شهدت العاصمة التركية على مدار الأيام الماضية الجولة الأولى من مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة بين دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا، بمشاركة 9 جهات حكومية سعودية، لتستعيد مسار المفاوضات التي توقفت منذ عام 2010، ولتؤكد نهج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في ولايته الثانية نحو دعم مسار التهدئة مع القوى الإقليمية، وتفتح باب العلاقات على مرحلة جديدة، يشكّل التعاون الاقتصادي والتجاري ركيزتها الأساسية، في ظل حاجة تركيا إلى دعم اقتصادها، والخروج من الأزمة التي احتدمت آثارها في السنوات الأخيرة؛ ما يجعل الجولة الأولى للمفاوضات، وما يليها من جولات، أولوية للنظام التركي الحالي سياسيًّا واقتصاديًّا؛ فاتفاقية التجارة الحرة ليست اتفاقية اعتيادية أو هامشية، بل لعلها المؤشر الأهم على تخطي تركيا وبلدان مجلس التعاون الخليجي مرحلة الفتور والتوتر على مدار عقد من الزمان.
دخلت العلاقات الخليجية التركية مرحلة جديدة مع سعي الطرفين إلى إنشاء واحدة من أكبر مناطق التجارة الحرة في العالم، غير أن فكرة إقامة منطقة تجارة حرة بين تركيا ودول الخليج ليست حديثة العهد، بل بدأت شرارتها الأولى قبل نحو 20 عامًا؛ ففي يونيو 2004، وافق المجلس الوزاري لمجلس التعاون الخليجي على إبرام اتفاقية إطارية للتعاون الاقتصادي بين دول المجلس وتركيا تمهيدًا للدخول في مفاوضات لإقامة منطقة تجارة حرة بين الجانبين. وفي مايو 2005، تم التوقيع على الاتفاقية الإطارية للتعاون الاقتصادي بين الطرفين في مملكة البحرين، لتبدأ بعد ذلك المفاوضات لإقامة منطقة التجارة الحرة، غير أن الخلافات السياسية بين تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي أعاقت مسار توثيق التعاون بين الجانبين سنوات.
لكن ما لبثت العلاقات بين الخليج وتركيا أن شهدت نموًّا وتقدمًا كبيرًا بعد أن أنهت الجهود الدبلوماسية التركية في عام 2020 سنوات من العلاقات المتوترة مع أغلب دول الخليج، وعلى إثر ذلك، أُبرمت سلسلة اتفاقيات لتعزيز التعاون في مختلف المجالات، وخاصةً في المجالين الاقتصادي والتجاري. وفي مارس (آذار) 2023 أرسى قواعد هذا التعاون اعتماد خطة العمل المشتركة بين الجانبين للفترة من عام 2023 إلى عام 2027، وذلك في إطار استئناف الحوار الإستراتيجي بين مجلس التعاون وتركيا بهدف توسيع نطاق التعاون، ودعم هذا التوجه الجولة التي أجراها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في يوليو (تموز) 2023، إذ وقعت تركيا مع السعودية عدة اتفاقات في مجالات الاستثمار المباشر، والصناعات الدفاعية، والطاقة، والدفاع، والاتصالات، وعُقد على هامش الزيارة منتدى الأعمال التركي- السعودي، وكان العنوان الأهم في الزيارة توقيع عقدين مع شركة الصناعات الدفاعية التركية (بايكار) لشراء طائرات مسيّرة من دون طيار، ما وُصف حينذاك بالصفقة الدفاعية الأبرز في تركيا.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، استضافت إسطنبول أول منتدى اقتصادي يجمع نخبة من المسؤولين ورجال أعمال من دول الخليج وتركيا؛ بهدف تعزيز التعاون الاقتصادي بين الجانبين، ورفع قيمة التبادل التجاري، حيث تطرق المنتدى الذي عقد تحت عنوان “المنتدى الاقتصادي الخليجي–التركي“ إلى مجالات التجارة، والاستثمار والتمويل، والطاقة، والبنية التحتية، والصناعة، والنقل والخدمات اللوجستية، والسياحة، والزراعة، والغذاء، تكشف هذه المساعي قوة الشراكة الإستراتيجية التي تربط دول المجلس مع تركيا، حيث تهدف الدول الخليجية إلى فتح آفاق التعاون التجاري والاقتصادي وتعزيزها إقليميًّا ودوليًّا، وضمان وجود أسواق قوية وكبيرة للسلع والخدمات، في إطار جهودها الرامية إلى تنويع اقتصاداتها في المنطقة.
تأتي الجولة الأولى من مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة بين دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا، امتدادًا لتوقيع البيان المشترك لبدء المفاوضات للتجارة الحرة بين دول مجلس التعاون وتركيا، الذي وُقِّعَ بين الأمانة العامة والجانب التركي في 21 مارس (آذار) المنصرم، والذي يُعد دلالة واضحة على رغبة الدول الأطراف في تنمية الشراكة الإستراتيجية، كما يشير إلى نجاح دول مجلس التعاون في الوصول إلى مكانة إقليمية ودولية بارزة على الأصعدة كافة، لا سيما المكانة التجارية الاقتصادية والمالية، من خلال حرص دول المجلس على إقامة المفاوضات للتجارة الحرة مع دول أخرى.
وفي هذا السياق، اختتمت الجولة الأولى من المفاوضات التي عقدت في أواخر شهر يوليو (تموز) الماضي في العاصمة التركية بمشاركة السعودية ممثلَةً في الهيئة العامة للتجارة الخارجية، و9 جهات حكومية أخرى، وناقشت الجولة عددًا من الموضوعات في تجارة السلع، والخدمات، والاستثمار، وقواعد المنشأ، والعوائق الفنية أمام التجارة، وتدابير الصحة والصحة النباتية، حيث هدفت هذه الجولة إلى الاتفاق على المبادئ والأسس التي ستسير عليها المفاوضات، فضلًا عن وضع الإطار للجولات التفاوضية المقبلة والأهداف المرجوة منها للانتهاء من المفاوضات بأقرب وقت ممكن.
ولعل ما ميز هذه الجولة من المفاوضات هو المرونة العالية من جميع الأطراف؛ إدراكًا لأهمية إبرام الاتفاقية في الوقت المستهدف، وزيادة مستوى التكامل بين الأطراف كافة، والعمل على تبادل المعلومات وبناء الثقة، بمشاركة القطاع الخاص، مما يمهد الطريق في الجولات المقبلة للتوصل إلى اتفاق نهائي شامل، خاصةً مع حرص الجانبين على انتهاء مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة خلال 12 إلى 18 شهرًا، لتدشين واحدة من أكبر مناطق التجارة الحرة في العالم.
تعوّل تركيا كثيرًا على اتفاقية التجارة الحرة مع دول الخليج لدعم اقتصادها والخروج من الأزمة الحالية التي تعانيها، بعد انتهاء المفاوضات ودخول الاتفاقية حيز التنفيذ؛ إذ ترمي أنقرة إلى دعم السوق والبضائع التركية التي سيزداد حجمها في دول الخليج، فإجمالي حجم التجارة الخارجية لتركيا ودول الخليج الست 2.4 تريليون دولار؛ ما يوضح مدى أهمية وضخامة التعاون التجاري الذي سيُحقَّق من خلال التوقيع على اتفاقية التجارة الحرة؛ لذا من المنتظر أن تعمل الاتفاقية على تحرير التجارة في السلع والخدمات، وتسهيل الاستثمارات والتجارة، وزيادة الاستثمارات بين تركيا ومنطقة الخليج، حيث تأمل تركيا رفع حجم التبادل التجاري مع دول الخليج إلى 40 مليار دولار، بعدما تجاوز الـ28 مليار دولار عام 2023، كما ستعطي الاتفاقية ميزة تفضيلية لنفاذ المنتجات الوطنية من سلع وخدمات إلى أسواق جميع الأطراف، إضافةً إلى تعزيز النمو الاقتصادي والتنمية في الدول الأعضاء.
وفي المقابل، يأتي حرص المملكة على عقد اتفاقية التجارة الحرة بالمشاركة مع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية؛ لأثرها الكبير في الاقتصاد السعودي، فالقطاعات السعودية المستفيدة- حال توقيع اتفاقية التجارة مع تركيا- تشمل البتروكيماويات، واللدائن، والأسمدة، والتمور، بالإضافة إلى الطاقة المتجددة، والقطاعات الزراعية التي تعدّ مهمة لدول مجلس التعاون الخليجي؛ لذا تُعد الاتفاقية أداة مهمة لتحقيق التكامل الاقتصادي بين دول المجلس، وتنويع اقتصاداتها، وتعزيز قدرتها التنافسية.
محصلة القول أن الاستثمارات الخليجية المزمع جنيها من اتفاقية التجارة الحرة لن تكون هدية مجانية لتركيا؛ بل تحتاج دول الخليج- في المقابل- إلى شريك أمني قوي وموثوق به، يعتمد عليه في تحقيق الاستقرار في المنطقة. وبالنظر إلى الفواعل الإقليمية الحالية، قد تكون السياسة الخارجية التركية هي الأقرب منهجيًّا للتوجهات الخليجية، فضلًا عن الدور التركي المؤثر في عدد من الصراعات الدائرة في المنطقة، كما أن تركيا قد تكون أحد مصادر السلاح الخليجي في المستقبل القريب، والأهم أن ثمن دعم دول المجلس للاقتصاد التركي هو الطلب من تركيا نقل جزء من تكنولوجيا التصنيع العسكري إلى تلك الدول.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.