أبحاث ودراسات

دليلك لمعرفة الخريطة السياسية اللبنانية

قصة صعود حزب الله


  • 6 أكتوبر 2024

شارك الموضوع

كانت قرطبة -عاصمة الأندلس في الزمن الغابر- محط اهتمام الكثيرين وشغفهم، وكان هذا الشغف -وما زال حتى الآن- يثير نوستالجيا اليوتوبيا العربية عن هذا المكان البديع، الذي يمثل النموذج المثالي المُتخيل لكل الحالمين، لكنه كان يُخفي تحته كثيرًا من المآسي والصراعات والتناقضات؛ لذا فإن أجمل وأشمل ما وصفت به الأندلس، وعاصمتها قرطبة على وجه الخصوص، تلك المقولة التي تقول: “قرطبة أول الزمان وآخره، المبتدى والمنتهى، حاضرة الدنيا ومجمع الأضداد، الساحة والمعترك، قاعدة الخلفاء والأمراء والعلماء، وحانة الفساق والزعار، سلم الصعود إلى الذروة ومنحدر السقوط إلى الجحيم، النار والنعيم قرطبة”. من قرطبة إلى لبنان بلد الأرز والجبال، والموضة والجمال، والتنوع الذي يمثل فسيفساء كل الطوائف والأعراق، والمذاهب والأديان، الذي لا يختلف كثيرًا في وصفه عما ورد في وصف قرطبة لمن قرؤوا عنها ولم يروها، وكذلك لبنان الذي نسمع عنه أو نزوره للسياحة والاستمتاع بجماله، دون معرفة واقعه، وتناقضاته، وصراعاته.

إن إغراء الصورة، وجمال الكلمات المكتوبة وعذوبتها، تجعلنا نعتقد -في أحيان كثيرة- أشياء لا علاقة لها بالواقع، وهذا ما يمكن أن يلاحظه المتابع لتعليقات كثير من العرب عامة عن لبنان، وعما يحدث فيه من أحداث دامية؛ ولذلك وجدت من المناسب كتابة هذا المقال، ليمثل بداية ينطلق منها المهتمون بمعرفة لبنان وأوضاعه، وأحب هنا أن أشير إلى مقولة أراها صحيحة تمامًا “الطريق إلى فهم السياسة العربية يبدأ من لبنان”؛ وذلك لأسباب كثيرة، أهمها أن كل ما في العالم العربي من تنوع وتناقض موجود حصرًا في لبنان، فهو الممثل الحقيقي للعرب من المحيط إلى الخليج بأفكارهم، وأيديولوجياتهم، وعقائدهم، ومذاهبهم، وأديانهم، وأعراقهم، ونجاحاتهم، وإخفاقاتهم، بل حتى خيباتهم ونكساتهم، هذا الأمر لن تجده مجتمعًا في مكان واحد سوى لبنان، هذا البلد الصغير بحجمه، الكبير بتأثيره، الذي قرر الجميع أن يكون ساحتهم المفضلة لإدارة الصراعات فيما بينهم على أرضه، وهذا الأمر يعطيه أهمية خاصة كمدخل إلى فهم خريطة الصراعات وتوازنات القوى في المنطقة، وإلى من تميل.

التاريخ القديم والوسيط مفتاحك لفهم لبنان الحديث

لا يمكن فيه فصل التاريخ عن الحاضر. لبنان بلد ما زال التاريخ يحكم حاضره، ويحاصره، ولم يخرج بعد من بوابته لينطلق نحو آفاق العالم الحديث. بدأ تاريخ ما يسمى الآن لبنان (وهو جزء صغير من منطقة أكبر تمتد حتى ساحل فلسطين) مع الفينيقيين، وقد تميزت حضارتهم بقدرتهم على الإبحار عبر المتوسط، وصولًا إلى جميع سواحله، حاملين معهم منتجات الهند، وفارس، والشام، ومصر، والقرن الإفريقي. كما تميزت صناعتهم بجانب التجارة بعدة منتجات، مثل صباغة الملابس الأرجوانية، والخزف، والزجاج، والعاج، والنبيذ، وتصدير خشب الأرز، وكانت لهم عدة مستعمرات تجارية على طول ساحل المتوسط، تعد قرطاجة في تونس حاليًا أشهرها، ولم يكن للفينيقيين دولة مركزية عبر التاريخ؛ بسبب تضاريس الشام الصعبة، التي تُمكن كل مدينة من حماية نفسها، والاستقلال عن باقي المدن الأخرى، وكان التنافس والصراع على أشده بين المدن الشامية، وكان لكل مدينة أسرة إقطاع سياسي يحكمها، ويعاونهم مجلس أشبه بالشيوخ، مكون من الإقطاعيين الكبار، وباقي الشعب رعايا تابعين لهؤلاء الإقطاعيين. ولم يحدث أن قامت دولة بالمعنى الحقيقي والمتعارف عليه في ذلك الزمن في لبنان، أو غيره من مناطق الشام؛ إنما ما يشبه اتحاد كونفدرالي يجمع أمراء المدن الكبرى إذا كان هناك خطر خارجي يهدد مصالح الجميع، وما إن ينتهي هذا الخطر حتى يعودوا إلى صراعهم المعتاد.

بعد بدء عصر الإمبراطوريات وظهورها في المنطقة، وتطور التقنيات الحربية التي مكنت الجيوش من غزو أراضي صعبة التضاريس مثل الشام، تعاقب على ما يسمى الآن “لبنان” كثير من الإمبراطوريات، أبرزها: (الأشوريون- المصريون القدماء- الفرس الأخمينيون- المقدونيون- الرومان- الفرس الساسانيون- الروم البيزنطيون- العرب- المماليك- العثمانيون). تخلل هذه الحقب فترات من الاستقلال الجزئي أو الكلي من خلال أمراء محليين طامحين، لكن كل هذه الفترات لم يكن لديها القدرة على الصمود وقتًا طويلًا. كما كانت سيطرة الإمبراطوريات على لبنان نتيجة صعوبة تضاريسه أمرًا صعبًا جدًّا، عاناه جميع الغزاة والفاتحين، بالإضافة إلى دور أمراء الإقطاع السياسي، وإن ضعف نفوذهم، لكنهم ظلوا في قلب المعادلة، ولم يخرجوا منها، حيث كان لهم ظاهر يختلف عن باطنهم؛ فعلى سبيل المثال، كانوا يراسلون الملك المصري أحمس الثاني، الذي حكم مصر من عام 570 إلى عام 526 ق. م، ويتعهدون له بالوفاء، والتحالف معه في مواجهة الفرس، في حين يعقدون الاتفاقيات في الوقت نفسه مع قمبيز الثاني. وهكذا كانت سياستهم عبر التاريخ اللعب على المتناقضات، والتلاعب في بعض الأحيان بالقوى الكبرى المتصارعة في المنطقة.

أسباب التنوع والتناقض داخل لبنان

كان الصراع هو القاسم المشترك في كل تاريخ لبنان، وكان يتخذ في كل حقبة من حقب التاريخ شكلًا يتناسب مع طبيعته، فكان في البدء الانقسام والصراع على المصالح التجارية بين المدن الفينيقية، ثم أصبح صراعًا بين الأسر الإقطاعية على ولاءاتها الخارجية للإمبراطوريات المتصارعة في المنطقة، ومع ظهور الديانات الإبراهيمية، وتحديدًا المسيحية، ومن بعدها الإسلام، وهي ديانات تختلف عن الديانات القديمة “الوثنية” غير التبشيرية، تغير وجه الصراع ليأخذ شكلًا دينيًّا.

كان أول هذه الصراعات ما نتج عن مجمع خلقيدونية المسكوني عام 451، من انشقاق داخل الكنيسة بسبب الخلاف بشأن طبيعة المسيح؛ بين من يعتقد بالطبيعة الواحدة “الميافيزية” أو “اليعاقبة”، مقابل المعتقدين بأن للمسيح طبيعتين (الملكانيين)[1]. ولما كان أصحاب مذهب الطبيعة الواحدة من السريان هم الأغلبية، مقابل بعض أتباع مذهب الطبيعتين، ممن ارتبطوا بتعاليم القديس السوري مارون الناسك، المولود في حلب في النصف الثاني من القرن الرابع الميلادي، وكانت مراكز انتشارهم في إدلب، ومعرة النعمان، وحلب، وحمص، وحماة، ومنبج، وأنطاكيا، قرروا الهجرة هربًا إلى مناطق لبنان الجبلية الوعرة، والتبشير بالمسيحية بين سكان هذه المناطق، وتأسست هناك ما عُرفت فيما بعد بطائفة (الموارنة)، التي هي خليط غالبيته قادم من سوريا، والبقية من سكان المناطق الجبلية اللبنانية.

بعد ظهور الإسلام، وتوسع حركة فتوحاته نحو الشام، بدأت رقعة النزاعات القبلية في عهد الدولة الأموية بالشام تتسع، ومن أشهرها حروب الثرثار الأول [2]، والثرثار الثاني [3]، بين قبائل قيس وتغلب، وهذه الحروب خلقت وجهًا آخر للصراع على أساس قبلي، وكان لبنان مسرحًا لهذا الصراع بين من انتقلوا إليه من هذه القبائل، ومع ظهور الانشقاقات المذهبية داخل الإسلام، هاجر إلى لبنان بعض الشيعة، وتحول جزء من أهله إلى التشيع، وكذلك الدروز، والعلويون، وغيرهم من باقي الطوائف، وكان لبنان -بحكم موقعه الخارج عن السيطرة المركزية للدول والإمبراطوريات الحاكمة الكبرى لصعوبة مسالكه، ووعورة طرقه، وإمكانية العيش بأمان في بعض مناطقه- يوفر ملاذًا آمنًا لكل الطوائف والأعراق غير المتوافقة مع السلطة السياسية، أما المناطق الساحلية والسهلية فغالبا ما يسكنها من يدينون بالولاء السياسي أو الديني للسلطة الإمبراطورية الحاكمة.

عندما دخول الصليبيون بلاد الشام، انحاز إليهم بعض المسيحيين الموارنة في لبنان، ثم بعد هزيمتهم وطردهم من المنطقة على يد السلطان المملوكي الظاهر بيبرس، جرت أعمال انتقامية ضد هؤلاء المتعاونين الموارنة، بالتزامن مع عمليات تحول ديني كبرى ليحمي بها البعض نفسه، وقد تكرر هذا الأمر مع جميع الطوائف عبر تاريخ لبنان الديني الإبراهيمي، ووفق موازين القوى ولأي اتجاه تميل، بل إن بعض الزعامات الإقطاعية كانت تغير دينها وفقًا لمصالحها، ولدينا كثير من الأمثلة على ذلك، لعل المعنيين والشهابيين والجنبلاطيين أبرزهم؛ وعليه، وللأسباب السابقة، أصبح لبنان بؤرة تحوي داخلها جميع المتناقضات، وكل فئة أو طائفة متحصنة بداخل مدنها وقراها تعيش في أمان وعزلة عن المخالفة لها، وهو ما خلق لنا هذه الفسيفساء الشديدة التنوع والاختلاف، المعروفة اليوم بلبنان.

الحقبة العثمانية وأثرها في زيادة الانقسامات اللبنانية

من الظلم التاريخي، والاستخفاف بالمنهج البحثي، قبول نظرية بعضنا بتحميل كل البلاء الذي يعيشه لبنان للحقبة التركية العثمانية، وكأن لبنان كان يعيش في سلام ووئام قبلها، في حين يوجد في أحداث التاريخ المتفق تقريبًا عليه بين الجميع كثير من الأمور التي يمكن الحديث فيها عن الدور الشديد السلبية للدولة العثمانية، ليس في تاريخ لبنان فحسب؛ بل في المنطقة كلها، وكانت أبرز هذه السلبيات التي كان لها دور كبير في تفكيك لبنان حتى اليوم، استخدام سياسة العصبيات الدينية لخدمة أهداف السلطنة العثمانية[4]، فكان لبنان عبر تاريخ حكم الإمبراطوريات له، به هامش ما من الحرية ما دام الجميع يقرون بسلطان الإمبراطورية، ويدفعون الضريبة للحاكم، وهو ما سمح لكل الطوائف الراغبة بالهرب والاحتماء بالطبيعة بالهجرة إليه، ومنذ دخول العثمانيين الشام عام 1516، استمرت سياساتهم على هذا المنوال، حتى تغيرت مع بروز حركات انفصالية في منطقة جبل لبنان، لم يقدروا على السيطرة عليها.

بدأت هذه المحاولات مع الأسرة المعنية، وهي أسرة عربية درزية، أبرز أمرائها فخر الدين المعني الأول، الذي ادعى مناصرة السلطان المملوكي قنصوه الغوري، ثم تفاهم سرًّا مع السلطان العثماني سليم الأول، على ترك ساحة المعركة في مرج دابق عام 1516، مقابل أن يثبت زعامته على جبل لبنان، ثم تحالف حفيده فخر الدين المعني الثاني، مع دوق توسكانا فرديناندو الأول دي مدتشي، وفرنسا وهولندا، واستقل عن العثمانيين. وكان يغير عقيدته تبعًا للمصلحة؛ فهو درزي، وسني، وماروني، وعلى أي دين يمكن أن يحقق له ما يصبو إليه، لكن محاولته باءت بالفشل، وأعدمه العثمانيون عام 1653.

تكررت محاولات الاستقلال عن السلطنة العثمانية مرات كثيرة، وصولًا إلى فترة حكم بشير الثاني الشهابي، المنتمي إلى أسرة الشهابيين العربية المخزومية القرشية، التي تدين بالإسلام السني، وتحول بعض قادتها إلى المسيحية تبعًا للمصلحة السياسية. وقد عقد بشير الشهابي الثاني حلفًا مع محمد علي باشا، واستقل عن السلطنة العثمانية، لكن هذه المحاولة فشلت بانسحاب الجيش المصري من الشام عام 1840، تحت وطأة الضغوط الغربية.

نتيجة لهذه الأحداث، وجد العثمانيون أن الوسيلة المناسبة لإحكام السيطرة على جبل لبنان، تكمن في اللعب على متناقضاته، وصراعات أمراء الإقطاع السياسي التاريخية، والميل نحو فئة على أخرى للموازنة بين الجميع، وكان من نتائج هذه السياسة خروج الصراع عن نطاق السيطرة، وتمدده وصولًا إلى مذابح العام 1860 [5] بين الإقطاع الدرزي والفلاحين الموارنة، ثم دخل باقي المسلمين فيه طرفًا، وهو ما أدى إلى حملة واسعة من التهجير، وتغيير الخريطة الطائفية لجبل لبنان؛ مما انعكس عليه سياسيًّا بفصله من الناحية الإدارية عن ولاية سوريا، التي كانت تضم كل بلاد الشام، على أن يتولى الحكم فيه والٍ مسيحي من رعايا الدولة العثمانية، يُعيّن بعد موافقة الدول الأوروبية الست (بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، والنمسا، وإيطاليا، وبروسيا “ألمانيا حاليا”)؛ إذ كان لكل هذه الدول عملاء وأتباع في الداخل اللبناني، تحركهم تبعًا لمصالحها، وسُميت هذه الولاية الجديدة (متصرفية جبل لبنان)، وهي التي تمثل لبنان التاريخي، ومساحته (3500) كم². وقد ظلت المتصرفية قائمة منذ عام 1861 حتى عام 1918. كان لهذه السياسة بالغ الأثر في لبنان الحديث، وخلقت تغييرًا كبيرًا في تركيبته الطائفية، وشيوع حالة من الحقد العام ما زالت آثارها مستمرة حتى الآن، وتحول مناطق بأسرها إلى الإسلام ليحفظ السكان المسيحيون أرواحهم، وقد اعتنق أغلبهم المذهب الشيعي. كان تبني مذهب مخالف لمذهب السلطة وسيلة للإبقاء على المعارضة، لكن داخل دائرة دين السلطة.

الفرنسيون وظهور دولة لبنان الكبير

ظل حكم متصرفية جبل لبنان، وصولًا إلى الانتداب الفرنسي وفق اتفاقية “سايكس- بيكو” بين بريطانيا وفرنسا لتقسيم تركة الإمبراطورية العثمانية المنهارة، وفي هذه الحقبة نشأت -لأول مرة في التاريخ- دولة لبنانية لها حدود واضحة، وهو ما يسمى “لبنان الكبير”، الذي أعلن ميلاده في الأول من سبتمبر (أيلول) 1920، المندوب السامي للانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا، الجنرال هنري غورو، لتصبح مساحته (10452) كم². وقد خلق تأسيس هذه الدولة إشكالية كبرى بين المسلمين الذين وجدوا أنفسهم -لأول مرة في التاريخ- داخل نطاق دولة معزولة عن عاصمة الشام الكبير “دمشق”، رافضين هذا التقسيم القسري، وغير معترفين بشيء يسمى لبنان، وراغبين في الوحدة مع سوريا التي اعتبروها الوطن الأم لهم، والتي منها اقتُطعت أراضٍ لصالح هذا الكيان اللبناني الجديد (لبنان الكبير) مقابل رفض من النخب المسيحية المارونية لأي وحدة مع سوريا، وقد أدى هذا الشقاق بين الطرفين إلى الإبقاء على الانتداب الفرنسي، الذي اشتعلت ضده عدة ثورات مطالبة بالاستقلال.

الميثاق الوطني والتأسيس للحكم الطائفي

ظل الخلاف بين النخب المارونية والمسلمة بشأن لبنان الكبير، وهويته، ومستقبله، ومصيره، حتى حدث الاتفاق التاريخي الذي سُمي (الميثاق الوطني) [6] عام 1943، وهو اتفاق عرفي غير مكتوب بين الزعيم الماروني بشارة الخوري، والزعيم السني رياض الصلح، والزعيم الشيعي صبري حمادة، وقد نصت بنوده على أن يقبل المسلمون بدولة لبنان الكبير، ويتوقفوا عن المطالبة بالوحدة مع سوريا، مقابل أن يتخلى الموارنة عن مطالبتهم فرنسا بالبقاء في لبنان، ويؤيدوا مطالب المسلمين بانسحابها، وإعلان الاستقلال، على أن يكون رئيس الجمهورية مارونيًّا، ورئيس مجلس الوزراء سنيًّا، ورئيس مجلس النواب شيعيًّا، ونائب رئيس البرلمان من الروم الأرثوذكس، ونسبة نواب البرلمان 6 للمسيحيين مقابل 5 للمسلمين على التوالي. كما أقر الاتفاق (17) طائفة معترفًا بها تحصل جميعها على تمثيل في الحكومة ومجلس النواب، وقد تم التوافق على هذه المحاصصة بناء على إحصاء عام 1932[7] ، الذي قامت به سطات الانتداب الفرنسي، وأظهر أن 51.2% من سكان لبنان الكبير مسيحيون، في حين أن 48.8% مسلمون، لكن هناك كثيرًا من الدراسات شككت في صحة هذا الإحصاء، وذهبت إلى انحياز السلطات الفرنسية فيه لصالح المسيحيين على حساب المسلمين [8]. وفق هذه الصيغة، أُعلن استقلال لبنان وقيام الجمهورية، التي كان أول رؤسائها بشارة الخوري، يوم 21 سبتمبر (أيلول) 1943.

اللبنانيون المحدثون

يتضح من العرض السابق أنه لا وجود لعرق ما، أو قومية مهيمنة في لبنان؛ فقد كان مركزًا للتجارة الفينيقية التي انطلقت منه إلى سائر ساحل المتوسط، وقد اختلف على أصل الفينيقيين، لكن هناك شبه اتفاق بين المؤرخين على أنهم قدموا إلى لبنان من ساحل الخليج العربي، وهناك عدة دراسات مدعومة بالوثائق والمراجع التاريخية لكبار المؤرخين من عصور مختلفة عن هذا الأمر [9]. وأيًّا ما كان أصل الفينيقيين، فالأكيد أنهم انتشروا في أماكن عدة، واستوطنوا فيها بجانب الهجرات الكبرى التي شهدها لبنان عبر تاريخه، وموجات الاستيطان التي أقامت على أرضه نتيجة لتعاقب حكم الإمبراطوريات المختلفة له، وكونه كان ملجأ آمنًا لكثير من القوى السياسية والدينية والقومية المناوئة لسلطات الحكم الإمبراطوري بالمنطقة؛ وعليه، فلا وجود لأمة ذات خصائص عرقية قديمة وواحدة في لبنان، بل هو خليط من الشعوب، وهذا الخليط ينتمي في النهاية بأغلبيته الساحقة إلى شعوب المنطقة، وغير غريب عنها. كما أن جميع الأديان والطوائف في لبنان لا يمكنها الادعاء بوجود أصل عرقي واحد يجمعها؛ لأن عملية التحول الديني اتسمت بالديناميكية وفق مبدأ الترهيب والترغيب، والمصالح السياسية، وهناك كثير من الأسر المتنوعة دينيًّا نظرًا إلى هذا الأمر، كما أن الحضارة الفينيقية بادت وانتهت، لكن آثارها الثقافية ما زالت حاضرة بحياة اللبنانيين اليوم، وتتجلى في مظاهر كثيرة، سواء في اللهجة، أو التراث، أو العادات الاجتماعية، أو حتى بعض الطقوس الدينية، شأنهم شأن المصريين، والعراقيين، والسريان، والأمازيغ، وكل الشعوب ذات الحضارات القديمة بالمنطقة، حتى أصبحت في النهاية العربية لغة جميع السكان، والأديان الوافدة عليهم من الخارج هي معتقدهم البديل عن الديانات القديمة.

عدد الطوائف اللبنانية المعترف بها الآن حكوميًّا، ولها تمثيل في البرلمان (18) طائفة، وهم: (الموارنة- الروم الأرثوذكس- الأرمن الأرثوذكس- الأرمن الكاثوليك- السريان الأرثوذكس- السريان الكاثوليك- الكلدان- اللاتين- الإنجيليون- الأقباط الأرثوذكس- الأقباط الكاثوليك- الأشوريون- السنة- الشيعة- العلويون- الإسماعيليون- الدروز- اليهود)، ويبلغ عدد سكان لبنان -وفق إحصاء عام 2017- (6.082) مليون نسمة، في حيين يبغ عدد اللبنانيين في الشتات بين (12 و18) مليونًا.

الصراع على لبنان

شهد لبنان -منذ لحظة ميلاده الأولى- صراعًا حادًا على هويته، وقد ازدادت حدة هذا الصراع بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وانقسام العالم إلى معسكرين شرقي وغربي، وقيام دولة إسرائيل، وما أعقب ذلك من تقطيع لأوصال المنطقة، وقدوم موجات من اللاجئين الفلسطينيين إلى الأراضي اللبنانية، وعدم قناعة قطاع من اللبنانيين بالدولة الناشئة، أو شعورهم بأنها لا تمثل طموحاتهم وتطلعاتهم، بجانب إحساس بعض المسلمين بالتهميش في ظل نظام حكم يمنح الموارنة النفوذ الأكبر، والسلطات الأوسع بيد رئيس الجمهورية الماروني، ومع المتغيرات التي طرأت على المنطقة من انقلابات عسكرية ذات طابع “ثوري”، والاستقطاب العنيف الذي شهدته بعدها، انقسم لبنان على نفسه بين من يرى أنه طرف في الصراع الدائر مع إسرائيل، ولا بد أن يكون جزءًا من منظومة الأمن القومي العربي، وبين من يرى أن لبنان لا بد أن ينأى بنفسه عن صراعات المنطقة، وأن هويته بحر أبيض متوسط، وبعضهم رأي أنها أوروبية، وبعض الآخر قال إنها فينيقية قديمة، وأصبح الصراع هو السمة الرئيسة بين جميع هذه الأطراف، يسعى كل طرف من خلال استخدام الشعارات الأيديولوجية لتحقيق مكاسب سياسية، وتغيير في موازين القوى يؤدي إلى تغيير في شكل الميثاق الوطني لعام 1943.

لبنان والطريق إلى الحرب الأهلية

يُروى عن عالم الفيزياء النووية الأمريكي روبرت أوبنهايمر، المنسق الرئيس للمشروع النووي الأمريكي، أنه قد قال بعد إلقاء القنبلة النووية على مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين: “لقد أنجزنا هذا العمل نيابة عن الشيطان”. وكان الأمر كذلك في لبنان، لكن الشيطان لم يكن ليضيع وقته فيه، فالطريق كان ممهدًا ومعبدًا لقيام الحرب الأهلية منذ اليوم الأول لإعلان الجمهورية بعد الاستقلال. كثير من النخب المارونية كانت ترى في الجمهورية فرصة تستغل فيها ما منحها إياه الميثاق الوطني من صلاحيات للهيمنة على جميع مقدرات الدولة الاقتصادية والسياسية والأمنية المهمة، واجتذاب لبناني الشتات إليها، وهم في غالبيتهم العظمى من المسيحيين، ثم الانقضاض على الميثاق وتغييره بعدما تتغير موازين القوى لصالحهم. في المقابل، كانت بعض النخب المسلمة ترى في الميثاق مجرد محطة، وتفويتًا للفرصة على الفرنسيين بالبقاء في لبنان، وبخروجهم يفقد المسيحيون الحامي والداعم الرئيس لهم، ومع مرور الوقت يمكن قلب المعادلة لصالحهم، في حين كان البعض الآخر يرى في نفسه الزعامة، وأنه الأجدر على حكم لبنان، لكن النظام الطائفي، وتوزيع المناصب وفق الميثاق لن يمنحه سوى منصب وزير على أقصى تقدير؛ وعليه، فبقاء هذا النظام يشكل عائقًا أمام طموحاته الشخصية. فريق آخر يعتقد أن ما عجز عن الحصول عليه داخل طائفته لأنه لا ينتمي إلى إحدى عائلات الإقطاع السياسي، أو ينتمي إلى طائفة وزنها النسبي محدود، سيتمكن من الوصول إليه من خلال سحر الأيديولوجية وقوتها، في ظل زمن كانت فيه الأيديولوجيات تفعل فعلها. اجتمع كل هؤلاء لينجزوا -نيابة عن الشيطان- عمله المضنى والشاق، لتكون لبنان جائزته الكبرى دون عناء، وحدثت عدة اشتباكات وصراعات سياسية، كانت أحداث عام 1958 المسلحة أبرزها.

ارتدت آثار هزيمة 1967 على لبنان، ومعها فقد جمال عبد الناصر هيبته في العالم العربي، وقدرته على التحكم في الأطراف المتنازعة في لبنان؛ فقد كان قرار تعيين الرئيس تاريخيًّا يمر من القاهرة، ويعتمد فيها قبل أي عاصمة أخرى، وشكلت القاهرة لبيروت شريكًا سياسيًّا وثقافيَّا وحضاريًّا وعمقًا كبيرًا، كذلك تحالف جميع الخصوم على تحطيم “الشهابية”، والمقصود بها المؤسسات الأمنية والعسكرية التي أسسها العماد فؤاد شهاب، الرئيس الثالث للجمهورية اللبنانية في الفترة من عام 1958 إلى عام 1964، حيث خشي زعماء الإقطاع السياسي والطامحون من هذه الأجهزة القادرة على خلق دولة مؤسسات قوية تفقدهم زعامتهم الحالية أو المأمولة، إلى جانب “اتفاق القاهرة” 1969، الذي سمح بوجود المنظمات الفلسطينية المسلحة داخل لبنان، والعمل من خلال أراضيه تجاه إسرائيل، ومع وفاة عبد الناصر عام 1970، ذهب الضامن إلى حالة السلم بحده الأدنى بين جميع هذه القوى، ثم مع وقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل في يناير (كانون الثاني) 1974،  وما أعقبه من زيارة السادات للقدس عام 1977، وبدء مصر مسار صلح منفرد مع إسرائيل، وصولًا إلى اتفاقية السلام المصرية- الإسرائيلية عام 1979، وسقوط حكم الشاه، وسيطرة التيار الإسلاموي بزعامة روح الله الخميني على مقاليد السلطة في إيران، وقيام الحرب العراقية- الإيرانية، وفقدان المنطقة العربية للقيادة، وعدم قدرة أي طرف عربي على ملء الفراغ المصري، ازدادت حدة الصراع، وأفلتت كل القوى من عقالها، لتبدأ حرب أهلية طويلة تستمر 15 عامًا، راح ضحيتها ما بين 150 و200 ألف لبناني وفلسطيني، ونزح ما يزيد على المليون مواطن، بجانب الإصابات، والاختفاء القسري، والدمار الذي لحق بكل لبنان. وأضع هنا عدة روابط لآراء مختلفة من أقصى اليمين إلى اليسار عن هذه الحرب للمهتمين بدراستها دراسةً أكثر عمقًا [10] [11] [12] [13] [14] [15] [16] [17] [18] [19].

اتفاق الطائف

كان المسلمون في لبنان يغلب عليهم الطابع الأيديولوجي، لا الديني، وكان السنة والدروز في طليعة العمل السياسي وقيادته، ولديهم زعامات تتمتع بثقافة وكاريزما عالية، أو ينتمون إلى أسر إقطاعية سياسية، في حين كان الشيعة طائفة مهمشة سياسيًّا، وفقيرة ماديًّا، ولا داعم إقليميًّا أو دوليًّا لها في ظل وجود داعم إقليمي ودولي لكل الطوائف الكبرى في لبنان، كما أن الشيعة عانوا -إلى جانب الفقر والتهميش- تحرش الحركات المسلحة الفلسطينية بهم، وتحكمهم في قراهم ومناطقهم المحاذية للحدود مع فلسطين المحتلة، وتلقيهم الضربات الإسرائيلية الانتقامية، وفي هذه الأثناء فكر شاه إيران محمد رضا بهلوي في خلق نفوذ بالساحة اللبنانية، مستغلًا حالة التهميش التي يعانيها الشيعة، ووجود قائد شيعي إيراني من أصول لبنانية يتمتع بكاريزما، وهو السيد موسى الصدر، فقدم الدعم له للتوجه إلى لبنان عام 1958. هذا الأمر يوضح أن الوجود الإيراني في لبنان سابق للثورة الإسلامية. استفاد الشيعة عسكريًّا من التنظيمات الفلسطينية الموجودة في جنوب لبنان، حيث تدرب كثير منهم على حمل السلاح، وصولًا إلى تأسس حركة أمل، أو “أفواج المقاومة اللبنانية” عام 1974، وبالمناسبة، كان من هؤلاء الذين تلقوا التدريب على يد حركة فتح الفلسطينية، عماد مغنية، القيادي العسكري لاحقًا في حزب الله [20].

بعد انتصار الثورة الإيرانية، واختفاء الإمام موسى الصدر في ليبيا عام 1979، وبدء حرب أفغانستان، وشيوع الأفكار الدينية في المنطقة، وغياب الشخصية الكاريزمية التي تخلفه في قيادة الحركة، انشق جناح منها ذو توجهات دينية، وأصبح أكثر قربًا من إيران، فتأسس حزب الله عام 1982، وكان مشروعه عند تأسيسه مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ولم يتورط في الحرب الأهلية اللبنانية. وعبر هذا التوجه، ولفقدان الدولة اللبنانية جيشًا حقيقيًّا بعد الحرب الأهلية، وإنهاك جميع القوى السياسية المسلحة، ثم خروج الفصائل الفلسطينية من لبنان إلى تونس، أصبح حزب الله “عنوان المقاومة اللبنانية” للمحتل الإسرائيلي؛ لذلك عندما وُقِّعَ اتفاق الطائف عام 1989، قرر نزع سلاح جميع الميليشيات المسلحة، واستثني حزب الله من هذا القرار؛ لأنه الطرف المسلح الوحيد الذي يوجه بندقيته إلى الخارج، ولم يتورط في الداخل ولا صراعاته.

كان لفشل سياسات اليمين الماروني في الاستحواذ على الدولة اللبنانية، وتحقيق حلمه باستعادة المهاجرين المسيحيين من الخارج لزيادة أعدادهم، والتوترات التي شهدها لبنان منذ حقبة الرئيس الثاني كميل شمعون، وصولًا إلى الحرب الأهلية، ومغامرات بشير الجميل، بالغ الأثر في المكون المسيحي الماروني، الذي تراجع وزنه، وخرج من الحرب دون انتصار؛ بل بخسارة ثقيلة، ومن ثم قُلِّصَت صلاحيات رئيس الجمهورية في اتفاق الطائف 1989 [21]، عما كانت عليه في الميثاق الوطني 1943. كما أُعيد توزيع الحصص الحكومية والبرلمانية مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، وغابت الزعامات السنية التقليدية، وخرجت مصر من المعادلة، وحلت السعودية محلها، ودخلت إيران وسوريا بثقلهما. وفي ظل غياب زعامة سنية، تم الدفع بالحريري الأب، الذي كان يعمل في السعودية، ويحمل جنسيتها، ويتمتع بثقة مسؤوليها، وعبر دعمه سياسيًّا وماليًّا تمكن من قيادة السنة، وهو الذي لا ينتمي إلى عائلة إقطاعية، أو سياسية شهيرة، وانتهت الحرب الأهلية بمنح سوريا دور الدولة الضامن لاتفاق الطائف من خلال وجود عسكري لقواتها داخل الأراضي اللبنانية، وإدارة العملية السياسية وتوافقاتها، فيما يصفه خصومها بعصر “الهيمنة السورية”، وتشكل في لبنان مشهد جديد، كعادته في تغير تركيبته وموازين القوى باستمرار عبر التاريخ والعصور.

كيف هيمن حزب الله على الساحة اللبنانية؟

هناك عدة عوامل أدت إلى هيمنة حزب الله على الساحة اللبنانية، منها: احتكار السنة في شخص الحريري الأب، مع غياب الدافع الأيديولوجي لشعب تفعل فيه الأيديولوجية فعلها، ثم اغتياله في 14 فبراير (شباط) عام 2005، وضعف أداء خلفه سعد الحريري، إلى جانب ضعف المارونية السياسية وتفككها إلى أحزاب شتى، وتراجع دور العائلات الإقطاعية الكبرى، وبروز زعامات مارونية أسست لنفسها أحزابًا خصمت من حصتها، مثل  سمير جعجع وميشيل عون، وتراجع دور فرنسا، الراعي التاريخي للموارنة، وفقدانها القدرة على تقديم دعم ملموس وحقيقي لهم، وعدم فهم السياسة الأمريكية لتركيبة البلد وتعقيداته، ووضع إسرائيل أطماعها وأمنها في أولوية سياساتها تجاه لبنان، وفقدان بريطانيا -الراعي التاريخي للدروز- أي تأثير حقيقي له قيمة تذكر، أما روسيا، الراعي التاريخي للروم الأرثوذكس والأرمن، فقد كانت سياساتها بعيدة عن الاصطفاف الطائفي في أثناء حقبة الاتحاد السوفيتي، ثم عانت فترة فوضى في التسعينيات، فقدت معها تأثيرها ودورها، مع تفشي الفساد والرشوة السياسية داخل النخب اللبنانية، وخروج الجميع منهكين من الحرب، والانسحاب السوري من لبنان عام 2005 في أعقاب اغتيال رفيق الحريري، وما خلفه من فوضى سياسية بسبب الألغام التي وضعها النظام السوري في الساحة اللبنانية، ودخول أطراف جديدة إلى المشهد، مثل قطر، ودورها في اتفاق الدوحة عام 2008، الذي أنهى الأزمة السياسية في لبنان، وتزايد هجرة الكفاءات السنية، وزيادة معدلات الهجرة المسيحية.

مقابل كل هذه المتغيرات، تمكن حزب الله من الانتصار على “جيش لبنان الجنوبي”، وهو جيش مكون -بالأساس- من اليمين المسيحي الماروني وبعض الشيعة، تلقى تدريبه ودعمه المالي والعسكري من إسرائيل، وكان حليفًا لها في احتلال جنوب لبنان. تلا ذلك انسحاب الجيش الإسرائيلي ليلًا بعدما أصبح وجوده مكلفًا جدًّا، وفشل رهان إيهود باراك، حيث كان يعتقد أن الانسحاب سيؤدي إلى احتلال حزب الله للجنوب؛ مما سيخلق صدامًا بينه وبين الدولة اللبنانية، أو قيامه بأعمال انتقامية ضد “المتعاونين” مع إسرائيل، فتشتعل الحرب الأهلية، لكن الحزب فاجأ إسرائيل عندما طلب من رئيس الجمهورية آنذاك إميل لحود، وهو حليف له ولسوريا، أن يكون أول من يدخل الجنوب، وسلم الأراضي المحررة للجيش اللبناني، وأرسل تعهدات إلى قادة الكنيسة المارونية، وبعض العائلات الشيعية، بأنه لا ينوي الانتقام من أي شخص تعاون مع الاحتلال، وأنه من تورط في جرائم تخابر أو قتل ستتولى المخابرات العسكرية للجيش اللبناني محاكمته وفقًا للقانون، كذلك أنهى الحزب صراعه مع حركة أمل، التي رأت فيه تهديدًا لزعامتها على الطائفة الشيعية.

مثَّلَ الحزب ظاهرة جديدة من خلال ما بدا “طهرانية” يتمتع بها مقابل فساد طال جميع النخب السياسية اللبنانية، إلى جانب تمتعه بزعامات ذات ثقل روحي وسياسي، مثل الأب الروحي للحزب السيد محمد حسين فضل الله، وزعيم سياسي يتمتع بكاريزما مثل عباس الموسوي، الذي اغتالته إسرائيل عام 1992، وخلفه زعيم آخر أكثر كاريزمية، وهو حسن نصر الله. وقد زادت مصداقية الأخير عندنا تعرض ابنه البكر هادي للقتل في ساحة المعركة على يد إسرائيل عام 1997، وهو بعمر الثمانية عشر؛ مما منح قادة الحزب مصداقية في تضحيتهم بأنفسهم وأبنائهم، كما أن الحزب -وإن كان ذا مرجعية دينية- لم يفرض تصوره على الدولة أو المجتمع، وقبل بصيغة الحكم المدني (سنشهد تغيير كل هذا فيما بعد، وتحديدًا بعد عام 2006). أدت كل هذه العوامل إلى نيله شعبية جارفة، تخطت حدود لبنان، لتشمل العالم العربي بأسره، حتى إن الفنان الكوميدي المصري محمد هنيدي أراد أن يستغلها للتسويق لنفسه في فيلم “همام في أمستردام”، عام 1999، عندما طلب من صديقه اللبناني “صورة للسيد حسن نصر الله؛ لأنه يحبه جدًّا”. تبع ذلك كله تحرير الأرض من إسرائيل، دون مفاوضات، أو اتفاقية سلام، أو اعتراف بها.

على المستوى الداخلي، تمكن حزب الله من إبرام تحالف وثيق مع حركة أمل، وكلا التيارين هو المهيمن على الساحة الشيعية، والصوت الشيعي يذهب إليهما؛ ومن ثم فهو غير مفتت لصالح عدة تيارات وأحزاب مثل خصومه، كما أسس الحزب نظامًا اقتصاديًّا داخليًّا قويًّا جدًّا من خلال شبكة علاقاته الواسعة، وما توفره له الدولة الإيرانية بقدراتها الاقتصادية، والعسكرية، والأمنية. ومن خلال هذه الشبكة، هناك كثير من المشروعات الاقتصادية المتنوعة، والممتدة حول العالم، التي تضمن مصادر تمويل يصعب رصدها، ولا يمكن للعقوبات الدولية أن تطولها، ومن ثم أمكن توفير موارد مالية دائمة للحزب. يضاف إلى ذلك، النظام المركزي القوي والصارم والمنضبط داخل الطائفة الشيعية. في الفقه الشيعي الإمامي الاثني عشري، كل مسلم شيعي ملزم بتقليد مرجع ديني معتمد حي، منه يحصل على الفتوى، ويدفع الخمس من أمواله لوكلاء هذا المرجع، وهو يتولى بدوره توزيعها على الفقراء والمحتاجين داخل الطائفة؛ لخلق تكافل اجتماعي. ولأن الغالبية من الشيعة في لبنان يتبعون مرجعية المرشد الأعلى الإيراني؛ فأموال الخمس تذهب إلى وكلائه في لبنان، ويسلمها هو بدوره إلى قيادات الحزب؛ ومن ثم توفر إيران جزءًا كبيرًا من إنفاقها في الداخل اللبناني من أموال اللبنانيين أنفسهم من خلال تجميعها ووضعها في يد حزب الله، الذي ينفق منها على المنظومة الإعلامية، وكفالة أسر الضحايا والمقاتلين في ساحات المعارك، وجميع القضايا الاجتماعية.

الطائفتان الشيعية والمارونية هما أكبر طائفتين لهما مهاجرون خارج لبنان، لكن الشيعة يتميزون بأن هجرتهم متنوعة إلى شتى بقاع الأرض، ويرسل المهاجر بدلًا من الخُمس خُمسين وثلاثة حسب مقدرته، ويكفل ويعول أسرته في الداخل اللبناني، ويأتي إلى ضيعته (قريته) ليتزوج منها، وينبي لنفسه منزلًا فيها، ويخلق ترابطًا قويًّا بينه وبين العائلة والحزب، عكس باقي المهاجرين اللبنانيين الذين غالبًا ما تنتهي علاقتهم بالبلد بعد استقرارهم في الخارج. لكل هذه الأسباب أصبح لدى الحزب شبكة اقتصادية ومالية يستحيل تقريبًا رصدها، وقدرة العقوبات الدولية على القضاء عليها تظل محدودة، وشعبية داخل حاضنته الاجتماعية قوية، وتحالف حقيقي وقوي ومتين مع سوريا وإيران، في ظل إستراتيجية ومشروع محدد المعالم، وهو ما يفتقده الحلفاء الإقليميون لجميع خصومه.

أثبت الحزب قدرته على الصمود بعدما تخطى الموجة العنيفة التي تعرض لها على إثر الاحتلال الأمريكي للعراق، وتهديد حليفه بشار الأسد، والعقوبات على الدولة الراعية له إيران، وجريمة اغتيال رفيق الحريري، وانسحاب الجيش السوري. وحرب يوليو (تموز) 2006، التي كانت تهدف بالأساس إلى التخلص منه عسكريًّا، خرج منها الحزب بنصر معنوي؛ لعدم قدرة إسرائيل على القضاء عليه، في حين حققت إسرائيل نصرًا سياسيًّا بوضع قوات الأمم المتحدة بينها وبينه؛ مما يفقد الحزب عنصر المفاجأة، أو المبادرة بالحرب وتحديد توقيتها؛ ومن ثم انتهت الحرب بينه وبين إسرائيل عمليًّا، وامتلكت زمام المبادرة. وكانت تأمل من وراء ذلك تحول فائض القوة الذي حققه الحزب إلى الداخل، مع تعالي الصيحات اللبنانية بضرورة نزع سلاحه، وهو ما حدث بأحداث 7 مايو (أيار) 2008، وسيطرته على العاصمة بيروت في ساعات قليلة، وبدأ منذ ذلك الوقت نزيف النقاط في شعبية الحزب وصولًا إلى ذروتها بعد تحول الثورة السورية إلى صراع عسكري عنيف منذ عام 2013.

تمكن حزب الله من استغلال الدعاية الطائفية التي شاعت في المنطقة بعد ما يسمى “الربيع العربي”، ومن خلال هذه الدعاية قويت وحدته الداخلية بعدما أصابها بعض الخلل نتيجة غياب الصراع والتحدي مع إسرائيل بعد حرب 2006، وميل سكان الجنوب إلى الإعمار، والعمل، والتجارة. كذلك أصابت الدعاية الطائفية العنيفة، وصعود التيارات الإسلامية الراديكالية، باقي الطوائف اللبنانية بالهلع، والخوف من تكرار تجارب الماضي، وفي ظل غياب لأي مشروع عربي حقيقي في المنطقة، وتصارع جميع التيارات اللبنانية، نشأ ما يمكن تسميته حلف “الأقليات”، أو حلف “المتضررين”، وكانت فلسفة هذا التحالف قائمة على معادلة واضحة؛ وهي: هناك “وحش” سني يسعى لكي يلتهم المنطقة بكاملها، وغير قابل للسيطرة أو التوقع، وهذا الوحش ينتمي إليه غالبية السكان، وكان الحكم بيدهم عبر التاريخ، وجميع الأطراف الأخرى كانت بحالة إقصاء. فهم اليوم ينادون “بقطف رؤوسنا” -نحن الشيعة- والخطوة التالية ستكون باقي الأقليات، في ظل هيمنة الأفكار الإسلاموية؛ وعليه، قوي هذا الحلف، وأصبح الشيعة كلهم صوتًا واحدًا، ومعه حلفاؤه من التيار الوطني الحر الممثل لأكبر كتلة مسيحية مارونية، وحزب الطاشناق الممثل للأقلية الأرمينية، وحزب المردة الممثل للموارنة في شمال لبنان، والحزب الديمقراطي اللبناني الدرزي، وحزب التوحيد العربي الدرزي، الذي وإن كان غير ممثل في البرلمان فإن له قاعدة شعبية لا يستهان بها وسط الدروز، والتيارات ذات التوجه اليساري والقومي من الروم الأرثوذكس، والتيارات القومية السنية، وبعض التيارات اليسارية التي عانت إهمال الأطراف العربية، والعلويين، والإسماعيلية، والتحالف مع البيت السني العريق آل كرامي؛ ومن ثم أصبح للحزب حلفاء ممثلون لكل الطوائف والمناطق، وتحالفه معهم متين، وحليفاه الرئيسان؛ سوريا إيران، يعملان على تقوية هذه التحالفات في الداخل اللبناني، مقابل ضعف جبهة معارضته التي كانت تسمى (تحالف 14 آذار)، وصولاً إلى تفككها.

الخلاصة

بعد العرض السابق لتاريخ لبنان، والتركيبة السياسية الحالية، وموازين القوى. لا يمكن اعتبار لبنان دولة حقيقية، بقدر ما هي دولة على الورق، تهيمن عليها كل حقبة طائفة؛ المارونية السياسية في الفترة من (1942-1975)، والسنية السياسية (1990- 2005)، والآن الشيعية السياسية منذ (2008).

الجيش اللبناني ضعيف، وتشكيله نتيجة تركيبة البلد الطائفية يجعله غير قادر على حسم أي صراع داخلي، أو الوجود في مناطق الجنوب حيث حاضنة حزب الله، دون اتفاق معه، إلى جانب قيادة الجيش وفق التقاليد الطائفية من جانب شخصية عسكرية مارونية، تتطلع دومًا إلى موقف حيادي، حتى تضمن وصولها إلى رئاسة الجمهورية، وعدم تفتيت الجيش.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع