تعدُّ رواية “الدون الهادئ” من أهمّ روايات الكاتب الروسي ميخائيل شولوخوف (1905- 1984) وأشهرها؛ بل من أهم الأعمال الأدبية الروسية في القرن العشرين، ولا تقل أهمية عن ملحمة “الحرب والسلم” للروائي الكبير تولستوي.
حصل شولوخوف بفضل هذه الرواية على جائزة نوبل للآداب عام 1965، وحقَّقت له شهرة عالمية، فهي من الروايات القليلة التي تناولت حياة القرى الريفية والفلاحين من جوانب عدة، وتوثق دور الجماعات الإثنية في التغيرات السياسية والاجتماعية لبعض الإمبراطوريات، لكنها لم تنل حظًا عالميًّا على المستويين الفني والنقد الأدبي، كما أن الاهتمام الأدبي العربي بها لم يمنحها قدرها الحقيقي.
أنفق شولوخوف 12 عامًا في كتابة هذه الملحمة الكبيرة، وشرع في كتابتها بسنوات عمره الأولى، فقد نشر الجزء الأول منها عام 1928، ولم يكمل العام الثالث والعشرين من عمره بعد، ثم نشر الجزء الثاني عام 1932، واختتمها بالجزء الثالث والأخير عام 1940. يظهر المدى الزمني الطويل نسبيًّا بين إصدار أول أجزاء الرواية لشولوخوف وآخرها تطورًا ونضجًا لشخصيات الرواية، لكن بلاغة السرد الأدبي لديه لم تختلف بين أول جزء وآخره، وكذلك معرفته العميقة بحياة شعب القوزاق، وفهم مجريات التاريخ، ويعكس ذلك مدى نضوجه المبكر.
قدمت الرواية في عدة نسخ للقارئ العربي في وقت متأخر نسبيًّا، فأقدم على تعريبها ثلاثة من المترجمين، هم: علي الشوبك، وأمجد حسين، وعلي حمدون، بمراجعة غائب طعمة فرمان، ونشرت الترجمة بدار المدى للثقافة والنشر والمجمع الثقافي بأبو ظبي عام 1998، وقدمت دار العلم للملايين نسخة أخرى عام 2003، ترجمها عمر الديراوي.
تدور أحداث تلك الملحمة الكبرى قبيل الحرب العالمية الأولى وما بعدها، مرورًا بسقوط القيصرية وقيام الثورة البلشفية والحرب الأهلية الروسية. وتدور أغلب أحداثها في أراضي نهر الدون الذي يعيش على ضفافه شعب القوزاق في جنوب روسيا، حيث يسرد شولوخوف حوادث ثورة عارمة، وحياة اجتماعية، ومواقف إنسانيّة. يصور حياة القوزاق ونضالهم، والتغييرات التي مر بها هؤلاء من خيالة جيش القيصر وحماة حدود روسيا إلى جنود فلاحين خلال ثلاث أزمات كبرى مر بها القوزاقيون منذ بداية القرن العشرين؛ وهي الحرب العالمية الأولى، والثورة الروسية، والحرب الأهلية الروسية.
تجري أحداث الرواية بعيدًا عن حياة الترف والقصور، ويوميات النبلاء والأثرياء، بل ركزت على حياة الريف والفلاحين ومشكلاتهم، وهي من المرات القليلة التي يتناول فيها كاتب حياة تلك الشريحة، بل كانوا أبطال العمل الملحمي الكبير.
استلهم شولوخوف عنوان روايته من اسم نهر الدون الذي يجري في جنوب شرق روسيا. في رحلة النهر الطويلة التي تقترب من 1900 كيلومتر من منابعه الشمالية بمقاطعة تولا يسير الدون متعرجًا في سهوب روسيا، تارة ناحية الجنوب الغربي، وأخرى ناحية الجنوب الشرقي، بل أحيانًا يعصي الانحدار والاتجاه العام له جنوبًا فيتجه شمالًا، ثم يعود مجراه إلى اتجاهه الطبيعي ناحية الجنوب حتى يبلغ مصبه في بحر آزوف.
تختلف طبيعة نهر الدون من مكان إلى آخر، فقليلًا ما يكون سريعًا، وغالبًا ما يكون بطيئًا، بل أحيانًا ساكنًا متجمدًا، وتضفي طبيعة الدون الهادئة خصائصها على القرى المستقرة حول ضفتيه، فتتشابه الأماكن وشخصيات الرواية معه، وتتنوع الأحداث اليومية بالقرى الريفية القوزاقية بحياة نابضة تبدأ قُبيل الفجر معلنة يومًا جديدًا بتسلل ضوء النهار بين الشجيرات وزقزقة الطيور، ونسمات الفجر، وأصوات الحيوانات، وصيد الأسماك، وكلها أحداث يومية متكررة، ورغم جمالها فإنها لا تمنح القرى حياة مثيرة؛ بل بطيئة، وأحيانًا مملة لتكرارها. لم يشعل تلك الأحداث إلا الحرب العالمية الأولى، وانضمام رجال القوزاق إليها، وأججت أحداث الثورة الروسية لهيب حياة قرى الدون، فتبدلت الحال، واشتعلت النيران الخامدة، وظل الدون وقوزاقه هادئًا حتى جاءت الثورة، فتبدل مزاج النهر، واضطربت ضفتاه، ودخل شباب القوزاق في أتون حرب دموية.
القارئ للأدب الروسي، وخاصة الأدب المتمحور حول مناطق القوزاق، في حاجة إلى خلفية تاريخية، وأخرى جغرافية عن تلك المجموعات الإثنية التي شكلت هذا المجتمع؛ وذلك لفهم نمط حياتهم الاجتماعية والثقافية، وليتفهم جيدًا لماذا وقف القوزاق على جانبي الصراع في الثورة الروسية، وردة فعلهم تجاه الفلاحين الفقراء والجيش الأحمر الذي يمثل السلطة الجديدة بعد الثورة؛ لذلك، قبل الخوض في عرض أحداث الرواية والصور الأدبية بها، وردًا على الأسئلة التي تدور في ذهن القارئ لا بد أن نعود بالتاريخ إلى سنوات مضت لمعرفة أصول القوزاق.
لم تحسم الأصول العرقية للقوزاق Cossacks على أساس أنهم عرقيات مختلطة تجمع بين الروس والخزر والأوكرانيين والتتار، فبعضهم يرجعهم إلى مجموعة من السلاف سكنوا واستقروا في مناطق السهوب الجنوبية لروسيا على ضفاف أنهار الدنيبر Dnieper، والدنيستر Dnieper، والدون Don، وحولوا المنطقة إلى مستوطنات لهم، بالإضافة إلى وجودهم في شرق أوروبا وكازاخستان وسيبيريا. هناك مصادر تؤكد أنهم غالبًا شعب مسيحي أرثوذكسي سلافي شرقي نشأ في سهوب بونتيك- قزوين في شرق أوكرانيا وجنوب روسيا، ومع ذلك، يرى القوزاق أنهم شعب حر، يملكون الأراضي ويزرعونها، ويدافعون عن حدود الوطن في آن واحد، وأصولهم أعرق بكثير من الروس والأوكرانيين بصفة خاصة.
كون القوزاق دولة مستقلة لنحو قرنين من الزمان، وكانت تتبع روسيا القيصرية صوريًّا فقط؛ لذلك فدورهم كان كبيرًا ومهمًّا في التطور التاريخي والثقافي لروسيا وأوكرانيا، وقد منحوا امتيازات خاصة، حيث سُمح لهم- بدرجة كبيرة- بممارسة الحكم الذاتي مقابل الخدمة العسكرية في القوات غير النظامية، وتميز جنودهم بالشجاعة، وفرسانهم بالمهارة، وتشهد فتوحات روسيا الخارجية ببسالتهم منذ القرن السادس عشر؛ لذلك كانوا محل إعجاب قيادات الجيش الروسي لمهاراتهم بالفروسية، ووظف أمراء الحرب الروس والأوكرانيون كثيرًا منهم في سلاح الفرسان، واتخذت السلطة الروسية منهم فرق فرسان حماية القصر الإمبراطوري في العاصمة بتروغراد حينئذ.
بقدر بطولات القوزاق في جيش الإمبراطورية الروسية، وخاصة أمام قوات نابليون؛ مما أدى إلى هزيمته وانسحابه من روسيا عام 1812، فإنهم قادوا الحركات المناهضة والانتفاضات ضد السلطة القيصرية المركزية، خاصة عند محاولات القياصرة الروس الحد من حقوقهم، واستلاب عاداتهم وتقاليدهم الأصيلة، فيشتهرون بأغانيهم وألحانهم الشعبية المميزة. ومع ذلك ظل القوزاق على ولائهم؛ فبعد قيام الثورة البلشفية في روسيا عام 1917، وقف غالبيتهم إلى جانب صفوف الحرس الأبيض المناهض للسلطة الجديدة ، قبل أن تفرقهم الحرب الأهلية بين مؤيد ومعارض، ويشتتهم القمع والاضطهاد بين مهاجر ومرابط.
أسهمت ملكية القوزاق للأراضي في استقرارهم، فحولوا أماكن إقامتهم إلى مستوطنات ثابتة في السهوب، وتتوزع تلك المستقرات العمرانية على شكل شريط ممتد بطول ضفتي الدون، ويشمل عشرات القرى التي تتبع كل مجموعة منها بلدة أكبر أو مدينة صغيرة، ومن أهمها مدينة “فيشينسكايا Vyoshenskaya”، وهي مسقط رأس المؤلف أيضًا، وتعد مركزًا لتجمع الشباب القوزاقي الملتحق بالعسكرية حديثًا؛ ولذلك تنظم مجموعات القوزاق المختلفة على أسس عسكرية مع مجموعات كبيرة مستقلة تسمى الحشود، فالقوزاق متمسكون بزيهم العادي والتقليدي في الحياة اليومية، الذي يشبه الزي العسكري، أو ما يسمى “بدلة القوزاق القومية”، التي يتميز بها القوزاق، وتعرفهم القوميات الأخرى من خلالها، ومن قصة شعر رجالهم، التي تزينها تلك الخصلة الجانبية التي في طرف الأذن، والتي تظهر من تحت غطاء الرأس لتميزهم عن الباقين.
رغم اختلاف الزمان والمكان، والطبيعة، والمناخ بين روسيا ومصر، لكن يمكن للقارئ أن يلحظ بعض جوانب التشابه بين الروايات الأدبية التي تناولت حياة الريف الروسي والريف المصري، وتعد “الدون الهادئ” أفضل مَن مثَّل الأدب الروسي الريفي، ولعل التشابه ليس بالوتيرة نفسها تمامًا؛ لاختلاف العادات والتقاليد والطابع الأخلاقي، لكن هناك نسبة كبيرة من التشابه بين حياة القرويين في البيئتين، وإن اختلفت الظروف.
ويمكننا أن نحدد أكثر بأن هناك تشابهًا واضحًا بين الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في القرى المستقرة حول الأنهار، وخاصة في طبيعة الحياة اليومية، فالتوافق بين الكتاب الروس والمصريين يعد توافقًا جغرافيًّا كبيرًا بنفس قصص المزارعين في القرى الممتدة على ضفاف الأنهار، مثل البداية المبكرة لليوم قبيل الفجر، وعمل المرأة إلى جانب زوجها في الحقول النضرة الخصبة، حتى لو كانوا من المياسير مالكي الأراضي، وتعاون الجيران في أعمال الفلاحة، وخاصة في مواسم جني المحاصيل، أو المساندة وقت التغيرات البيئية، وانهيار السدود، وغزارة الأمطار، وغرق المحاصيل، ونفوق الحيوانات، وغير ذلك، وانتشار النميمة بين نساء القرية، وسرعة نقل الأخبار كسرعة النار في الهشيم، وخاصة إن كانت متعلقة بموضوعات أخلاقية.
وكما صور شولوخوف النضال البطولي والمأساوي الذي خاضه قوزاق الدون ضد البلاشفة من أجل الاستقلال، دافع بجرأة عن مواطنيه في منطقة الدون، وأظهر ثقل هذه الفئة في المجتمع وأهميتها، فقليل من الروايات الأدبية تبدع في عرض صورة الريفيين وقضاياهم. هذا الإقدام والابداع في عرض حياة الريفيين من القوزاق، يشعر قارئ “الدون الهادئ” أنه يقرأ بعضًا من سطور عبد الرحمن الشرقاوي، وثروت أباظة، ويوسف إدريس، وإن اختلف السياق، وسيتذكر على الفور سينما يوسف شاهين في فيلمه المتفرد “ابن النيل”، حيث تتلاقى الخطوط لدى شولوخوف مع بعض الخطوط العريضة في قصص الفلاحين في الروايات الأدبية المصرية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.