يُعد البحر الأسود الأكثر دفئًا بين البحار التي تطل عليها روسيا، وتمتد مساحته بما يعادل البحر البلطي تقريبًا، وإن كان يختلف عنه في الحجم والعمق، وأقصى امتداد لمسطحه المائي من الغرب إلى الشرق يبلغ 1130 كم، وأقصى اتساع من الشمال إلى الجنوب يبلغ 611 كم، في حين يبلغ أقل اتساع 263 كم، ويبلغ أقصى عمق للمياه نحو 2210 م.
والبحر الأسود هو بحر داخلي يقع بين أوروبا وآسيا، ويتصل بمعابر مائية، كبحر آزوف عبر مضيق كيرتش، وبحر مرمرة عبر مضيق إسطنبول، وبحر إيجه عبر مضيق الدردنيل، وكل هذه الروابط المائية تجعله موقع جيوسياسيًّا نادرًا.
كما أنه يقع على مقربة من قلب الأرض ( هارتلاند)، ومن ثم فإن السيطرة عليه لعبة سياسية ودبلوماسية واقتصادية وعسكرية مُعقدة جدًّا، وقد أصبح البحر الأسود، خاصة بعد قرار توسيع نطاق حلف الناتو عام 2002، وأحداث سبتمبر (أيلول) 2011، مفترق طرق مُعقدًا بين الحدود الجيوسياسية والمصالح الاقتصادية.
تُعد منطقة البحر الأسود مكان التقاء الحضارات والأديان والثقافات المختلفة، وقد أصبحت ذات أهمية جيوسياسية وجيو- إستراتيجية عبر التاريخ، فهي تمثل منطقة العبور بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب أيضًا، كما أصبحت بمنزلة الحدود المهمة بين الكتلة الغربية والشرقية خلال الحرب الباردة.
ومن منظور جيوسياسي بحت، تُعد منطقة البحر الأسود منطقة صغيرة ومغلقة نسبيًّا، شهدت عبر التاريخ صراعات بين القوى الشمالية الشرقية (روسيا، عبر أوكرانيا و/ أو جورجيا)، والجنوب (تركيا)، والغرب (رومانيا، بلغاريا، والقوى الأوروبية مثل فرنسا وألمانيا والنمسا وبريطانيا العظمى)، وكانت منطقة البحر الأسود، لعدة قرون، مكانًا للمواجهة بين العالم الروسي (المسيحي الأرثوذكسي)، والعالم التركي (المسلم السني)، والعالم الغربي (المسيحي الكاثوليكي والبروتستانتي).
كما أنه كان- وسيظل- مصدرًا مهمًّا لنقل النفط والغاز الطبيعي، ولديه القدرة على ربط منطقة آسيا الوسطى الغنية بالموارد بسوق الطاقة العالمية؛ ومن ثم فإن المصالح المتنوعة في المنطقة تدعم حربًا مستمرة، كما أن الطاقة هي الرهان الأكثر أهمية في هذه الحرب التي تدور رحاها بين مفهومين جيوسياسيين (القوة البحرية وسيادة القوى القارية).
وتسعى روسيا إلى الحفاظ على نفوذها في المنطقة، أو على الأقل عدم السماح بتغيير ميزان القوى تجاه الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي؛ مما جعل لها رغبة في الدفاع عن مصالحها الجيوسياسية بأي ثمن، فهي محاطة بدول منطقة البحر الأسود، التي في معظمها تخالف سياسة روسيا.
وتعد منطقة البحر الأسود خيارًا بديلًا لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا، فالسيناريو المرجح هو تحويل الدول الساحلية إلى مناطق تعتمد على إمدادات الطاقة الروسية، من خلال تحويل المنطقة إلى ممر للنقل، وكان الهدف من إنشاء طرق الطاقة عبر البحر الأسود هو ضمان إمدادات الغاز دون انقطاع إلى السوق الأوروبية مباشرة، دون مشاركة أوكرانيا وبولندا، اللتين تتمسكان بالمواقف المناهضة لروسيا.
تاريخيًّا: يرجع تعزيز روسيا موقفها على البحر الأسود- في المقام الأول- إلى رغبة روسيا في أن تصبح لاعبًا مهمًّا في أوروبا، “فالبحر الأسود هو الاتجاه التقليدي للتوسع الروسي، حيث كان الاتجاه الأول لدى مؤسس الإمبراطورية الروسية- بطرس الأكبر- هو التوسع نحو الجنوب، إلى شواطئ بحر آزوف والبحر الأسود، باتجاه شبه جزيرة القرم.
وقد سعت موسكو إلى الاقتراب جغرافيًّا من القسطنطينية وروما، والبحار الدافئة، والبحرين الأسود والمتوسط، وليس الشمال المتجمد.
ويُعد البحر الأسود جزءًا من روسيا، وهو نقطة الانطلاق لسيادتها، وأي أحداث خارجة عن إرادتها في منطقة البحر الأسود تشكل تهديدًا لوجودها، ويجب إيقافها تمامًا، فالاستقرار في منطقة البحر الأسود التابعة لروسيا لا يمكن تحقيقه إلا في ظل هيمنة روسيا وسيطرتها عليه، وأي وجود لحلف شمال الأطلسي داخل البحر وخارجه يشكل تهديدًا للمنطقة نفسها، وبشكل خاص لروسيا، ولن تسمح لأحد بالتأثير في أمنها، أو في أمن المنطقة.
وعند النظر إلى الأهمية السياسية للبحر الأسود لروسيا، تأتي دولتان، هما أوكرانيا وجورجيا، كقضية ذات أولوية، لا سيما أن أهم سمة مشتركة بين هاتين الدولتين هي سياساتهما المناهضة لروسيا، والموالية للغرب، خاصة بعد عام 2000؛ لأن السياسات التي تنتهجها هاتان الدولتان يمكن أن تغير ميزان القوى في البحر الأسود؛ ولذلك سعت روسيا إلى السيطرة على كل شيء في المنطقة للتحكم في مجريات الأمور فيها.
ومن المهم جدًّا لروسيا تصدير مصادر الطاقة عبر ممرات البحر الأسود، ولكن الأهم هو السيطرة على تلك الممرات، حيث تُعد تجارة الطاقة الطريقة الأكثر ربحية لدعم الاقتصاد الذي كاد ينهار منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، ويمكن أيضًا استخدام الطاقة أداةً سياسية، ولا تتردد روسيا في استخدام خريطة الطاقة الخاصة بها هدفًا سياسيًّا.
تتمثل أحد أهم أهداف روسيا في المنطقة في منع أي دولة من خارج المنطقة من السيطرة على المنطقة، وإعادة التوازن، ومن الناحية العسكرية، تنظر روسيا إلى حلف شمال الأطلسي وجورجيا وأوكرانيا على أنهم مشاركون يسعون إلى تغيير التوازن في المنطقة، وفي هذه الأثناء، يبقى التوازن الحالي في البحر الأسود قائمًا، ما دامت روسيا محافظة على سيادتها في البحر الأسود.
كان ضم روسيا شبه جزيرة القرم في 18 مارس (آذار) 2014 أحد أهم الأحداث السياسية والعسكرية في منطقة البحر الأسود، وقد أدى هذا الوضع إلى تغيير كبير في التوازن العسكري والإستراتيجي، وكانت هذه خطوة مفاجئة لحلف شمال الأطلسي في المنطقة.
تقع شبه جزيرة القرم في شمال البحر الأسود، ويحدها من الشرق بحر آزوف، ولا تتصل بالبر القاري الأوكراني إلا من خلال شريط ضيق من جهة الشمال، ويمتد من جهتها الشرقية شريط أرضي يكاد يتصل بالأراضي الروسية، وتمتد بينه وبين بحر آزوف الذي يحدها من الشرق، وتطل على خليج كيرتش الذي يصل بين بحر آزوف والبحر الأسود، ويربطها باليابس برزخ ضيق في شمالها تمر خلاله خطوط المواصلات، وتحيط بها مياه البحر الأسود من الجنوب والغرب، وكانت قبل ضم روسيا لها جمهورية ذات حكم ذاتي ضمن جمهورية أوكرانيا في جنوب البلاد، وأهم مدنها هي العاصمة سيمفروبل.
تتمتع شبه جزيرة القرم بموقع متميز يمتد من البحر الأسود، وبحر آزوف، ومضيق كيرتش، ويعد امتلاكها مدخلًا نحو مضيقي البوسفور والدردنيل مرورًا ببحري مرمرة وإيجه، وصولًا إلى البحر المتوسط، كما يوجد بها كثير من الثروات الطبيعية (البترول، والفحم الحجري، والغاز الطبيعي، والنحاس، والحديد، والمنغنيز، والرصاص، والثروات الزراعية).
وتحتل شبه جزيرة القرم أهمية كبيرة لروسيا؛ فهي تشكل قاعدة للانطلاق إلى البحار الدافئة، فموقع روسيا الجغرافي محصور، وليس لها منفذ تخرج منه إلى العالم الخارجي، فبحارها شمالية متجمدة لا تصلح للملاحة، ولأنها لا تمتلك ممرات مائية؛ قدمت شبه جزيرة القرم قدرة أكبر للتحكم في حركة التجارة العالمية.
كما أنها تمثل أهمية كبرى لأمن روسيا الإستراتيجي؛ لأنها تحتوي على ميناء “سيفاستوبول” الذي يضم أكبر أسطول بحري روسي، ورمز القوة البحرية الروسية، حيث يوفر لروسيا قدرة تشغيلية كبيرة داخل مناطقها المباشرة، وتظل قادرة على مواجهة التهديدات البحرية من الدول الأخرى في المنطقة، وحماية مصالحها داخل البحر الأسود، وقد استخدمت روسيا الأسطول لفرض حصار على جورجيا عام 2008.
واليوم، تمنح شبه جزيرة القرم لروسيا ميزة كبيرة من الناحية العسكرية. بالإضافة إلى ذلك، لدى روسيا الفرصة لتوفير السيطرة الجوية على المجال الجوي للبحر الأسود من خلال نشر أنظمة الدفاع الجوي الخاصة بها في المنطقة، كما قدمت أيضًا ميزة كبيرة من حيث السلامة من أي تهديد عسكري من جنوب روسيا، وأيضًا فإن أنظمة الدفاع الجوي والهجوم الأرضي التي أنشأتها روسيا في شبه جزيرة القرم جعلتها منصة عظيمة تشكل مصدر قلق للناتو.
لم تحقق شبه جزيرة القرم تعزيزًا للوجود الروسي في البحر الأسود فحسب؛ بل مكنتها أيضًا من السيطرة على المجال الحيوي لأوكرانيا، وبحر آزوف، ومضيق كيرتش.
وقد أدى دمج شبه الجزيرة في الاتحاد الروسي والمنطقة العسكرية الجنوبية إلى تعزيز اهتمام روسيا بالاتجاه الجنوبي الغربي لنظام الدفاع الروسي، وهي جزء من العمق الإستراتيجي للوحدة العسكرية الروسية في سوريا وميناء طرطوس السوري، وللعمليات العسكرية الأخرى، الرسمية وغير الرسمية، في البحر المتوسط.
وبضم روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014، فقدت أوكرانيا نحو 3% من أراضي الدولة، ونحو 5% من سكانها، ونحو 3.6% من ناتجها المحلي الإجمالي، كما فقدت أوكرانيا جزءًا كبيرًا من المياه الإقليمية ومنطقتها الاقتصادية الخالصة، التي تحتوي على رواسب غنية من النفط والغاز. كما فقدت 15 قاعدة عسكرية أوكرانية برية وبحرية، لكنها صغيرة وضعيفة إذا ما قورنت بالقدرات الروسية، فضلًا عن أن القرم كانت تشكل وجهة رئيسة لكثير من السياح الأوكرانيين.
لا تتعدى مساحة شبه جزيرة القرم 28 ألف كم2، وتُعد صغيرة مقارنة بمساحة روسيا التي تبلغ 17 مليون كم2، وهي أكبر دولة في العالم من حيث المساحة، في الوقت الذي تبلغ فيه مساحة أوكرانيا 600 ألف كم2.
المساحة ليست عاملًا مؤثرًا بمفرده في ذلك الصراع، ويرى المحللون الروس أن الإرث التاريخي والأهمية الإستراتيجية للبحر الأسود أكبر من أن تترك لروسيا احتمال التخلي عنها دون قتال جدي، ويكمن مفتاح القدرة للوصول إلى البحر الأسود في السيطرة على شبه جزيرة القرم، وتحديدًا سيفاستوبول، أكبر مدينة فيها، والميناء البحري، والقاعدة البحرية الرئيسة.
ومع ذلك، فإن شبه جزيرة القرم، وهي شبه جزيرة ذات جسر بري ضيق إلى البر الرئيس لأوكرانيا، غير مستدامة اقتصاديًّا على المدى الطويل، فقد تلقت تاريخيًّا معظم مواردها، مثل الكهرباء، والغاز، والنفط، ومياه الشرب كذلك، من البر الرئيس لأوكرانيا؛ ولذلك، يبدو التدخل الروسي في جنوب شرق أوكرانيا مشروعًا طويل الأمد يهدف إلى بناء ممر بري من روسيا إلى شبه جزيرة القرم، ومنها إلى الأقاليم التي تسعى روسيا إلى ضمها نهائيًّا إلى أراضيها، فيما يعرف باسم “نوفوروسيا”، كي تخدم خطط موسكو الطويلة المدى كورقة مساومة مع كييف والغرب لتأمين وضع شبه جزيرة القرم على المدى الطويل داخل الاتحاد الروسي.
لقد أكد استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم أنها لا ترغب في التخلي عن وجودها العسكري المهيمن وعملياتها في البحر الأسود، لا سيما مع وجود القوات الروسية في سوريا ذات المزايا الإستراتيجية المتمثلة في الهيمنة العسكرية على منطقة البحر الأسود، والوصول دون عوائق إلى البحر المتوسط.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.