بعد بدء “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، يزداد احتمال أن تتمكن جميع دول القطب الشمالي تقريبًا، التي أصبحت اليوم أعضاء كاملة العضوية في حلف شمال الأطلسي، من المطالبة بالحق في الاستخدام غير المحدود لطريق بحر الشمال. كما أن النخب السياسية في جمهورية كوريا والصين واليابان تؤيد تدويل منطقة طريق بحر الشمال. هل يعني هذا معركة جديدة في القطب الشمالي؟
تعتمد التنمية الاجتماعية والاقتصادية للكيانات المكونة لمنطقة القطب الشمالي للاتحاد الروسي على طريق بحر الشمال (NSR). وفي منتدى سانت بطرسبورغ الاقتصادي الدولي في يونيو (حزيران) 2024، أشار فلاديمير بوتين إلى أن طريق بحر الشمالي هو شريان عالمي ستكون له مكانة في المستقبل، حيث يمكن أن يتجاوز النقل على طوله 150 مليون طن. لطالما كان يُنظر إلى طريق بحر الشمال على أنه الطريق الأقصر والأكثر أمانًا الذي يربط بين الأسواق الآسيوية والأوروبية.
لا تزال طرق النقل البحري أحد الطرق السريعة الرئيسة التي تمنح المنطقة أو الدولة مكانة رائدة عالميًّا. تُحدد الأهمية العالمية لاتصالات النقل البحري من خلال فوائدها الموضوعية مقارنة بقطاعات النقل الأخرى. طريق بحر الشمال هو أقصر طريق بحري يربط الجزء الأوروبي من روسيا بالشرق الأقصى. وفي ظل الوضع العسكري المتدهور في اليمن، الذي يشكل تهديدًا لحركة الملاحة البحرية الدولية في خليج عدن والبحر الأحمر، فإن طريق بحر الشمال هو الطريق الأقصر والأكثر أمانًا الذي يربط بين الأسواق الآسيوية والأوروبية.
يوفر هذا الطريق لروسيا ميزة تنافسية في مجال لوجستيات النقل العالمية، ويخلق فرصًا جديدة لتنمية الموارد الطبيعية وتطويرها في سيبيريا والشرق الأقصى. نحن نتحدث عن حقول النفط والغاز في تيمانا- بيشتورسكي، وحقول مكثفات الغاز في شبه جزيرة يامال، وحقول النفط في منطقة خليج أوب، وجرف بحر بارنتس. تواصل شركة نوريلسك نيكل العمل بنشاط على تطوير رواسب بايموسكي للمعادن غير الحديدية. تسهم شركة صهر المعادن نوريلسك نيكل- إلى حد كبير- في تطوير بناء السفن في روسيا. كما يتزايد عدد الأشخاص الذين يرغبون في معرفة جمال القطب الشمالي، وحياة الشعوب الأصلية التي تعيش في المنطقة.
هل يمكن لطريق بحر الشمال أن يحل محل البحر الأحمر في الخدمات اللوجستية العالمية؟
يحتل طريق بحر الشمال موقعًا مهمًا استراتيجيًّا في نظام المصالح الجيوسياسية لروسيا. وأسهم الوضع غير المستقر في منطقة البحر الأحمر، بحسب كثير من المحللين، في ارتفاع تكاليف النقل والتأخير في توريد البضائع؛ ونتيجة لذلك، انخفضت التجارة الدولية بنسبة 1.3% في نهاية عام 2023. يعد عبور البضائع عبر البحر الأحمر اليوم محفوفًا بالخطر، ولا يحظى بشعبية. في ظل هذه الحقائق الدولية، هناك اهتمام متزايد باستخدام قدرات طريق البحر الشمالي (مع الحفاظ على مكانته بوصفه وسيلة النقل الوطنية لروسيا في القطب الشمالي) كممر نقل بحري أوروبي آسيوي مستقل. تدرك الدول الأوروبية فوائد استخدام الشحن العابر الدولي على طول طريق البحر الشمالي؛ لأن هذا الطريق يقلل من وقت تسليم البضائع من أوروبا إلى دول منطقة آسيا والمحيط الهادئ. روسيا، من جانبها، تدعو أيضًا إلى تطوير النقل العابر والشحن الدولي على طول منطقة البحر الشمالي؛ بهدف الحفاظ على أسطول القطب الشمالي وزيادته، واستخدام كاسحات الجليد، والاستفادة من تشغيل طريق النقل الوطني.
مع أن طريق البحر الشمالي هو تاريخيًّا طريق النقل الوطني لروسيا، فإن الولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا، وجمهورية كوريا، والصين، واليابان، تصر على تدويله، معتبرة أن طريق النقل هذا هو موردها الاقتصادي والسياسي المهم. تعتقد النخبة السياسية في هذه البلدان أن تدويل مسار بحر الشمال يمكن أن يوفر قدرًا أكبر من الأمن والاستقلال عن القوى العالمية المؤثرة الأخرى مقارنة باستخدام الطرق الجنوبية.
هل تعد “العملية العسكرية الخاصة” بمعركة جديدة في القطب الشمالي؟
بعد بدء “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، اشتد التنافس بين روسيا وعدد من دول القطب الشمالي، واشتد الصراع على طريق بحر الشمال. وتواصل روسيا توسيع أسطولها النووي، وإنتاج الموارد الطبيعية في المنطقة. أُطلقت كاسحتان من كاسحات الجليد النووية الست الجديدة في سانت بطرسبورغ، وهي مصممة لتحل محل أسطول كاسحات الجليد النووية الذي أُنشئ خلال الحقبة السوفيتية، ولتوفير إمكانية الملاحة على مدار العام على طول الإقليم الشمالي بكامله، ولا يمكن لأي من القوى الأخرى التي لها مصالحها الخاصة في القطب الشمالي أن تتباهى بهذا الإنجاز.
قد يكون المنافس الوحيد المحتمل لطريق بحر الشمال هو الممر الشمالي الغربي، الذي يمتد على طول سواحل القطب الشمالي لكندا والولايات المتحدة، لكن استخدامه يعوقه عدم وجود كاسحات الجليد الحديثة في هذه البلدان بأعداد كافية. وبسبب عدم قدرتها على التعامل مع منافستها الروسية، قد تلجأ هذه الدول إلى رد فعل غير متماثل، أي خلق تهديد عسكري دائم للملاحة على طول طريق بحر الشمال، والتقنيات الحديثة تسمح بذلك.
خلال “العملية العسكرية الخاصة”، اختبر الغرب استخدام قوارب بدون طيار مملوءة بالمتفجرات ضد السفن العسكرية والمدنية التابعة للاتحاد الروسي في البحر الأسود، مما يدل على أنه من الممكن، بالاعتماد على أنظمة الاستطلاع عبر الأقمار الصناعية والتحكم عن بعد، خلق تهديدات خطيرة للسفن الكبيرة ذات القوات الصغيرة. أيضًا، خلال الحرب، استخدم الجانب الأوكراني طائراته بدون طيار ضد أهداف عسكرية ومدنية روسية، باستخدام المجال الجوي لدول البلطيق، التي تظل محايدة رسميًّا، ولكنها في الوقت نفسه أعضاء في الناتو.
لقد أظهرت تجربة الحرب أنه في عدد من الحالات، هاجمت قوارب أوكرانية بدون طيار أهدافًا روسية في شبه جزيرة القرم، مع أنها انطلقت من سفن محايدة تبحر على طول ما يسمى بـ”ممر الحبوب”، الذي يربط أوديسا بالمواني التركية.
لا ينبغي تجاهل تهديد محتمل آخر: “إمكانية إنشاء قواعد مخفية على أراضي أرخبيل القطب الشمالي التي تعد جزءًا من الاتحاد الروسي نفسه- فرانز جوزيف لاند، أو نوفايا زيمليا، أو سيفيرنايا زيمليا”. خلال الحرب العالمية الثانية، وضعت القيادة الألمانية محطات الأرصاد الجوية ومحطات دعم الغواصات الخاصة بها على هذه الجزر لدعم عملياتها في القطب الشمالي. وبالاعتماد على هذه القواعد، التي اكتشف الجانب السوفيتي كثيرًا منها في فترة ما بعد الحرب، نفذت الغواصات الألمانية عملياتها بنجاح في مياه بحر بارنتس وبحر كارا؛ مما أدى إلى إغراق عدد كبير من السفن التجارية والعسكرية السوفيتية. يجب الافتراض أن الخبرة العسكرية ذات الصلة قد نقلها القادة الألمان إلى القيادة البحرية لدول الناتو في الخمسينيات من القرن الماضي، ولا يوجد ما يمنع من الاستفادة من هذه التجربة اليوم، على الأقل تحت العلم الأوكراني، وهو “الملائم” لهذه الحالات.
الخاتمة
في رأينا، يجب على روسيا أن تأخذ في الحسبان دروس الماضي، وتهتم بزيادة الاستطلاع البحري والجوي والفضائي على طول طريق بحر الشمال بكامله، وإنشاء قواعدها الخاصة، وقوات الدوريات القادرة على تحديد أي أهداف تهدد الشحن الروسي، وتدميرها على الفور. لن يكون من غير الضروري العمل والتدرب، وكذلك تجهيز كاسحات الجليد، وناقلات النفط والغاز، والسفن الأخرى، بوسائل مكافحة الطائرات بدون طيار، وسفن العدو.
المصدر: مجلة روسيا في السياسة العالمية
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.