تقدير موقف

“الأولويات العشر” في سياسة هاريس الخارجية


  • 10 سبتمبر 2024

شارك الموضوع

رغم اتفاق الجميع، في الولايات المتحدة وخارجها، على أن السياسة الخارجية الأمريكية لن تتغير كثيرًا إذا فازت المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، فإن طبيعة “التفاعلات السياسية” و”الجيو- إستراتيجية” في مختلف أقاليم العالم تقول إن هاريس سوف تكون مضطرة إلى تغيير مجموعة من الإستراتيجيات والتكتيكات لتواكب طبيعة المتغيرات في البيئة الدولية، ومحاولة “إعادة تموضع” المصالح الأمريكية، سواء مع الحلفاء، أو حتى مع الخصوم والمنافسين؛ من أجل الحفاظ على بقاء الولايات المتحدة على قمة هرم القيادة العالمية؛ ولهذا برزت في أروقة الحزب الديمقراطي مؤخرًا تعبيرات ومصطلحات جديدة، من أمثال “العالم لا يمكن أن يكون على حاله”، وأن الولايات المتحدة وصلت إلى مرحلة تحتاج فيها إلى “تحديث جذري وشامل” في سياستها الخارجية، يقود إلى تحقيق نوع من “التحول الإستراتيجي”؛ حتى تواكب واشنطن المتغيرات الجديدة التي باتت تختلف جذريًّا عن البيئة السياسية الدولية التي أفرزت نظام القطب الواحد بقيادة الولايات المتحدة عقب انهيار جدار برلين، وتفكك الاتحاد السوفيتي السابق في 25 ديسمبر (كانون الأول) 1991.

 ويعود السبب في التحديث والتغيير، والعمل بمبدأ “التكيف مع المنافسة”، إلى أن منافسي الولايات المتحدة على الساحة الدولية يفرضون عليها تغيير نهجها في توظيف قدراتها السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، توظيفًا مختلفًا يتجنب خطايا الحقب الثلاثة الماضية وأخطاءها، وهذا الأمر لا يتعلق فقط بإدارة الموارد العسكرية، والاقتصادية، والسكانية؛ بل بطبيعة الرؤية الجديدة التي سوف تصوغها هاريس مع نائبها تيم والز، وما يترتب على كل هذا من قرارات ومواقف تتعلق بدعم الحلفاء، أو بشن حرب على الخصوم، فما أهم الأسباب في التغيرات التي يمكن أن تقوم بها كامالا هاريس في السياسة الخارجية؟ وما المتغيرات العشرة التي يمكن أن تشكل ملامح السياسة الخارجية الأمريكية حال بقاء الديمقراطيين بقيادة كامالا هاريس وتيم والز في البيت الأبيض؟

عالم جديد

هناك توافق بين الأجنحة المختلفة في الحزب الديمقراطي على أن الظروف التي قادت إلى تفرد الولايات المتحدة بقيادة العالم طوال العقود الثلاثة الماضية باتت ذكرى من الذكريات، وأن هناك عوامل وظروفًا ضاغطة على مخططي السياسة الخارجية الأمريكية تدفعهم إلى هذا التغير، وأبرز تلك العوامل هي:

1- المنافسة الدولية 

عاشت الولايات المتحدة فترة لن تتكرر من “عدم المنافسة الدولية” بعد تفكك الاتحاد السوفيتي السابق، ولم تنجح الولايات المتحدة في “كسب الأصدقاء” في تلك الفترة؛ بل تصرفت بنوع من “الأنانية السياسية”، وهو ما جعلها تدخل في خلافات ومنافسات، بل في حروب طويلة، في مختلف أقاليم العالم؛ ففي أوروبا- على سبيل المثال- تسبب الإصرار على تحدي روسيا، وتمدد حلف دول شمال الأطلسي (الناتو)، في عودة الأمة الروسية لكي تنافس من جديد على الساحة الدولية في عهد فلاديمير بوتن، كما أن إصرار الولايات المتحدة على احتواء الصين جعل الصين منافسًا قويًّا للولايات المتحدة على الساحة الدولية، ولم يعد التنافس فقط للولايات المتحدة كدولة أو مجتمع؛ بل بات هناك تنافس لكل ما تمثله الولايات المتحدة؛ فمقابل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومجموعة الدول الصناعية السبع التي تقودها الولايات المتحدة، أصبح هناك على الجانب الآخر منظمات البريكس، وشنغهاي، والاتحاد الأوراسي، وبنك التنمية الجديد بقيادة كلٍ من روسيا والصين، وبدأ الكثيرون بالتحدث عن تحول “كتلة العالم” نحو الشرق، بعد أن ظل هذا الثقل تستحوذ عليه منذ قرون طويلة الدول الغربية؛ ولهذا وصفت إستراتيجيات الأمن القومي الأمريكية بداية 19 ديسمبر (كانون الأول) 2017 كلًا من روسيا والصين بأنهما “منافسان إستراتيجيان” للولايات المتحدة على المستوى الدولي، ولم يعد هذا التنافس يتعلق فقط بالجوانب السياسية، والعسكرية؛ بل بقضايا جديدة، مثل الإرهاب، والمناخ، والأوبئة العابرة للحدود.

2- التقصير الذاتي 

وهي إدانة للإدارات السابقة بأنها لم تفعل شيئًا لكي تحافظ على التفوق الكبير الذي كانت عليه الولايات المتحدة ليلة انهيار جدار برلين، فعلى سبيل المثال لم ينمُ الاقتصاد الأمريكي خلال تلك الحقبة بنفس نمو الصين، أو الهند، أو حتى البرازيل، وبدلًا من التركيز على البنية التحتية، ودعم الطبقات الوسطى الأمريكية، أنفقت واشنطن أكثر من تريليون دولار على ما يسمى بالحرب على الإرهاب منذ أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 حتى خروج القوات الأمريكية من أفغانستان في 31 أغسطس (آب) 2021.

3- ولاية ترمب كانت كارثة 

التقييم الديمقراطي لسنوات الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترمب أنها كانت “كارثة” على السياسة الخارجية الأمريكية، خاصة سياسته تجاه الحلفاء في حلف دول شمال الأطلسي (الناتو)، وانسحابه من الاتفاقيات والمنظمات الدولية، مثل الانسحاب من “اتفاقية باريس للمناخ” في الأول من يونيو (حزيران) 2017، وهي الاتفاقية التي انضمت إليها الولايات المتحدة في أكتوبر (تشرين الأول) 2015، وانسحاب واشنطن من اتفاقية الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) عام 2018، ثم عادت إليها في عهد الرئيس الحالي جو بايدن في 30 يونيو (حزيران) 2023.

4- البندقية قبل الدبلوماسية  

طوال العقود الماضية كانت نظرة الولايات المتحدة إلى معنى القوة ومفهومها يقوم على “القوة العسكرية” التي يدعمها اقتصاد قوي وحيوي، لكن في ظل المنافسة الجديدة، لم تعد تلك المفردات والمعاني للقوة كافية لكي تكون الولايات المتحدة على قمة هرم القيادة العالمية؛ ولهذا تطرح رؤية هاريس “مفهومًا جديدًا للقوة” يكون أكثر انضباطًا في تبني استخدام القوة العسكرية، والدخول في حروب طويلة على غرار “الحرب على الإرهاب”، مع الدعم الكامل للحلفاء والأصدقاء وصولًا إلى “تقاسم الأعباء” معهم، وهو منظور يرى مؤيدوه أنه أكثر حزمًا وحيوية، وأقل تكلفة من دخول الولايات المتحدة في حروب طويلة على نحو منفرد.

10 أولويات

تعتقد رؤية الحزب الديمقراطي الجديدة أن الولايات المتحدة وصلت إلى “انعطافة إجبارية” لتغيير سياسياتها بعد أن ظهرت قوى تنافس الولايات المتحدة على الساحة الدولية، وفي سبيل الحفاظ على موقع متقدم في عالم الغد سوف تقوم كامالا هاريس بالعمل على 10 أولويات رئيسة حال وصولها إلى البيت الأبيض في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وهذه الملفات هي:

أولًا: دعم القاعدة الصناعية للجيش الأمريكي 

يعتمد الجيش الأمريكي في الوقت الحالي على 5 شركات رئيسة لتصنيع السلاح والذخيرة، هي- بالترتيب- لوكهيد مارتن، ورايثيون تكنولوجيز، وبوينج، ونورثروب جرومان، وجنرال دينامكس، يعمل تحت مظلتها مئات وآلاف الشركات الأصغر، لكن رؤية كامالا هاريس تدعو إلى مزيد من الابتكار في صناعات السلاح والذخيرة الأمريكية، وتقديم الدعم للشركات الناشئة، وتوسيع قاعدة الإنتاج؛ لسد حاجة الجيش الأمريكي، وجيوش الحلفاء، في هذا المجال، وكل ذلك بهدف ألا يتكرر النقص الحاد في سلاح الولايات المتحدة وحلفائها وذخيرتهم، وهو النقص الذي نراه اليوم في المخزونات الأمريكية والغربية.

ثانيًا: جاذبية الجيش الأمريكي 

يعاني الجيش الأمريكي من انعدام جاذبية الانضمام إليه في ظل متغيرات اقتصادية جعلت الانضمام إلى القطاع المدني الأمريكي “أكثر جاذبية” من الانضمام إلى الجيش خلال العقدين الماضين؛ ولهذا يدرس الديمقراطيون سلسلة من الحوافز الاقتصادية نظير الانضمام إلى الجيش الأمريكي بحيث لا تؤثر المشكلات المتعلقة بالتضخم في رغبة وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) في الوصول بالجيش الأمريكي إلى نحو مليون و400 ألف جندي.

ثالثًا: تطوير الردع النووي

تقوم نظرية “القوة الأمريكية” على استحضار السلاح والقوة لتحقيق أهداف الدبلوماسية؛ ولهذا تتبنى أوراق الحزب الديمقراطي الأمريكية تعزيز “القوة النووية الأمريكية” وتطويرها، ليس فقط من خلال تحويل أكبر قدر من “الأسلحة النووية” التي يصل عددها إلى نحو 5400 سلاح نووي من “سلاح ردع” إلى “سلاح تكتيكي”؛ بل تطوير “المثلث النووي” الذي يقوم على أن تكون القاذفات الأمريكية البعيدة من طراز “بي 52″، والغواصات والصواريخ الأمريكية بمدياتها الثلاثة، جاهزة لردع الخصوم، والرد على الأعداء.

رابعًا: تقاسم المغارم 

مع أن المرشح الجمهوري دونالد ترمب هو صاحب نهج “تقاسم الأعباء” مع شركاء الولايات المتحدة الأوروبيين والآسيويين، فإن كامالا هاريس سوف تسير على هذا النهج إذا فازت مع تيم والز في الانتخابات المقبلة، بعد أن تأكد للديمقراطيين جدية المشكلات التي يعانيها الاقتصاد الأمريكي؛ ولهذا سوف تواصل هاريس المفاوضات مع الدول الأوروبية الأعضاء في “الناتو”، التي لم تصل بعد إلى إنفاق 2% من الناتج القومي الإجمالي على الشؤون الدفاعية؛ بهدف الوصول إلى هذه العتبة من الإنفاق التي اتفق عليها الحلف منذ قمة ويلز عام 2014.

خامسًا: مكانة خاصة للحلفاء 

سوف تفعل هاريس كل ما وسعها، وسوف تخصص الوقت والجهد من أجل دعم “الحلفاء”، مثل حلف “الناتو”، الذي يضم 32 دولة، وتحالف “أوكوس”، الذي يضم مع الولايات المتحدة كلًا من المملكة المتحدة، وأستراليا، وتحالف “كواد الرباعي”، الذي يضم اليابان، والهند، وأستراليا، والولايات المتحدة، وتحالف “العيون الخمس”، الذي يضم كندا، والمملكة المتحدة، ونيوزيلندا، وأستراليا، والولايات المتحدة، بالإضافة إلى تعزيز الاتفاقيات الثنائية التي تربط الولايات المتحدة بحلفائها في الشرق الأوسط، وشرق آسيا وجنوب شرقها، خاصة اليابان، وكوريا الجنوبية، وفيتنام، والفلبين، وتايوان.

سادسًا: الديمقراطية محدد رئيس 

سوف تعود كامالا هاريس إلى سياسية باراك أوباما التي تقوم على اعتبار “معيار الديمقراطية” هو المعيار الأول في علاقات الولايات المتحدة مع الآخرين، وأن الدول الديمقراطية بمعناها الغربي هي الأقرب والأهم للولايات المتحدة، وسوف تعمل هاريس على قيادة ما يسمى “تحالف الديمقراطية” في العالم؛ لتضييق الفرصة أمام الديكتاتوريين والاستبداديين من وجهة نظر واشنطن، وهو ما يعني أن واشنطن سوف تعود- بقوة- إلى إشهار “ورقة الديمقراطية وحقوق الإنسان” في وجه الآخرين.

سابعًا: منع وصول التكنولوجيا الحساسة إلى المنافسين 

وذلك من خلال بناء تحالفات أمريكية في سلاسل الإمداد الحساسة، والحفاظ على الملكية الفكرية، وردع ما تسميه واشنطن “التجسس الصيني على التكنولوجيا الأمريكية الفائقة الدقة”؛ لأنها ترى أن تقدم الدول الغربية في هذا السياق هو ما سيحافظ على الموقع المتقدم للولايات المتحدة في النظام الدولي، وفي الوقت نفسه يؤخر أو يؤجل صعود الصين إلى قمة هرم القيادة العالمية.

ثامنًا: تنافس دون صراع 

سوف تعمل كامالا هاريس مع الصين في المصالح المشتركة، ولم تتحدث عن “فصل” الاقتصاد الصيني عن الاقتصاد الأمريكي، لكنها تؤكد أنها سوف تواصل سياسة التنافس مع الصين في المجالات التي تمنع الصين من التقدم على الولايات المتحدة، وتواصل في الوقت نفسه التعاون معها في الملفات التي تخدم المصالح الأمريكية.

تاسعًا: التقارب مع عالم الجنوب 

أدركت الولايات المتحدة أنها خسرت المعركة مع “عالم الجنوب” بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وقناعة غالبية الدول في إفريقيا وأمريكا الجنوبية بالرواية الروسية عن الحرب واحتياجات روسيا الأمنية، وهو ما ظهر في تصويت دول الجنوب لصالح المواقف الروسية منذ 24 فبراير (شباط) 2022؛ ولهذا تتبنى هاريس خطة للتقارب مع دول الجنوب، سواء في أمريكا الجنوبية، أو إفريقيا.

عاشرًا: تعظيم دور المخابرات الأمريكية في الخارج 

وتنطلق هذه الرؤية من الدور الجديد الذي تضطلع به التكنولوجيا، ويمكن أن يكون عاملًا إضافيًّا في يد المنافسين والأعداء، وهنا يأتي دور المخابرات الأمريكية في توظيف التكنولوجيا الجديدة لتعظيم دور المخابرات الأمريكية في الخارج وفاعلياتها، ليكون التحرك الأمريكي على نحو سريع واستباقي.

الواضح أن واشنطن تدرك أنها باتت في عالم جديد يقوم على المنافسة، وبزوغ عالم متعدد الأقطاب، لكن هل تنجح خطة هاريس في تحدي الزمن، ووقف صعود الأقطاب الأخرى؟ هذا سؤال سوف تجيب عنه السنوات الأربع المقبلة، سواء أكان الفائز هاريس أم ترمب.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير. 


شارك الموضوع