تتنوع الذكريات والمشاهد من التجوال في مدينة موسكو، وآخر عهدي بها مطلع عام 2017. وسأكتب هنا عن أربعة مشاهد.
1- المترو
لا يمكن أن تتحرك في مترو موسكو من دون خريطة؛ فالخريطة هنا ليست ترفًا، والشكل العنكبوتي المرفق يعرض مترو موسكو الذي أنشئ عام 1935 بخط لم يزد طوله على 11 كم ممتدة على 13 محطة. اليوم، بعد 90 سنة من العمل المتصل، تجاوز عدد المحطات 200، بإجمالي طول للشبكة قدره 340 كم.
لا يمكنك التحرك في مترو موسكو بالذاكرة. الكل من حولك يتابع الخريطة، إما على شاشات رقمية داخل القطار، وإما في نسخ ورقية، وإما على الهاتف المحمول.
مترو موسكو- مثل مترو باريس- أقرب إلى مدينة كاملة تحت الأرض!
يمكننا أن نرى في مترو موسكو رموزًا لعظمة الصناعة الروسية الثقيلة، وللدقة والإحكام مع الصلادة والخشونة. لكن يمكن مع ذلك أن ترى فيها رموزًا للفن الفخم الذي يناظر قصور العصر القيصري.
لكل محطة قصة وحكاية، ومن بين هذه المحطات “دابريننسكيا”.
في الصورة الأولى نرى الجماهير السوفيتية وهي تحتفي برائد الفضاء السوفيتي يوري جاجارين في محطة مترو في موسكو تدعى “دابريننسكيا”.
حين وقفت أمام اللوحة الفسيفسائية المرمرية في هذه المحطة الشهيرة في وسط موسكو، أخبرتني الصديقة الغالية “داريا كيرسانوفا” أن الصورة معاد تركيبها، فقد حذفوا صورة الزعيم جوزيف ستالين بعد موته، وركبوا مكانها لاحقًا صورة رائد الفضاء.
سألت داريا عن الصورة الأصلية، ففتحت محرك بحث “ياندكس”، وعثرت فيه على الصورة الأصلية التي عليها صورة ستالين والجماهير تطوف من حوله.
ذهب ستالين.. وبقي جاجارين!
2- الكرملين
كلما جاء أحدهم إلى موسكو ووقف أمام الكرملين محدقًا عينيه سألته: هل فكرت في معنى كلمة كرملين؟ ولدهشته يكتشف لأول مرة أن الكرملين تعني القلعة أو الحصن، ولدهشته يتذكر أن قلعة صلاح الدين التي تأسست عام 1176 م، هي أقدم من كرملين موسكو الذي شيد عام 1500 م تقريبًا.
وفي كل مرة أقول له ولغيره إن كرملين القاهرة لا يحتاج لكي يتفوق على غيره إلى سوى رعاية جادة، وحماية، ووعي سياحي، وإدارة من المبدعين ليصبح كرملين القاهرة قبلة السائحين كما يفعل كرملين موسكو.
والحقيقة أن أسوار الكرملين وأضواءه خلقت منه كيانًا مبهجًا مهيبًا في السنوات الأخيرة، ولم يعد الكرملين
سورًا مرجفًا يُغلق على القياصرة وسكرتارية الحزب الشيوعي، فالعمارة الموسكوفية الجديدة حول أسوار الكرملين تجذب المواطنين والسائحين لنزهة ليلية تحاول أن تستعرض فيها بزخ فينيسا، وأبهة باريس، ووقار فيينا، وأضواء لاس فيجاس.
من أجمل ما يستوقف الناس في التجوال الليلي حول الكرملين كاتدرائية القديس فاسيلي المبارك ( Собор Василия Блаженного)، وهي تعود إلى توثيق حدث سياسي في مطلع القرن السادس عشر، حين أسقطت روسيا إمارة قازان، وكانت الكنيسة بمعمارها الفريد ملهمة لتصاميم ديزني، وهناك كنيسة شبيهة لها في مدينة سانت بطرسبورغ
3- متحف الحرب الوطنية العظمى
أخذت الصورة المرفقة من متحف “الحرب الوطنية” في موسكو قبل عدة سنوات. يقصد بـ”الحرب الوطنية”- في المفهوم الروسي- الغزو الفرنسي للبلاد الروسية عام 1812 بقيادة نابليون بونابرت، الذي تمكن فيه نابليون من تحقيق نصر خاطف، فاحتل العاصمة موسكو، بل نام عدة ليالٍ في فراش الكرملين.
لكن بأساليب العمق الإستراتيجي، حرق الروس مدينة موسكو وتركوها لنابليون خربة، وتقهقروا إلى الخلف قبل أن يجمعوا صفوفهم ويشنوا هجومًا مرتدًا يطردون فيه نابليون وجيشه، ويحررون بلادهم من الاحتلال الفرنسي.
هناك حرب أخرى يطلق عليها “الحرب الوطنية”، لكن هذه المرة يضاف إليها كلمة “العظمى”، وهي الحرب التي شن فيها هتلر هجومه على موسكو في سيناريو متكرر لما قام به نابليون، ووصلت جيوش هتلر إلى مشارف موسكو، وتمكن الجيش السوفيتي من تكرار سيناريو حرب نابليون، ورد العدوان النازي.
واللوحة التي صورتها بريشة فاسيلي فيريشاجين Вереща́гин التي وثق فيها المشهد التاريخي بعد حدوثه بنحو 80 سنة، إذ رسم لوحته هذه عام 1900.
لا تستطيع ريشة الرسام، ولا ألوانه الزيتية، أن تصور واقعة تاريخية بكلمات، أو سطور، أو مجلدات، كما أن اللوحات الفنية لا تعرف الصوت الزاعق، ولا الغوغائية؛ ولذلك حين أراد الفنان الروسي أن يوثق لحظة خيبة أمل نابليون بونابرت في الخروج من روسيا في حرب 1812، خروجًا مشرفًا بعد اختلال جيشه في جبهة القتال، وجدناه يلجأ إلى النظرات الصامتة التي تغني عن كل كلام.
في اللوحة الفنية لحظة واحدة من الزمن ينظر فيها نابليون دون أن يسأل، ودون أن يجيب رسوله عن نتيجة التفاوض بشأن عقد سلام يضمن خروج الغزو الفرنسي من روسيا بعد أن وقع في فخ “غزو كاسح”، ثم هجوم روسي مرتد يطرد الوافدين.
الطريف أن مصر لم تكن غائبة عن هذا المتحف، وقد صورت منها الصورة التالية ذات القصة الطريفة.
فهذه الصورة هي واحدة من بين المتعلقات التي تركها جيش نابليون في محيط الكرملين وهو يسرع بالانسحاب، ممثلة في ميدالية ذات وجهين.
الميدالية كان يمنحها نابليون لكبار جنوده، وهي مكتوب عليها بالفرنسية “غزو مصر العليا”، ومؤرخة بعام 1799، أي قبل 13 سنة من غزو نابليون موسكو.
للميدالية وجهان: الأول تمثال نصفي لملك فرعوني (يقولون إن المقصود هو نابليون)، في دلالة على السيطرة على حضارة مصر وتاريخها. أما الوجه الآخر فيضم رسمًا يبدو فيه تمساح من تماسيح النيل في أسوان أو النوبة وقد رُبِطَ بسلسلة في نخلة على ضفاف النيل، وهي دلالة على سيطرة جيش نابليون على البيئة في مصر (النهر والزرع).
متحف الحرب الوطنية في موسكو يقع بحذاء سور الكرملين. وهو مستودع للتاريخ والثقافة والفن.
4- شارع أرباط في وسط موسكو
شارع أرباط هو أشهر شارع في موسكو، ويذهب المؤرخون الروس إلى أن أصل تسمية الشارع يعود إلى مصدر عربي لكلمة “الرَّبَض “، بمعنى ضاحية المدينة، أو إلى كلمة تترية من أصل عربي مشتقة من “عربة”، في إشارة إلى العربات التي كانت تسير قبل 500 سنة في هذا الشارع دون غيره، وكان الشارع آنذاك هو الشارع الوحيد الذي تسير فيه عربات تجرها الخيول تحمل البضائع والسلع إلى أبواب الكرملين
تميز الشارع في القرنين الماضيين بسكنى الفنانين، والكتاب، وكبار رجال الدولة، وتحول إلى الشارع الأشهر المخصص لسير المشاة وتجوالهم بين أركان الرساميين، والشعراء، والموسيقيين، ومؤخرًا غزته المطاعم والمقاهي الفارهة.
وفي الختام أود التنويه أن هذه المشاهد الأربعة ليست سوى صفحة واحدة في كتاب ضخم لمعالم المدينة، وسنحاول في مقالات مقبلة أن نفتح بعض صفحات ذلك الكتاب الكبير.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.