في المقال الحالي، نعرض للنهاية المأساوية التي لا يعرفها كثير من القراء عن شاعر روسيا العظيم ألكسندر بوشكين، الذي لقي مصرعه من جرّاء مبارزة بالرصاص مع رجل كان بوشكين يشك في أنه على علاقة بزوجته.
كان التقليد في روسيا في هذه الحالات من الشكوك الزوجية أن يلتقي الرجلان في تصويب بالرصاص على مسافة قريبة، ومن يكسب المبارزة ويقتل غريمه يفوز بالمرأة، ويتم ذلك في حضور اثنين من الشهود، شاهد من طرف كل خصم، ولا تعد عملية القتل هنا جريمة؛ لأنها جرت بموافقة الطرفين.
ولقد راح ضحية هذا الأسلوب أناس كثر، حتى جرّمته الدولة وعدّته عملًا خارجًا عن القانون، لكن بوشكين لجأ إليه ليرتاح من نار الغيرة والشك.
وفي مقدمته لكتاب “الغجر وأعمال أخرى”، كتب الشاعر المصري الكبير رفعت سلام- الذي ترجم القصائد عن لغة وسيطة- مقدمة تلخص حادثة مصرع بوشكين.
والحقيقة أنها كتبها بقدر من الغموض لا يفهم منه القارئ أسباب المبارزة، والخلفيات التي تقف من وراء ذلك.
وسأسعى في هذا المقال إلى تنظيم ما كتبه رفعت سلام وترتيبه، مع تحرير طفيف؛ لتصبح القصة مفهومة للقارئ العربي.
وقبل أن أوضح القصة التي سردها رفعت سلام سأضع ثبتًا بأسماء الشخصيات التي تظهر في الأحداث، أو يتردد اسمها:
ألكسندر بوشكين: شاعرنا، وبطل قصتنا الذي سيلقى مصرعه.
ناتالي غونشاروفا: امرأة فاتنة، بالغة الجمال، مقربة من القصر، زوجة بوشكين، وأنجب منها ثلاثة أطفال.
دانتس: ضابط في الجيش الروسي، يتشكك بوشكين في أنه على علاقة بزوجته.
هيكرن: السفير الهولندي في سانت بطرسبورغ الذي يتبنى “دانتس” ويقف خلفه.
دارشياك: شاهد من طرف دانتس، سيحضر المبارزة بالرصاص في مقابل شاهد من طرف بوشكين اسمه “دانزاس”.
بزغ الفجر، يوم ٢٧ يناير (كانون الثاني) ١٨٣٧، على مدينة غارقة في الثلج والطين. كان الطقس باردًا، والريح تصفر بصوت رتيب، والعابرون يجتازون الطرقات بخطى سريعة، وقد انحنت ظهورهم واختفوا في معاطفهم. لم يستيقظ بوشكين قبل الثامنة، فهب من فراشه، واغتسل على عجل، وتناول قدحًا من الشاي. كانت ناتالي زوجته والأولاد ما زالوا مستغرقين في النوم، وكان هو الوحيد الذي يعرف أن الشمس قد لا تغيب ذلك اليوم إلا ويكون قد فارق الحياة.
ما أكثر ما تألم حتى الآن من الاستفزازات والألاعيب والأكاذيب؛ فإذا مات.. فالموت أفضل من عالم يسكنه بنكندورف (قائد الشرطة)، ونيقولا الأول (قيصر روسيا المستبد)، ودانتس (الرجل الذي سيبارزه لتشككه في علاقة مع زوجته).
المبارزة بعد ساعات قليلات، وربما يلقى مصرعه فيها، ومهما يكن، فهو لا يعتقد أنه سيموت؛ ذلك أن الله عادل.
وتلقى بوشكين رسالة من “دارشياك” (الشاهد الذي سيحضر المبارزة مرافقًا لغريمه “دانتس”)، يلح فيها ذلك الرجل على ضرورة الاجتماع بشاهده قبل ظهر اليوم، فأجاب بأنه لن يأخذ شاهده إلا إلى مكان اللقاء مباشرة، وإلا فإنه يقبل أن يختار له خصمه شاهدًا، ولن يعترض عليه أبدًا.
عاد بوشكين إلى عمله، يجب أن يجهز العدد الخامس من مجلته المعاصر”، وكان يريد أن يضمنها مقاطع من الشاعر الإنجليزي “بارى كورنوال”، وأبدت السيدة “إيشينوف” استعدادًا لترجمتها.
تصفح بوشكين ديوان الشاعر الإنجليزي، وأشار بالقلم الرصاص على قصيدتين كي تترجما. في القصيدة الأولى يتحدث الشاعر عن الغيرة، وفي الثانية عن حق كل إنسان في الانتقام.
ارتدى بوشكين أجمل ثيابه، وتعطر، وتناول معطفه، وخرج. وعلى درجات الدار التقى بأحد الجيران فحيّاه. أليس من السخف أن يموت المرء بعدما اغتسل، وبدّل ثيابه، وتعطر، وضبط ساعته وحيّا جاره؟
التقى بدانزاس في الرابعة، فتناول معه كأسًا من الليمون، وركبا العربة في اتجاه منطقة “تشيرناياريتشكا” (حرفيًّا: “النهر الأسود”، أي النهر الداكن المياه بسبب القدر الكبير من المواد العضوية، ومخلفات الأشجار والتربة).
في الطريق التقت عربتهما بعربة السيدة “ناتالي” زوجة بوشكين، لكن أنظار الزوجين لم تتلاقَ قط. لعل نظرةً وابتسامةً صغيرةً كانتا كافيتين لتجنب الكارثة. وكان “دانزاس” يأمل- طول الوقت- أن يعترض الجنود سبيلهما؛ فالمبارزات ممنوعة منعًا باتًا بحكم القانون، وخبر المبارزة بلغ السلطات، فلماذا لم تحرك ساكنًا لمنع اللقاء المسلح؟
يبدو أن الدولة التي لم تكن ترتاح لبوشكين كانت تريد للمبارزة القاتلة أن تتم، وستربح في الحالتين:
وقد أوصت إحدى الأميرات في القصر الملكي “بنكندورف”- قائد الشرطة- أن يرسل “الجنود في الاتجاه المعاكس لموقع المبارزة. وقرر “بنكندورف” أن يعمل بالنصيحة.
وصل بوشكين وغريمه إلى المكان المحدد. تبادل شاهد بوشكين وشاهد غريمه دانتس التحية بأدب، وراحا يتفحصان أرض المكان، ثم اختارا موضعًا على بعد ثلاثمئة متر من الطريق، وأخذا يمهدان الثلوج بأقدامهما مثل طفلين يلعبان.
جلس بوشكين على الأرض يراقبهما، و”دانتس” يقف بالقرب منه، وزى الحرس الأبيض يظهر من تحت معطفه.
سأل “دانزاس” صديقه بوشكين عما إذا كان المكان يلائمه، فأجاب بأن الأمر سيان عنده، بشرط أن يسرعا.
قاس الشاهدان المكان، وصنعا من معطفي الخصمين حاجزين متباعدين بمسافة عشر خطوات، ثم راحا يحشوان المسدسين، ولما انتهيا، وضعا الخصمين على مسافة خمس خطوات من الحاجزين، وأعطياهما المسدسين.
أعطى “دانزاس” إشارة البدء، ملوحًا بقبعته.
تقدم “بوشكين” بسرعة من الحاجز، وبدأ في التسديد. لكن “دانتس”- الضابط المحترف بالحرس الإمبراطوري- لم ينتظر أن يصل هو أيضًا إلى الحاجز، فأطلق النار من مكانه.
خَرَّ “بوشكين” فوق معطفه ووجهه في الثلج، وجسده لا يتحرك. انطلق الشاهدان إليه، فرفعا رأسه، وبان وجهه رماديًّا رطبًا مثل كتلة من طين. همس بوشكين قائلًا: “أعتقد أن فخذي قد كُسرت. وعندما رأى غريمه “دانتس” يهم بمغادرة مكانه، صاح به: انتظر، أحس أن لديّ من القوة ما يكفي لإطلاق النار، فرجع دانتس” إلى مكانه، ووقف بصورة جانبية واضعًا، ذراعه اليمنى على صدره ليحمى منطقة القلب.
كان المسدس قد سقط من يد بوشكين حين سقط وغرق في الثلج، فأعطاه الشاهد دانزاس مسدسًا آخر تناوله بوشكين بيد ثابتة، وصوّبه وهو ممدد على الأرض، مستندًا إلى ذراعه اليسرى. صوب طويلًا، ثم أطلق النار، فأصابت الرصاصة غريمه في ذراعه اليمني، واصطدمت بالأزرار النحاسية، مخترقة اللحم. كان الجرح طفيفًا لكن عنف الصدمة طرحه أرضًا.
كانت بقعة من الدماء تلون الثلج بمحاذاة بطن “بوشكين”، وأغمى عليه مرتين، وحين استرد وعيه، سأل مَن حوله: “هل قتلته؟”، فأجابه دارشياك”: كلا، لكنك جرحته، فقال: “عجبًا! كنت أظن أن قتله يلذ لي، لكني أشعر أني كنت مخطئًا”.
كان الدم ينزف منه بغزارة، فجيء بالعربة إلى مكانه، ثم رفع إليها. كان يحاول- من حين إلى آخر- أن يبتسم ويمزح، لكنه ذلك الألم القارض الذي يهاجمه في البطن بصورة مباغتة، فتموت الابتسامة. اختنق صوته، وأغمى عليه، وحين أفاق حاول أن يتكلم من جديد. كان الدم ينزف بلا انقطاع، وحركة العربة تضاعف النزيف بصورة خطيرة، فلم يكن هناك بد من التوقف في الطريق عدة مرات.
وجاء الطبيب في نحو السابعة، ضمد جرحه، وأعلن لصديقه دانزاس وهو يغادر الدار أن حالة المريض سيئة، ولا بد أنه سيموت.
جاء أصدقاء بوشكين في هذه الأثناء.. إنهم يقفون الآن جميعًا على ضفة واحدة، وهو على الضفة الأخرى المقابلة، يبتعد لدى كل ضربة من ضربات قلبه.
ليس الموت بشيء رهيب، لكن هذا الألم في بطنه يودي به إلى حافة الجنون.
ولم يدعه نيقولا الأول يقابل الألم في سلام على فراش الموت، فأرسل له خطابًا يطالبه بضرورة مراعاة طقوس الدين المسيحي قبل موته، جاعلًا من ذلك شرطًا لضمان مساندته لزوجته وأطفاله بعد الموت.
لم يعد بوشكين يتمالك نفسه مع الوقت؛ فالاختلاجات الرهيبة تسطو على جسده، فيتقلب من جانب الفراش إلى جانبه الآخر، وينزلق إلى الأرض، ويسيل الزبد من فمه، والعرق من وجنتيه.
مع الصباح هدأت الأزمة قليلًا، فطلب أن يرى زوجته التي ارتمت عليه باكية تجس أطرافه الناحلة، وتغمر يديه بالقبلات، ودخل أصدقاؤه، فراح بوشكين يتطلع إلى وجوههم المتعبة، وعيونهم الدامعة، وجيء إليه بأولاده الواحد تلو الآخر، وقد أوقظوا من النوم. لم يفهموا شيئًا، لكنهم سيفهمون فيما بعد. وهو لن يراهم يكبرون، ولن يكون فخورًا بنجاحاتهم، فهو يتحول منذ اليوم إلى صورة واسم على كتاب.
خيم المساء على المدينة، ولا يزال بوشكين على قيد الحياة يشرب الماء البارد بملعقة شاي، وينظر إلى الليل بحزن، فثمة أشياء كثيرة لم يقلها بعد، وما أكثر الألوان والأفكار والإيقاعات التي تملأ رأسه. وقصيدة على مكتبه لم يفرغ منها يقول مطلعها:
لَقَد نَضِجَتُ مِنْ أَجْلِ الأَبَدِيَّة
وَسَيْلُ أَيَّامِي قَد هَدَا ….
كل شيء ينام في الدار، وأرصفة نهر النيفا مقفرة، والفارس البرونزي في ساحة مجلس الشيوخ يرتدى عباءة من الثلوج، وثمة حراس يتجلدون في أماكنهم، وأناس يرقصون في مكان ما.
وعند ظهيرة اليوم التالي، التاسع والعشرين من يناير (كانون الثاني)، طلب بوشكين مرآة، وراح يتأمل ملامح وجهه طويلًا.. ها هو يودع صورته الإنسانية، يودع هذا الجسد، وهذا الشَعر، وهاتين العينين، وقد كانت جميعًا له، وهو الآن ينحسر عنها في نعومة.
وتجثو زوجته عند سريره، تطعمه بضع ملاعق من الخوخ المعقود، فيمضغها على مهل بجدية ورصانة.. ما أطيب ذلك! إنه يذكره بطفولته، ويذكره بالمربية التي كانت تعتني به “إرينا روديونوفنا”، والأشجار الكبيرة والأطعمة الشهية.
أسندت “ناتالي” وجنتها على جبين زوجها، فراح “بوشكين” يلاطف شعرها بيد ثقيلة: حسنًا! حسنًا! لا بأس. كل شيء سينتهي على خير. لم يتبق من العالم شيء في نظره، سوى مذاق هذا الخوخ المعقود، ورائحة الأدوية المنتشرة في الغرفة.
وعندما يتلاشى ذلك المذاق وتلك الرائحة، فإنه الموت إذن. وها هو يترنح الآن خارج السرير على أمواج الكتب، وحروف الطباعة، وأشعار تدوي في أذنيه، فلماذا…؟ لماذا.. القيصر، والبلاط، ورئيس الشرطة “بنكندورف”، ونهر “النيفا”، و”ناتالي”، و”دانتس”، و”هيكرن”، والشرف والرسائل، والدم؟ هذا الدم الذي يصعد الآن إلى حلقه ويخنقه!
تراخي جسده، وصار تنفسه منتظمًا، وازداد وجهه شحوبًا. وكانت الساعة قد بلغت الثانية وخمسًا وأربعين دقيقة من بعد ظهر ٢٩ يناير (كانون الثاني) ١٨٣٧ .
أَلَا اعْلَمُوا الْآنَ، أَيُّهَا الْمُلُوكَ إِنَّ شَيْئًا لَن يَسْتَطِيعَ حِمَايَتَكُم بَعْدَ اليَوْمِ لا العُقُوبَاتِ، وَلَا الْمُكَافَآتِ لا مَذَابِحَ الهَيَاكِلِ، وَلَا السُّجُون.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.