أبحاث ودراسات

أبعاد التوغل التركي في إفريقيا.. أنقرة في نيامي


  • 19 أغسطس 2024

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: csmonitor.com

تقدم النيجر فرصة لاستعمارها من جديد، لكن هذه المرة من خلال تركيا- القوة الصاعدة في القارة الإفريقية- فعقب الانقلاب العسكري الذي شهدته البلاد في يوليو 2023، انتهجت نيامي سياسة خارجية مختلفة، وعملت على تغيير شراكاتها الدولية، وطردت من أراضيها الجنود الفرنسيين الذين كانوا منتشرين في إطار القتال ضد الجماعات الإرهابية، بل تخطط لطرد الجنود الأمريكيين أيضًا بحلول سبتمبر (أيلول) المقبل، ليُفتح المجال واسعًا أمام طموح أنقرة في التمدد وبسط النفوذ في القارة الإفريقية عبر النيجر، بشراكة متعددة الأبعاد، ومتعددة النيات.

ركائز تركيا في القارة الإفريقية

منذ أكثر من عقدين من الزمن، انتهجت تركيا سياساتها التوسعية في القارة السمراء، التي تمتلك نحو 65 % من الموارد العالمية التي لم تُستغَل بعد؛ لذا أصبحت العلاقات مع الدول الإفريقية ضمن الأهداف الرئيسة للسياسة الخارجية التركية، ويعود الاهتمام بتطوير هذه العلاقات إلى عام 2005، حين أصبحت أنقرة عضوًا مراقبًا في الاتحاد الإفريقي، وأعلنت في العام نفسه خريطة جديدة عنوانها الانفتاح على إفريقيا. وفي الفترة الواقعة بين عامي 2008 و2023، زار الرئيس التركي 30 دولة إفريقية، ووجه بوصلة الاستثمارات نحو المنطقة، التي تمتلك سوقًا استهلاكية ضخمة، ويقطنها أكثر من 1.3 مليار إنسان، ونتيجة لهذا الاهتمام ارتفع حجم التبادل التجاري بين تركيا وإفريقيا من 3 مليارات دولار سنة 2003 إلى 26 مليار دولار عام 2021.

وبالتوازي مع العلاقات الاقتصادية، بدأت الدبلوماسية التركية بتطبيق إستراتيجية التقارب مع القارة السمراء من خلال توسيع العلاقات، وزيادة الحضور الدبلوماسي، حيث تحتل تركيا المركز الرابع من بين الدول الأكثر تمثيلًا في القارة الإفريقية، بعد الولايات المتحدة والصين وفرنسا، وقفز عدد السفارات التركية في إفريقيا من 12 سفارة عام 2002 إلى 44 سفارة وقنصلية في سنة 2022، كما ارتفعت السفارات والتمثيليات الدبلوماسية الإفريقية المعتمدة في تركيا من 10 سفارات عام 2008، إلى 37 سفارة في 2021.

وبعد أن عززت تركيا حضورها الاستثماري والدبلوماسي في المنطقة، سعت إلى مد نفوذها العسكري داخل إفريقيا، وإجراء مناورات مشتركة مع جيوش المنطقة، وأسفر ذلك عن توقيع اتفاقيات أمنية مع عدد كبير من البلدان الإفريقية، مثل كينيا، وإثيوبيا، وأوغندا، وتنزانيا لتدريب قوات الأمن في هذه الدول لمكافحة الجماعات المسلحة وأعمال القرصنة، كما عملت أنقرة على فتح أسواق جديدة للصناعات العسكرية التركية، حيث بلغت صادرات تركيا العسكرية إلى أفريقيا عام 2021 إلى 328 مليون دولار.

أبعاد التقارب بين تركيا والنيجر

عقب موجة الانقلابات في دول الساحل الإفريقي، التي بدأت عام 2020 من مالي، وتراجع النفوذ الفرنسي في غرب إفريقيا، زادت تركيا من دعمها السياسي والعسكري لتلك الدول، من خلال قنوات التسليح، والتعاون الاقتصادي، لتكون شريكًا حاضرًا بقوة في المنطقة التي تشهد سباق نفوذ بين القوى العالمية؛ لذا مع بداية الأزمة التي وقعت في النيجر بسبب انقلاب 26 يوليو (تموز) 2023، وقفت تركيا ضد التدخل العسكري الذي أعلنته مجموعة إيكواس، ليبدأ فصل جديد في تاريخ العلاقات بين أنقرة ونيامي.

وسعيًا من أنقرة إلى ملء الفراغ في النيجر، كثفت اتصالاتها مع نيامي، وزار رئيس وزرائها علي الأمين زين أنقرة، في فبراير (شباط) الماضي، وأعلن خلال لقائه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن التحدي الأمني المفروض على البلاد يتطلب من نيامي امتلاك كل الوسائل اللازمة لحماية أمنها القومي؛ لذا تعول على تركيا مساعدتها في هذا الشأن. وفي المقابل، أكد أردوغان، خلال هذا اللقاء، دعم تركيا خطوات النيجر لتعزيز استقلالها السياسي، والعسكري، والاقتصادي، وأن أنقرة ستواصل الوقوف ضد التدخلات العسكرية الأجنبية التي تستهدف الشعب النيجري، وعلى استعداد تام لاتخاذ خطوات جديدة لزيادة حجم التجارة بين البلدين.

دعم هذا التقارب، زيارة الوفد التركي الرفيع المستوى، برئاسة وزير الخارجية هاكان فيدان، إلى النيجر في يوليو (تموز) الماضي، حيث التقى الوفد التركي برئيس النيجر الجنرال عبد الرحمن تياني، الذي تولى السلطة عام 2023، بعد أن أطاح المجلس العسكري الذي يقوده بالرئيس محمد بازوم، وسعى إلى طرد القوات الغربية، وإنهاء الاتفاقيات الأمنية مع الاتحاد الأوروبي؛ لذا جاءت هذه الزيارة في إطار إصرار أنقرة على ترسيخ حضورها في إفريقيا، وسعيها أن تكون بديلًا قويًّا عن القوى الغربية ذات النفوذ في القارة السمراء، لا سيما في منطقة الساحل.

أدوات التغلغل التركي في النيجر

ولكي تستطيع تركيا تحقيق أهدافها من التوغل في النيجر، اعتمدت على عدد من الوسائل التي تتمكن من خلالها من السيطرة على كل مفاصل البلاد، من أبرزها:

1-   الأداة الاقتصادية: تصاعد حجم التبادل التجاري بين تركيا والنيجر في الأعوام الأخيرة، وارتفع من 72 مليون دولار عام 2019 إلى 203 ملايين دولار في 2022، وعززت الشركات التركية حضورها في النيجر من خلال المشروعات العملاقة، أبرزها عقد بقيمة 152 مليون يورو لتحديث مطار نيامي، وعقود أخرى بقيمة 50 مليون يورو لإقامة فندق فخم، و38 مليون يورو للمقر الجديد لوزارة المالية النيجيرية في قلب العاصمة، وأنشأت تركيا مستشفى بقيمة 100 مليون يورو في مارادي؛ ثالث أكبر مدن البلاد.

2-   الدفاع والأمن: في إطار توجه تحالف دول الساحل نحو شراء المسيرات التركية، جاءت زيارة رئيس وزراء النيجر إلى أنقرة في فبراير (شباط) الماضي، التي زار خلالها عددًا من شركات الصناعات الدفاعية، وسبق لتركيا أن وقعت اتفاقية عسكرية مع نيامي عام 2021. فضلًا عن هذا، تسعى أنقرة إلى إقامة قاعدة عسكرية تركية في إقليم أغاديس شمال النيجر، ذي الموقع الجغرافي الإستراتيجي، حيث تقع على تماس مع تشاد وليبيا والجزائر، وتأمل أنقرة أن تكون هذه القاعدة العسكرية على غرار القاعدة العسكرية التركية في الصومال، التي تعد أكبر قواعدها العسكرية في الخارج.

3-   الأداة العسكرية: مع بداية الأزمة التي وقعت في النيجر بسبب انقلاب 26 يوليو (تموز) 2023 وقفت تركيا ضد التدخل العسكري الذي أعلنته المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا إيكواس، ونشرت قوات لها في النيجر لدعم البلاد ضد أي تدخل عسكري، فخلال شهري أبريل (نيسان) ومايو (أيار) الماضيين، وصلت الدفعتان الأولى والثانية من المسلحين السوريين من فصائل الجيش الوطني الموالي لأنقرة إلى النيجر، وضمت الدفعة الأولى 550 عنصرًا، في حين ضمت الدفعة الثانية 250 عنصرًا، من فصيل فرقة السلطان مراد، وهي الأخبار التي لم ينفها أيٌّ من البلدين.

4-   صفقات السلاح: قدم الوفد التركي في زيارته الأخيرة إلى النيجر عروضًا للتسلح والتنسيق الإستراتيجي المشترك، وخاصةً ما يتعلق بتزويد نيامي بالطائرات المسيرة للاستطلاع أو الهجوم، لا سيما أن الجيش النيجري يراهن على توظيف هذه التقنيات في مواجهة فصائل جهادية تنتشر في منطقة الصحراء المترامية الأطراف، وقد سبق للنيجر أن اشترت من تركيا 6 طائرات مُسيرة قتالية “بيرقدار- تي بي 2” في مايو (أيار) 2022، عقب إعلان صفقة تشمل توريد أسلحة تركية للنيجر، بينها طائرات مُسيرة، وطائرات التدريب “حركوش”، ومدرعات لتعزيز قدراتها العسكرية والأمنية في مواجهة الجماعات الإرهابية.

5-   احتكار الوقود النووي: يعد إقليم أغاديس مركزًا لمناجم اليورانيوم الذي تسعى السلطات في نيامي إلى السيطرة عليه من هجمات الحركات المسلحة، حيث تعد النيجر مُنتجًا مهمًا لهذه المادة؛ إذ تحتل احتياطاتها من اليورانيوم المرتبة الأولى عالميًّا، بالإضافة إلى الذهب والنفط؛ لذا تطمح أنقرة إلى الاستفادة من إمدادات النيجر من اليورانيوم لتوفير الوقود لصناعة الطاقة النووية الناشئة في تركيا، حيث كانت أنقرة تتزود بالوقود النووي من اليورانيوم من شركات كندية وفرنسية، لكن تردي العلاقات بين النيجر والغرب أدى إلى خروج  تلك الشركات من النيجر، وخلال الزيارة الأخيرة للوفد التركي وقع البلدان إعلان نيّات لدعم الشركات التركية وتشجيعها على تطوير حقول النفط والغاز الطبيعي في النيجر.

6-   المساعدات الإنسانية: ركزت العلاقات التركية مع النيجر على تقديم المساعدات الإنسانية، خاصةً في أثناء الكوارث، بسبب النقص في الكوادر والبنية التحتية هناك، وقد تُدعم هذه المساعدات بالمشروعات التنموية، ويكون التركيز دائمًا على اشتمال المساعدات على عناصر تسهم في دعم تنمية النيجر، وفي زيادة العنصر البشري لها، كما يكون التركيز في هذا السياق على حتمية احتواء المساعدات على مشروعات تعليمية وتقنية أيضًا؛ لذا توغلت المؤسسات التركية في المجالات الإغاثية والتنموية، كهيئة الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان والحريات، ووكالة التعاون والتنسيق التركية تيكا  في النيجر.

الخاتمة

في ظل حالة عدم اليقين التي يمر بها النظام الدولي في الوقت الراهن، من المرجح أن يشتد التنافس على خيرات القارة الإفريقية، ويشتد الصراع بين القوى صاحبة النفوذ التقليدي، مثل فرنسا، وبريطانيا، والولايات المتحدة، وبين القوى الوافدة على المنطقة، كالصين، وروسيا، وتركيا، وفي إطار تفاقم عدم الاستقرار السياسي والأمني، الذي تعانيه غالبية البلدان الإفريقية، ومن بينها النيجر، سيتزايد الطلب على خدمات الدفاع والأمن، وما يرتبط بها من متطلبات، كالأسلحة، والمعدات، واللوجستيات، والاستخبارات؛ وهو ما قد يعطي الفرصة الذهبية للتوغل التركي في المنطقة، حيث ترى أنقرة نفسها مؤهلة أكثر من غيرها بحكم عوامل دينية وتاريخية، فضلًا عن الحضور الإنساني العميق من خلال المؤسسات التركية الإغاثية والتنموية.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع