أبحاث ودراسات

هل ثمة حاجة إلى مشروع عربي؟ ووفق أي شكل؟


  • 17 سبتمبر 2024

شارك الموضوع

ظهرت فكرة القومية العربية في الشام الكبير (سوريا، ولبنان، والأردن، وفلسطين) حاليًا، وتزعّم التنظير لها -في بدء الأمر- المسيحيون العرب من الموارنة الكاثوليك والروم الأرثوذكس، متأثرين بالمناخ الذي ساد أوروبا منذ عام 1848، أو ما يسمى “ربيع الأمم”؛ للتخلص من هيمنة الإمبراطوريات، وبناء دولة قائمة على تحديد كل مجموعة قومية ذات سمات ومصالح مشتركة لشكل الدولة التي يرغبون العيش في كنفها.

إرهاصات القومية العربية، يمكن التأريخ لها بحقبة الحكم المصري للشام في الفترة من عام 1831 إلى عام 1841، الذي تولى فتحه وحكمه إبراهيم بن محمد علي باشا، الذي كان مشروعه -خلافًا لأبيه- قائمًا على “بناء إمبراطورية عربية منفصلة عن الدولة العثمانية”، وكانت حدود هذه الدولة -وفقًا لما صرح به- “آخر بقعة يحدثه ويتحدث فيها الناس معه باللغة العربية”. وبعدما عاصر المسيحيون في الشام مزايا الحكم القائم على رؤية وحدودية عربية، جعلتهم -لأول مرةـ مواطنين، لا مجرد رعايا، أو مستأمنين، كما هي الحال في الحكم العثماني التركي، وما أعقب الخروج المصري من مذابح تعرضوا لها عام 1860، وهجرة كثير منهم إلى مصر، بدأ “الربيع الفكري” للقومية العربية للتخلص من نير الدولة العثمانية.

حققت القومية العربية أهدافها الرئيسة، من خلال التخلص من الحكم التركي العثماني، ونيل الاستقلال من القوى الاستعمارية الغربية، لكنها فشلت في تحقيق هدفها الإستراتيجي بإقامة “الوحدة العربية”، أو خلق فضاء أمني واقتصادي واجتماعي عربي، مع الإبقاء على الحدود القائمة، وخصوصية كل دولة على غرار الاتحاد الأوروبي، وغيره من الاتحادات الإقليمية الأخرى.

بدأت أزمة القومية العربية في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، عندما تحولت من إستراتيجية وهوية إلى أيديولوجيا شمولية من جانب بعض الأحزاب التي تبنت هذه الفكرة، وأي فكرة إستراتيجية أو عقيدة دينية تتحول إلى أيديولوجيا من الطبيعي أن تجد لها معارضين وخصومًا، وفي أغلب الأحيان هذه المعارضة ليست للفكرة نفسها، بل لما سيترتب عليها من هيمنة طرف واحد ووحيد، وإلغائه لكل الآخرين بعدما احتكر لنفسه الفكرة وتطبيقها، وهو ما حدث عربيًّا في ظاهرتي الأحزاب والجماعات القومية والإسلاموية، وخلقهما جدلًا على أمر مفترض لا مجال فيه للجدل عمّا هو ثابت بشأن الهوية الحضارية العربية الإسلامية للأمة.

الأسوأ لم يأتِ بعد!

لا أعتقد أن هناك أحدًا يمكنه أن يجادل أن الوضع العربي الحالي هو الأسوأ منذ 100 عام، أو عشية الاستقلال، حيث تعاني مصر أزمة اقتصادية طاحنة لم يسبق لها مثيل منذ عام 1882، واليمن، والسودان، وليبيا، ولبنان، وسوريا، والعراق، والصومال، باتت في عداد “الدول الفاشلة”، وسط حرب إبادة شاملة يشنها الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين في غزة، وتنتقل الآن بالتزامن إلى الضفة، مع إمكانية لتوسع الحرب الحالية لتشمل جبهات أخرى.

رغم هذا الوضع الكارثي، فإن الأسوأ لم يأتِ بعد، ويمكن أن تدخل المنطقة في مرحلة سنوات مظلمة طويلة. على سبيل المثال، لبنان مهدد بتغيير بنيته السياسية لأول مرة منذ اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية عام 1989، لا حزب الله قادر على مواجهة إسرائيل، ولا الأخيرة قادرة على القضاء عليه، ورغم تراجع احتمالات الحرب الشاملة فإنها لا تزال قائمة، وإذا حدثت فستفتح المجال لحرب مفتوحة تشتعل على عدة جبهات. داخليًّا، لا يوجد رغم كل الضجيج من بعض الأحزاب المارونية وغيرها من الأحزاب التي تطلق على نفسها “سيادية” قدرة أو قوة لإجبار الحزب على التخلي عن سلاحه لصالح الدولة، أو العودة إلى قرار مجلس الأمن الدولي رقم (1701) لعام 2006، وفي ظل هذا الوضع المعلق والمتوتر، تبدو التسوية التي يمكن أن يقبل بها حزب الله وحلفاؤه في نهاية المطاف، تحويل لبنان من نظام “المناصفة” بين المسلمين والمسيحيين إلى “المثالثة”؛ أي ثلث السلطة بيد المسيحيين، والثلث للمسلمين والدروز وبقية الطوائف الأخرى، والثلث الأخير للشيعية السياسية، وهو ما يعني احتفاظها برئاسة مجلس النواب، والحصول على قيادة الجيش، ودمج عناصر الحزب الراغبة داخل الجيش اللبناني، وثلث الوزارات، مقابل التخلي عن السلاح، والتحول إلى حزب سياسي، وهو ما يعني أن تصبح قدرات الدولة اللبنانية وجيشها وقراراتهما بيد حلفاء إيران، وهو وضع قد تقبله القوى الغربية، بل إسرائيل نفسها، مقابل غلق هذا الملف، وترسيم الحدود البرية مع لبنان، ولكنه سيؤدي إلى اختلال جميع الموازين السياسية في منطقة الشام الكبير، وترتد آثاره السلبية على العالم العربي بأسره.

السودان، الذي يمثل الأمن الجنوبي لمصر، ومصدر حياتها عبر مياه النيل، ومنقذها من أزمة غذاء تبدو حتمية في المستقبل القريب نتيجة محدودية الأراضي الصالحة للزراعة، مع ثبات حصتها من المياه (هذا لو تم الحفاظ عليها ولم تتأثر بسد النهضة، وغيره من السدود المزمع إقامتها)، يعاني حربًا طاحنة يواجه فيها الجيش السوداني (المؤسسة الوحيدة المتبقية من الدولة) ميليشيا الدعم السريع المتمردة، أدت إلى قتل مئات الألوف، وتهجير الملايين في الداخل والخارج، وضياع تراثه وكل ما حققته الدولة القومية منذ الاستقلال عام 1956. المشكلة الأكبر في السودان أن الوضع الحالي يمكن أن يستمر عدة عقود مع عدم عودة الدولة، أو التوصل إلى صيغة للتقسيم، لتصبح دولة فاشلة اعتيادية يحكمها أمراء الحرب والعصابات القبلية؛ مما يخرجها من معادلة القوة العربية.

ليبيا قصة أخرى لبلد منقسم ما بين شرق وغرب وجنوب، وعدة ميليشيات وقوى سياسية تساندها قوى خارجية، وسط حالة من التطبيع الشعبي والدولي مع عملية الانقسام الحالي دون حلها، أو التوصل إلى صيغة فيدرالية، أو حتى تقسيم يقنن الوضع الفعلي، وهو سيناريو يبدو جاذبًا لكثير من القوى المتمردة، والمخططات الخارجية؛ للدفع نحو انضمام دول عربية أخرى إلى نادي الدول الفاشلة المنقسمة دون تقسيمها.

اليمن، الخطر الحقيقي على السعودية، على غرار النموذج الليبي، يعاني انقسامًا بلا تقسيم أو حل، وزاد الوضع خطورة بامتداده إلى مصر مع ما تقوم بها ميليشيا الحوثي في البحر الأحمر الذي كان يومًا ما بحرًا عربيًّا خالصًا، في حين تصول فيه اليوم وتجول جميع الأساطيل العسكرية العالمية، مع تهديدات لأمن دول المنطقة، ومشروعات التنمية الأساسية في البحر الأحمر التي تعتمد عليها مصر والسعودية في تطوير الاقتصاد وتحديثه.

سوريا مأساة أخرى تضاف إلى مآسي العالم العربي، وحجم ما لحق بها من دمار وقتل وتهجير يفوق بمراحل النكبة الفلسطينية، ووصل فيها الوضع إلى مرحلة لا يمكن معها عودة الماضي بأدواته نفسها، ممثلًا في نظام الأسد، ولا التغيير الجذري الذي كانت القوى المعارضة تطمح إليه. أما العراق فغير قادر بعد على فرض هيمنة الدولة على السلاح، وهو أحد أهم مظاهر الدولة الحديثة، والصومال يعاني تفككًا وبلطجة سياسية وعسكرية من إثيوبيا.

تخيل أن هذه الفوضى ستتوقف عند حدود هذه الدول السابق ذكرها، أو جوارها القريب، أو أن العالم العربي سيعود إلى ما قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، بعد نهاية الحرب، سواء بقيت حماس أو قُضِي عليها، أو أن النظام الإيراني سيظل في حالة الهجوم عبر حروب الوكالة، مع تحمل الحصار والعقوبات الاقتصادية إذا وصل ترمب إلى السلطة لكي ينتظر بهدوء أن ينقلب الشعب عليه دون تحرك منه يشعل المنطقة ويخلط فيها الأوراق، أو -وفق السيناريو الثاني- إذا وصلت هاريس إلى السلطة، وإمكانية عقد صفقة تمنحه ما يريده من “شرعنة” لنفوذه في المنطقة، أو بقاء الظاهرة الإسلاموية العنيفة في حالة جمود، أو تخيل نهاية ظاهرة الإسلاموية السياسية، أعتقد أنه قد يبدو سيناريو أبعد من الخيال، فالمنطقة مقبلة على مرحلة قد تكون أكثر سوداوية وكارثية مما هي عليه الآن، وربما الأسوأ لم يأتِ بعد، لكنه ينتظر في مرحلة تخمر قبل أن تنطلق الفوضى الجديدة المدمرة.

من رحم الأزمات تولد الفرص

في ظل الأوضاع التي سبق ذكرها، وهي مجرد أمثلة بسيطة على كوارث أكبر لا يمكن اختصارها في مجلدات، فضلًا عن مقال، تفرض قيام “مشروع عربي” تقوده وتتولى الدعوة إليه القوى الرائدة المتبقية في العالم العربي، وهما بالتحديد مصر والسعودية، لتشكلا قاطرة لهذا المشروع بحكم ما لديهما من تاريخ، وقدرة وقوة عسكرية واقتصادية وشعبية، ومكانة وشرعية تاريخية في نظر سكان المنطقة والعالم، للتصدي للفوضى الحالية، والحد من توسعها؛ ومن ثم البدء بإعادة تنظيم الوضع العربي.

الحديث هنا لا علاقة له بالعواطف، أو الرومانسية، ولا هو تكرار لأحاديث قديمة عن الروابط التاريخية والثقافية واللغوية والعرقية والدينية (رغم أهميتها)، بل عن المصالح البراغماتية المجردة، وما يفرضه الجيوبوليتيك على الجميع، واستحالة النجاة الفردية، أو التنازع على “زعامة” منفردة على بقايا حطام عربي، بل هو مشروع للبقاء، يتبعه الاستقرار، ومن ثم الازدهار، في ظل تشابك جميع الملفات وترابطها نتيجة الجغرافيا؛ القدر الوحيد الذي لم يتوصل الإنسان بعد إلى إمكانية تغييرها.

الفرصة الآن لقيام هذا المشروع -رغم كل الأزمات- هي الأفضل على الإطلاق إذا ما قورنت بالظروف السابقة منذ استقلال الدولة العربية. العالم ليس ثنائي القطبية، ولا أحادي القطبية؛ بل يعيش حالة من الفوضى مع تفوق أمريكي. القوى الإقليمية غير العربية -مثل تركيا- منهكة اقتصاديًّا، ومنكبة على حل أزماتها الداخلية، وإيران وإسرائيل في حالة صراع مفتوح أنهكهما في ظل معركة المنتصر فيها (لو كان هناك مجال للنصر) مهزوم، وروسيا مشغولة في صراعها مع الناتو في أوكرانيا، والصين مهتمة بعلاج أزماتها الداخلية بعد كوفيد- 19، وتحقيق حلم الحزب الشيوعي الصيني بضم تايوان إلى البر الصيني قبل الذكرى المئة من سيطرته على السلطة التي تحل عام 2049. الاتحاد الأوروبي تعصف بدوله الأزمات والصراعات الداخلية، وكل هذه القوى العالمية لا يوجد بينها حد أدنى من اتفاق على قواعد الاشتباك، أو تقسيم النفوذ لتتوافق مصالحهم ضد مصالحنا العربية كما حدث عبر التاريخ مرارًا وتكرارًا.

يوفر الوضع الإقليمي والدولي، مع التراجع المؤقت لظاهرة الإسلاموية، الفرصة المناسبة لتأسيس نواة مشروع عربي لتنظيف الفوضى الحالية، وحصارها من أن تتمدد، وربما قيادة مشروع عربي موسع نحو التنمية لعلاج أسباب التوترات من جذورها.

نظام الفرق المتعددة

تعتمد أنظمة الفرق المتعددة (MTSs) على “فريقين أو أكثر يتفاعلان تفاعلًا مباشرًا ومترابطًا؛ استجابةً للطوارئ والتحديات، أو لتحقيق طموحات وإنجازات تصب نحو تحقيق الأهداف الجماعية”. ما يميز هذا النظام “أن تحديد حدود أنظمة الفرق المتعددة تحكمها حقيقة مفادها أن جميع الفرق داخل النظام، وتسعى إلى تحقيق أهداف قريبة مختلفة، وتشترك في هدف بعيد مشترك واحد على الأقل؛ وبذلك يظهر الترابط المتبادل بين المدخلات والعمليات والنتائج مع فريق آخر على الأقل في النظام”.

هذا بالضبط ما أعتقد أنه الشكل الأنسب لأي مشروع عربي قادم، قاطرة تقوده القوتان الأكبر والأكثر تأهيلًا، وفي هذه الحالة نحن نتحدث عن (مصر والسعودية) من خلال “توافقهما على مجموعة من التحديات المشتركة الواجب مواجهتها، وكيفية الاستجابة لأي طوارئ أو مستجدات، ورؤية بشأن حل المشكلات، وإعادة ترتيب أوراق المنطقة”.

الاتفاق والتفاهم المصري- السعودي قادر على صياغة تصور جديد للمنطقة، وخلق كتلة شعبية داعمة له من المحيط إلى الخليج، وكذلك اجتذاب عدة دول مؤثرة للانضمام إليهما، وكف أيدي الدول الأخرى الجامحة في طموحاتها دون إدراك لعواقب مغامراتها السياسية.

يعتمد هذا المشروع أيضًا على توزيع الأدوار في إطار “خطة عمل شاملة مشتركة”. على سبيل المثال، مصر والسعودية، بحاجة إلى الأردن، والتوافق معها لترتيب أوضاع فلسطين، وكيفية التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي، وعلاج الأوضاع في سوريا ولبنان والعراق، والدول الثلاث تحتاج إلى التحدث ككتلة واحدة مع تركيا؛ لخلق صيغة مشتركة للتعاون والمصالح، وبعدها تقديم مبادرة للقوى الغربية لتصورها، وبالتزامن تتفاوض مع إيران وروسيا. في السودان، مصر والسعودية بجانب الجزائر، يمكنها خلق صيغة مشتركة لحل الأزمة، تدخل فيها الإمارات وقطر وتركيا. في ليبيا الأمر نفسه؛ لوجود نفوذ للدول الثلاث المذكورة، ومصلحة مصرية سعودية في استقرارهما. وهكذا في بقية المناطق الساخنة، يمكن لهذا المشروع أن يبدأ بقاطرة مصرية سعودية، تساندها القوى الأبرز صاحبة النفوذ والأقرب جغرافيًّا للبلدان المشتعلة فيها الحرائق، مع عقد تفاهمات مع القوى الإقليمية التي لها حلفاء في هذه الدول، ثم التوصل إلى صيغة مشتركة مع القوى الدولية، والتفاوض مع إيران في مناطق نفوذها، أو الضغط عليها عبر هذه التشكيلة.

يمكن في إطار هذا المشروع، أن يتواصل طرف مع خصم للطرف الآخر بعلمه، وفي إطار التنسيق المشترك؛ لاستخدام قدراته، وما لديه من علاقات أو امتيازات يمكن أن يقدمها لتدوير الزوايا، أو خلق توافق مع الطرف الآخر. على سبيل المثال، أن تقدم الرياض وعدًا بحزمة من المشروعات والمقترحات الخاصة بقضايا ملحة لأديس أبابا في مقابل دفعها للاستجابة للمطالب المصرية بخصوص مياه النيل، أو أن تفتح القاهرة حوارًا مع طهران -أو أحد وكلائها- بهدف تحقيق مصلحة سعودية، وهكذا.

الخاتمة

جدير بالذكر أن هذا النموذج من إدارة العلاقات وتنسيقها موجود بالفعل بين مصر والسعودية، ولكنه بحاجة إلى أن يتحول من مبادرات فردية وقت الأزمات الملحة إلى إستراتيجية عمل وفق مشروع مرن، ومخطط واضح، ليشمل جميع قضايا المنطقة، أو الأكثر إلحاحًا، كما أن المهمة الخاصة بالترويج لهذا النمط من العلاقات التي قد تبدو جديدة للعقلية الشعبية العربية، مع أنه معمول به بين كثير من الحلفاء في العالم، تقع على عاتق المثقفين والباحثين في المجال السياسي، الغائبين عن المشهد، وغير المبادرين بعرض تصورات -ولو مبدئية- لخلق حراك في النقاش العام عن مستقبل هذه المنطقة التي وصلت إلى مرحلة هي الأشد صعوبة وخطورة عبر تاريخها الحديث.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع