، مع عدم قدرة أي طرف عربي آخر على ملئه، ووجد ضالته في النظام السوري الذي كان يبحث هو أيضًا عن حليف قوي يستند إليه بعدما أصبح وحيدًا بعد خروج مصر من الصراع، وفي ظل الفوضى التي ضربت لبنان، وحاجة إيران إلى أوراق ضغط على الولايات المتحدة، بدأت تبحث في لبنان على من تقدم له الدعم المادي والعسكري، ويدين أيضًا بالولاء لها، ويستطيع الضغط على إسرائيل (الحليف الوحيد للولايات المتحدة في المنطقة). في البداية، اعتقدت إمكانية تحقيق ذلك من خلال المنظمات الفلسطينية المسلحة الموجودة في لبنان، ولكن الاختلاف الأيديولوجي، وانحياز ياسر عرفات إلى العراق في حربه مع إيران، ثم خروجه من بيروت بعد اجتياحها، أدى كل ذلك إلى التخلي عن هذا الخيار.
كثفت إيران مجهودات بحثها في المجتمع الشيعي الذي كانت لها فيه قاعدة شعبية أسسها شاه إيران سعيًا منه إلى خلق نفوذ في لبنان، وهنا نؤكد مجددًا أن الدول التي تمتلك مؤسسات حقيقيه تتغير أيديولوجياتها وتوجهاتها وسلطة الحكم فيها، وتظل منظومة أمنها القومي ثابتة. كان الشاه قد قدّم الدعم لشخصية دينية إيرانية من أصول لبنانية، وهو السيد موسى الصدر؛ ليؤسس مجتمعًا شيعيًّا قريبًا من إيران في لبنان، وقد تمكن من ذلك من خلال تأسيسه عام 1974، “حركة المحرومين”، التي أصبحت فيما بعد تسمى “أفواج المقاومة اللبنانية- أمل”، لكن موسى الصدر اختفى بعد زيارته لليبيا منذ 31 أغسطس (آب) 1977، ويعتقد -على نطاق عريض- أن نظام القذافي تخلص منه هناك. وفي ظل الحرب التي كانت تخوضها إيران مع العراق، وبحثها عن حلفاء بالعالم العربي، والعلاقة الجيدة التي ربطتها بنظام معمر القذافي، وعلمها بأن موسى الصدر قد قُتل بالفعل، غلبت مصلحتها الآنية على قضية “اختفائه” التي لم يعد يجدي الحديث فيها؛ لأنه أصبح في عالم آخر، لكن هذا الموقف أزعج قيادات حركة أمل، وهاجموا على إثره إيران وسياساتها، مع وجود اختلاف ثقافي كبير بين الاتجاه الذي بدأت معالمه تتضح للنظام الإيراني من خلال تبنيه الرؤية الفقهية المسماة (ولاية الفقيه)، المختلف عليها شيعيًّا، وهو ما لم يجد قبولًا لدى حركة أمل وجمهورها، في هذه الأثناء بحثت إيران عن الفئات الشيعية المرتبطة بالحوزة الدينية، وقد تشكلت هذه الفئة قبل قيام الثورة الإيرانية، وتوسعت على يد رجل الدين الشهير محمد حسين فضل الله، وبناء على اقتراح علي أكبر محتشمي، السفير الإيراني في سوريا آنذاك، ومحمد منتظري، ومصطفى شمران، أُسِّسَ حزب ديني موالٍ لإيران، ومؤمن بولاية الفقيه تحت اسم “حزب الله”، على أن يتولى الحرس الثوري الإيراني تدريبه، وبالفعل أُرسل 1500 خبير عسكري إيراني متخصص عبر الحدود السورية، وتابع هذه العملية محمد حسن أختري؛ السفير الذي حل محمل محتشمي في سوريا، حتى أُعلِن قيام الحزب عام 1982.
منذ دخول الفصائل الفلسطينية المسلحة لبنان، عانى سكان الجنوب الشيعة في غالبيتهم، وخُربت جميع قراهم، ولم يعد هناك من بيت شيعي جنوبي إلا وفيه قتيل، أو معاق، أو مفقود، بجانب وضع اقتصادي كارثي. هنا يظهر لهم ما يبدو “منقذًا”. شباب لم يتورطوا في الحرب الأهلية، وذوو منطلقات مبنية على القيم الدينية، هدفهم المعلن حماية الجنوب وسكانه، وينتمون إليه ولا يقاتلون سوى إسرائيل وعملائها، ولم يوجهوا سلاحهم بالداخل إلا على نحو متقطع للدفاع عن أنفسهم من اعتداءات حركة أمل التي أرادت القضاء عليهم لأنهم يهددون زعامتها الشيعية. يقود هؤلاء الشباب السيد محمد حسين فضل الله، وهو شخصية روحية تتمتع بثقل وشعبية. سوّق شباب حزب الله آنذاك لأنفسهم بأنهم قادرون على تحقيق الأمن للسكان الشيعة؛ مما دفع كثيرًا من الشباب إلى الانضمام إليهم، ووقوف السكان المحليين بجوارهم، حيث وجدوا فيهم الملجأ والملاذ الآمن في ظل عدم وجود دولة، وتراجع عربي، وانشغال حركة أمل بسلطتها والحرب الأهلية. شكلت هذه الظروف بيئة وحاضنة شعبية كبيرة للحزب، وإخراج مثالي له ساعده فيما بعد عند اتفاق الطائف عام 1989، بأن يُستثنى من قراراته بنزع السلاح من جميع الميليشيات، وتسليمها للجيش اللبناني.
أصبح لأهل الجنوب الشيعة الذين عانوا الفقر والخراب لأول مرة درع حامية لهم. كما تدفقت عليهم الأموال من إيران بسخاء، وأحسن قادة الحزب الأوائل إنفاقها على حاجات الناس الأساسية، فشكل الحزب حماية، وداعمًا اقتصاديًّا، ومقاومة للمحتل وعملائه، وذلك كله من خلال شباب ينتمي إليهم، ويفهم ثقافتهم، عكس ما كان من ذي قبل في أثناء وجود المنظمات الفلسطينية، وحلفائها اليساريين من مناطق لبنانية مختلفة، وجنسيات متعددة.
أكد حزب الله في جميع المناسبات، لسكان جنوب لبنان، أن الفضل في كل هذه الخدمات التي يقدمها يعود إلى إيران؛ ومن ثم أصبح للحزب وإيران قاعدة شعبية داخل مجتمع لبناني عانى هذه الظروف الصعبة، ويتصف بالعناد، وإيمانه بعقيدة الثأر والانتقام؛ ولذلك فإن حاضنة الحزب وعداءها لإسرائيل لا ينبغي النظر إليها على أنها مجرد دعاية أو “شحن” أيديولوجي كما يظن البعض، بل مرتبطة بواقع عاشوه وآثاره ما زالت حاضرة في ذاكرتهم، وحتى من لم يعاصر هذه المرحلة ورث رواياتها من أخيه، أو أبيه، أو قريب له تعرض للقتل، أو الخطف نتيجة لهذه الحروب، التي تتكرر فصولها اليوم أمام أعينهم.
مع مرور الوقت وجد النظام السوري في حزب الله حليفًا جيدًا، على الرغم من عدم ارتياحه له بالبداية؛ لأنه يحمل أيديولوجية دينية، لكن بفضل تدخلات إيران وتقريبها لوجهات النظر بينهما، وإثبات الحزب فاعليته في قتال إسرائيل وعملائها، ولأن الحزب شيعي، وهذه نقطة مهمة لا ينبغي إغفالها، ما كان النظام السوري ليسمح بوجود حزب ديني سني، حتى لو كان يقاتل إسرائيل حصرًا، ولو كان حليفًا ومواليًّا له؛ لأن ترك حزب كهذا سيؤدي إلى سعي البعض إلى تكرار التجربة واستنساخها داخل سوريا ذات الأغلبية السنية، أما حزب الله الشيعي، فلم يشعر النظام السوري بتهديد مباشر عليه بالداخل.
بعد اتفاق الطائف عام 1989، وتأسيس الجمهورية اللبنانية الثانية، ونزع السلاح من جميع الميليشيات، وحصرها في يد الجيش اللبناني، الذي خرج من الحرب الأهلية منهكًا ومفككًا، كان الطرف الوحيد خارج نطاق الدولة الذي يحمل السلاح، ولديه شرعية بإقرار إقليمي وداخلي لبناني لأنه يقاوم الاحتلال، هو حزب الله، وفي هذه الأثناء بدأ الحزب يحقق انتصارات على “جيش لبنان الجنوبي” الموالي لإسرائيل، وتصاعدت شعبيته في الداخل اللبناني، وفي حاضنته الشعبية على نحو كبير، وساعدته المخابرات الإيرانية والسورية بالمعلومات، وزاد الدعم الإيراني المالي له بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية عام 1988، وأصبحت علاقته أكثر استقرارًا مع النظام السوري، الذي أوكل إليه المجتمع الدولي وضع لبنان تحت حمايته، وأصبح مهيمنًا على القرار السياسي اللبناني، فيما يسمى “عصر الوصاية السورية”. في هذه الحقبة، لم يكن من الممكن لأي سياسي لبناني أن يقرر أي أمر مهم دون العودة إلى قادة النظام السوري الأمنيين في بيروت، مثل غازي كنعان، أو رستم غزال، أو وكلائهم مثل اللواء جميل السيد، مدير الأمن العام اللبناني، مع وجود عسكري سوري يقدر بنحو (30.000).
وسط هذه الظروف، تصاعدت الأصوات المعارضة للوجود السوري في لبنان، وكان النظام بحاجة إلى حليف قوي يستند إليه بجوار حلفائه التقليديين؛ ولذلك أراد أن يستغل انتصارات حزب الله العسكرية بما يخدم ويعزز وجوده، فطلب من الحزب أن يدخل اللعبة السياسية ليخلق توازنًا في البرلمان. تقليديًّا، كان الحزب يرفض أي مشاركة في العمل السياسي، ويصفها بالعملية الفاسدة التي لن يلوث نفسه بالمشاركة فيها، ولكن نتيجة للضغط السوري، وبفتوى دينية من المرشد الإيراني علي خامنئي، دخل برلمان عام 1992، وجميع الانتخابات البرلمانية منذ ذلك الحين حتى الآن، وقد أدى دخول الحزب البرلمان إلى انشقاقات داخله طُوِّقت سريعًا بفضل مهارة وقيادة أمينه العام الذي تولى منصبه حديثًا في ذلك الوقت حسن نصر الله، والذي كان أكثر قربًا وصدقًا في تحالفه مع إيران ممن سبقوه؛ نتيجة تعليمه الديني، وإيمانه العميق بولاية الفقيه.
ساعدت كاريزما الأمين العام للحزب حسن نصر الله، الذي تولى مهام منصبه عام 1992، على زيادة شعبية الحزب، وتزامن تحرير جنوب لبنان مع تعثر مسار السلام الذي اتخذه العرب خيارًا إستراتيجيًّا، بعدما قدم العرب والفلسطينيون جميع التنازلات والضمانات المطلوبة لتقبل إسرائيل بمشروع التسوية السلمية، ومع تفجر الانتفاضة الثانية نهاية عام 2000، بدأ الحزب -لأول مرة- يقدم دعمًا خارج أراضيه، ويعلن تقديمه دعمًا عسكريًّا ولوجستيًّا للفصائل الفلسطينية ذات الأيديولوجية الدينية، وتحديدًا حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
أسهمت عدة تيارات في التسويق لحزب الله. جماعة الإخوان المسلمين، وفقًا لمنطلقاتها وأهدافها الذاتية- سوّقت هذا الانتصار لخدمة شعارها “الإسلام هو الحل”، في حين أعادت التيارات القومية العربية التسويق لنظرية “التحرير عبر المقاومة المسلحة” من خلال الشعار الذي أطلقه جمال عبد الناصر “ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”. كذلك سوّقت التيارات الاشتراكية انتصار حزب الله ومقاتليه على أنهم مجموعة من “الكادحين” أو “البروليتاريا” الذين آمنوا بقضيتهم العادلة، واعتبارهم حلفاء في معركتهم ضد الصهيونية والإمبريالية العالمية، وهكذا سوّق هذا الانتصار الجميع بما يخدم خطابهم السياسي، ورأت فيه الشعوب العربية غير المسيسة وغير المهتمة بالصراعات الأيديولوجية والفكرية أنه “نصر لطرف عربي على العدو الإسرائيلي نتيجة المقاومة، وعلى نحو مشرف، يحفظ الكرامة المهدرة، مقابل حلول السلام التي بدت غير قابلة للتحقق من جانب النظام الرسمي العربي”.
تمكن الحزب أيضًا من تغيير الصورة النمطية المعروفة عن التيارات الدينية؛ وذلك لموقفه المؤيد للحريات العامة والخاصة، وإيمانه بالعمل السياسي، والصيغة التوافقية لحكم لبنان، وعدم سعيه إلى نيل أي مناصب، وعدم فرضه لأيديولوجيته الدينية على الآخرين (سنرى لاحقًا كيف تغيرت كل هذه المواقف منذ عام 2006)، فعزّز بأفعاله صورته بوصفه تيارًا إسلاميًّا مقاومًا، له رؤية خاصة لا يسعى إلى تطبيقها على باقي المجتمع مثل باقي التيارات السلفية الجهادية، والتيار الوحيد الذي حرر أرض ولم يحكمها بمفرده.
امتلك الحزب ماكينة إعلامية أسهمت إيران في تأسيسها وتدريب كواردها؛ ليصبح له صوت معبر عنه داخل لبنان وخارجه، وماكينة إعلامية متطوعة من التيارات العربية السياسية المختلفة نتيجة الإعجاب به من خلال ما ذكرناه سابقًا من أسباب، فتحول إلى أيقونة ورمز للحرية والكرامة والمقاومة، من المحيط إلى الخليج.
الخاتمة
بعد العرض السابق لظروف نشأة الحزب، وكيف تمكنت إيران -في لحظة فراغ عربي- من استغلال الفرصة لصالحها، وكيف أصبح لحزب الله هالة إعلامية “مقدسة”. نستكشف في الجزء الثالث، كيف نجحت إسرائيل فيما فشلت فيه عام 2000، عندما أرادت نصب فخ للحزب، ودخوله حقبة من الصدامات والصراعات الداخلية والخارجية، وبدء الاختلاف على سلاحه ودوره، وشعور عدة أطراف بخطورة أيديولوجيته.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.