تقدير موقف

المنظور الإيراني.. كيف تخرج طهران من الحرب مع تل أبيب منتصرة؟


  • 7 أكتوبر 2024

شارك الموضوع

توطئة

في إطار العد التنازلي لتحديد مستقبل منطقة الشرق الأوسط، وبدلًا من أن تتبنى الجمهورية الإسلامية نبرة هادئة بعد الهجوم الصاروخي الإيراني الذي استهدف ثلاث قواعد عسكرية إسرائيلية، مستهل شهر أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، ظهر المرشد الأعلى على خامنئي في يده بندقية في أثناء خطبة الجمعة الماضية للمرة الأولى منذ خمس سنوات؛ ليحمل رسالة مباشرة عن الاستمرار في الحرب ضد إسرائيل، عبّر عنها بكلمات عربية واضحة قائلًا “إن هذا الهجوم يُعد الحد الأدنى من العقاب للدولة العبرية”.

في سبيل هذا، ولاستشراف الأيام الدقيقة المقبلة، لا بد من تفكيك العقلية الإيرانية ومنظورها تجاه تعاملها مع إسرائيل، فبينما يركز أغلب المحللين على طبيعة الرد الإسرائيلي على الهجوم الإيراني الأخير “عميلة العهد الصادق 2” وحدوده، ينطلق هذا التحليل من حسابات الربح والخسارة في عقيدة إيران تجاه الحرب مع إسرائيل، وكيف تضمن طهران تعظيم مكتسباتها من الحرب مع إسرائيل؟ وهل ستقابل الرد الإسرائيلي المرتقب من خلال استهداف مباشر، أم من خلال وحدة الساحات، وقوات محور المقاومة؟ والأهم إذا اختارت طهران أحد المسارين، كيف ستتحرك لتنفيذه؟ وما الآثار المترتبة عليه  في الداخل الإيراني، وفي المنطقة برمتها؟

المنظور الإيراني تجاه إسرائيل

ثمة عدة ركائز تشكل الإطار المرجعي للفكر الإيراني؛ ومن ثم تعد محددات لتوجهات السياسية الخارجية الإيرانية تجاه إسرائيل والحرب الدائرة في الإقليم، يعد من أبرزها:

  1. العقيدة الفارسية تجاه إسرائيل: بينما كان محمد رضا شاه بهلوي يسعى إلى إقامة علاقات وثيقة مع الغرب، كان ينظر إلى إسرائيل بوصفها حليفًا طبيعيًّا؛ ومن ثم كانت الذاكرة التاريخية للتفاعلات الفارسية اليهودية إيجابية إلى حد كبير.
  2. خلق عدو دائم: لقد قلبت الثورة الإسلامية هذه العلاقات الوثيقة بين إيران وإسرائيل، فلم يقتصر الأمر على قطع العلاقات، بل إن آية الله الخميني صنف إسرائيل في مرتبة الشيطان الصغير، وفي هذا السياق، مثلت إسرائيل عدوًا مفيدًا للجمهورية الإسلامية؛ فهي ليست مجرد تحويل للانتباه عن المحن الداخلية؛ بل إنها تشكل أيضًا جزءًا من محاولة إيرانية للتدخل في شؤون الشرق الأوسط.
  3. تصدير الثورة الإسلامية: من الأهمية بمكان لدولة كبيرة غير عربية ذات أغلبية مسلمة شيعية ملتزمة بتصدير ثورتها إلى الدول العربية، ألا تكون خطوط الصدع الرئيسة في الشؤون الإقليمية عربية فارسية -بل دينية، ولا بد من رسم الخط الفاصل ليس بين تيارات الإسلام، كما يفعل كثير من أهل السنة، ولكن بين المسلمين وغيرهم، ولا يوجد “آخر” أفضل في الشرق الأوسط من إسرائيل.
  4. الموقف الإيراني تجاه القضية الفلسطينية: تعارض إيران أي خطة للسلام والمصالحة مع إسرائيل، فموقف طهران من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يعكس مزيجًا معقدًا من الأيديولوجية والبراغماتيةـ ففي نظر النظام الإيراني بعد الثورة، أصبحت إسرائيل محورًا مركزيًّا للهجوم الأيديولوجي الديني، وأصبحت الجمهورية الإسلامية داعمًا رئيسًا لأي مقاومة ضد إسرائيل، وبدا الأمر وكأن إيران أصبحت فلسطينية أكثر من الفلسطينيين، فقد عارضت كل مفاوضات السلام بين العرب والإسرائيليين، ومنها اتفاقيات أوسلو التي أبرمتها منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1993.
  5. مبدأ المقاومة الفعالة: استنادًا إلى تصريحات رئيس قسم العقائد والسياسة في الحرس الثوري، علي سعيدي، أن المقاومة الفعالة تعني الرد الذي لا يؤدي إلى حرب شاملة، وفي الوقت نفسه يضمن الردع، ويمنع تكرار الأحداث السابقة، ما يشير إلى مخاوف طهران التاريخية من التطويق والهجوم، فقد أدت عقود من العقوبات إلى إضعاف القدرات العسكرية التقليدية لإيران، بحيث أصبح التركيز على الاستجابات غير المتكافئة أمرًا لا مفر منه لطهران.

اتجاهات إيران في التفاعل مع تطورات حرب الإقليم:

إن سلسلة الرد والرد المضاد بين إسرائيل وإيران، تفرض فهم خيارات الخسارة والربح لطهران لاستباق خطوات تل أبيب في المنطقة؛ ومن ثم تكون إيران أمام توجهين رئيسين لمواجهة الضربة الإسرائيلية المرتقبة، هما:

أولًا- المواجهة المباشرة: إن الرد الإيراني على هجوم إسرائيل المحتمل قد يأتي في صورة هجوم آخر عبر الصواريخ الباليستية على الأهداف الحيوية في قلب إسرائيل، وربما الرد التالي لإيران يأتي -كما جاء في رسالة طهران غير المباشرة للولايات المتحدة عبر قطرـ بأنها ستقابل أي هجوم إسرائيلي برد غير تقليدي، وهو ما يفتح المجال لصور جديدة للرد الإيراني قد تتضمن استهداف البنية التحتية الإسرائيلية، أو قد تشمل ضربات إيرانية مباشرة لمصالح إسرائيل في دول الجوار، أو قد يكون استهدافًا سيبرانيًّا.

يدعم هذا التوجه عملية الوعد الصادق بمرحلتيها؛ الأولى في أبريل (نيسان) الماضي ردًا على استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، والثانية من خلال ما يقرب من 200 صاروخ في مطلع أكتوبر (تشرين الأول) الجاري انتقامًا لاغتيال إسماعيل هنية وحسن نصر الله، في إطار سلسلة الاغتيالات الإسرائيلية لقادة حزب الله، وفصائل المقاومة الفلسطينية، والحرس الثوري الإيراني، فضلًا عن التصريحات المتكررة لرموز النظام الإيراني المصرة على الانتقام من إسرائيل بضربة إيرانية، حيث أكد الحرس الثوري الإيراني أنه إذا ردت إسرائيل على عمليات إيران، ستواجه هجمات ساحقة، ولعل أهم من تلك التصريحات، التحركات المرتبطة بها؛ إذ إنها تحمل رسائل مباشرة وضمنية عن توجهات النظام الإيراني، وقدرته على الحشد الداخلي والخارجي للرد المباشر على تل أبيب.

إن العقلية الإيرانية البراغماتية تستهدف من أي توجه تحقيق أكبر مصلحة ممكنة، وإذا تبنت طهران المواجهة المباشرة مع إسرائيل وحلفائها في المنطقة، فهي تطمح إلى توثيق محور الشرق مع الصين وروسيا ضد الولايات المتحدة وحلفائها، ومن أهمهم إسرائيل، كما أن المواجهة بيد الجمهورية الإسلامية تضمن تعزيز صورتها بوصفها منقذًا للدول الإسلامية في المنطقة؛ من خلال حمل عباءة المقاومة ضد إسرائيل والولايات المتحدة، ومن شأن هذا استقطاب التضامن على مستوى الشعوب العربية والإسلامية، ويرتبط كذلك بإصرار النظام الإيراني على فكرة تصدير الثورة الإسلامية، وتقديم النموذج المثالي للدولة الإسلامية القادرة على ردع الأعداء كرمز لحركات المقاومة في المنطقة، وأخيرًا قد يكون أهم مكاسب النظام الإيراني من هذا التوجه تشتيت الداخل عن الوضع الاقتصادي والحقوقي المتدهور كضريبة مباشرة للحرب الطويلة الأجل ضد أعداء الإسلام .

ثانيًا- الانتقام عبر شبكة الحلفاء: تستند الإستراتيجية العسكرية الإيرانية إلى مفهوم الدفاع الأمامي الذي يستلزم التعامل مع الخصوم خارج أراضيها لمنع التهديدات من الوصول إلى حدودها، ومن الركائز الأساسية لهذه الإستراتيجية وجود شبكة من الجماعات المسلحة المرتبطة بإيران في جميع أنحاء المنطقة، حيث اعتمدت طهران على فصائل محور المقاومة التي تشمل حزب الله في لبنان، والفصائل الشيعية المختلفة في العراق، والحوثيين في اليمن، والحركات التي ترعاها إيران في سوريا، فضلًا عن فصائل المقاومة الإسلامية، مثل حماس، والجهاد الإسلامي، لردع الهجمات المباشرة على إيران، وفتح ساحات متعددة للحرب مع إسرائيل في لبنان، وسوريا، والعراق، واليمن، اشتدت هجماتها على تل أبيب منذ اغتيال حسن نصر الله نهاية سبتمبر (أيلول) المنصرم، وبدء التوغل الإسرائيلي البري على لبنان.

ومن هذا المنطلق، ترمي إيران من توظيف الوكلاء في حربها ضد إسرائيل إلى تحقيق عدة مقاصد، أبرزها: تحسين علاقاتها مع الدول الغربية لتفادي سلسلة القيود الصارمة المفروضة عليها، ولإثبات مبدأ حسن النية في تعاملها مع الإدارة الأمريكية الجديدة؛ ففي حال فوز ترمب ستعمل طهران على تهدئة وتيرة الغضب الأمريكي عليها بعدم الانخراط في حرب مباشرة مع تل أبيب، في حين ستكون مهمة النظام الإيراني أيسر في حالة فوز هاريس، خاصة مع النبرة الهادئة التي ينتهجها مسعود بزشكيان تجاه الغرب، وقد ينجح في استخدام ورقة الضغط النووية مقابل إنهاء حرب الفصائل الموالية للنظام الإيراني على إسرائيل.

 فضلًا عن أن تشتيت إسرائيل في أكثر من ساحة للقتال، واستنزاف موارد الدولة اليهودية، وإضعاف معنوياتها نتيجة للخسائر التي تتعرض لها تل أبيب من جراء الهجمات اللبنانية والعراقية والحوثية، يصب في مصلحة النفوذ الإيراني في المنطقة، كما أن الانتقادات الدولية المتزايدة ضد إسرائيل بسبب توسع رقعة وحشيتها ضد المدنيين، وخاصةً الأطفال والنساء في سوريا، والعراق، ولبنان، إلى جانب مآسي الشعب الفلسطيني، تمكن إيران من تأجيج غضب الشارع العربي تجاه إسرائيل؛ ومن ثم إبقاء علاقات الدول العربية مع إسرائيل تحت الضغط؛ لذا يسهم هذا المسار في تحكم إيران في مستقبل الحرب الدائرة في المنطقة متى تهدأ؟ ومتي تشتعل؟ وهو هدف طهران من البداية.

اشتراطات تحركات إيران المستقبلية

إذا قررت طهران الرد العسكري على تل أبيب، وتصعيد المواجهة إلى حرب مباشرة بين إيران وإسرائيل؛ انتقامًا من رد إسرائيل المحتمل، لا بد أن ينصب الاهتمام الأول للجمهورية الإسلامية على حماية منشآتها النووية والنفطية؛ لأن هدف إسرائيل بعد التالي سيكون استهداف تلك المنشآت لتوجيه ضربة قاصمة للنظام الإيراني، وهذا لا ينفي ضرورة تأمين إيران لأهدافها العسكرية التقليدية، وعلى رأسها القواعد التي أطلقت منها طهران الصواريخ الباليستية على تل أبيب، وهذا يشمل منصات الإطلاق، ومراكز القيادة والتحكم، وخزانات الوقود، ومستودعات التخزين، بالإضافة إلى أهمية تكثيف حماية قواعد تابعة للحرس الثوري الإيراني، وكذلك الدفاعات الجوية، إلى جانب ضمان حماية قيادات الحرس الثوري، وعلماء البرنامج النووي الإيراني، من استهداف الموساد، وكل هذا يستلزم دعمًا عسكريًّا واستخباراتيًّا مباشرًا من حلفائها في المنطقة، وعلى رأسهم الصين وروسيا، للتصدي لهذا الهجوم، وهو ما يعني حربًا عالمية حتمية بين المعسكرين الشرقي والغربي.

وفي المقابل، إذا قررت إيران تجاهل الرد المباشر على هجوم إسرائيل المرتقب، والاكتفاء بعمليتي الوعد الصادق، وتوكيل حلفائها في المنطقة لاستكمال الحرب مع عدوهم المشترك، فعليها تكثيف الدعم المادي والمعنوي للفصائل في غزة، ولبنان، وسوريا، واليمن والعراق؛ لاستنزاف إسرائيل على جبهات متعددة، إذ إن فاعلية منهجية طهران في تسليح الفصائل ذات التفكير المماثل وتدريبها توفر  للجمهورية الإسلامية عمقًا إستراتيجيًّا في المنطقة، غير أن هذا يعني اختبار مدى قدرة إيران وحلفائها على الصمود في مواجهة القدرات العسكرية للولايات المتحدة، وإسرائيل، والدول الغربية، وهو الأمر المحسوم سلفًا مهما طال، إلا إذا تدخلت المقدرات الصينية والروسية تدخلًا مباشرًا في مسار المعادلة.

الخاتمة

أنتجت السنوات الخمس والأربعون الماضية عداءات عميقة بين إسرائيل وإيران، تطورت على إثرها عقيدة  المواجهة الإيرانية من “أيديولوجية الهوية” إلى “الإستراتيجية السياسية” للحفاظ على مصالح طهران الوطنية وأمنها الإقليمي، غير أن الهجمات الإيرانية على إسرائيل على مدار العام الماضي قد تمثل المرحلة الأخيرة في إستراتيجية حرب الاستنزاف الإيرانية الطويلة الأمد ضد الدولة اليهودية، وكما أدت ثورة محلية في إيران إلى تحويل الشرق الأوسط حتى البحر الأبيض المتوسط، قد تعيد المواجهات المباشرة بين طهران وتل أبيب  تشكيل خريطة الشرق الأوسط مرة أخرى.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع