جغرافيا

مشاهدات عن البيئة والإنسان في موسكو وضواحيها


  • 29 يوليو 2024

شارك الموضوع

خلال تجوالي في موسكو وضواحيها حتى مطلع عام 2017، استوقفتني بعض المشاهد التي تعبر عن البيئة والإنسان، وسأعرضها بإيجاز في السطور التالية.

1-البـِركة الحائرة بين الرب والشيطان

في شمال غرب مدينة موسكو، وفي أحد أرقى أحياء المدينة، تقع بركة مائية متخلفة عن التغيرات التاريخية لمجرى نهر موسكو، تحمل اليوم اسم “بركة البطريرك”؛ لأنها كانت جزءًا من الأراضي التابعة للكنيسة الروسية في العصر القيصري، لكن هذه البركة تغيرت هويتها بناء على التوجه الديني للدولة:

– ففي القرون الوسطى كان الناس يطلقون على هذه البركة- تشاؤمًا- اسم “مستنقع الشيطان Козье болото”.

ومع قوة تأثير الكنيسة في روسيا بداية من القرن السابع عشر، أخضعت الكنيسة المنطقة لنفوذها ضمن أراضي الوقف الكنسي، وسميت البركة باسم “بركة البطريرك”.

لكن مع وصول الإلحاد إلى السلطة في العهد الشيوعي، نسبت البركة إلى شبيبة الشيوعية، فسميت “بركة الرواد Пионерский “.

 ومع انهيار الشيوعية، وعودة الكنيسة إلى موقعها تدريجيًّا في السلطة، والحياة الاجتماعية والثقافية للشعب الروسي، أعادت الدولة تسمية البركة باسم “بركة البطريرك”.

وبغض النظر عن كل هذه الأسماء، تشعر خلال التجوال في هذه البحيرة بدعوة إلى التفكير والتأمل في كل ما يتعلق بالسياسة، والدين، والجغرافيا، والبيئة.

2- روسيا تستلهم من مصر

نصحتني الصديقة الغالية التي تعلمت منها الكثير “داريا كيرسانوفا” أن أتوجه إلى زيارة واحد من أشهر الأديرة المسيحية في ضواحي موسكو، وهو دير “سيرغي رادونيغينسكي” Сергий Радонежский أكبر الأديرة الروسية، وأكثرها تأثيرًا من الناحية الروحية، ويقع على مسافة 75 كم شمال شرق مدينة موسكو.

تقول داريا إن كثيرين جاءوا هنا طالبين البركة والدعم الروحي، منهم أشهر القياصرة الروس، وعلى بابه تلمس التأييد والدعم قادة الجيوش وزعماء المعارك في حروبهم الدينية.

بحثت في المصادر التاريخية المتاحة على الإنترنت، فعرفت أن عمر الدير يعود إلى 700 سنة، وما زال محطة “حج” لكثيرين يجدون في كنفه سكينة وراحة، وإبداعًا معماريًّا، وقراءة للتاريخ، وملامح المكان.

كان الدير سببًا في نشأة مدينة حملت اسم “المجاورون”، بمعنى الذين سكنوا في جوار الدير طمعًا في بركته؛ ومن ثم صار الاسم “سيرغيف باساد”؛ أي: في جوار القديس سيرغي.

بهذه الوظيفة الدينية تطورت المدينة مستفيدة من عائد الخدمات الدينية للدير من فنادق، ومطاعم، ومتنزهات (نشأت المدينة فعليًّا في عهد القيصرة يكاترينا الثانية عام 1782).

وبينما كنت أتجول في دير القديس سيرغي رادونيغينسكي في موسكو، تذكرت ديرًا مصريًّا يسمى دير الأنبا بولا في صحراء مصر الشرقية، الواقع بعيدًا عن موسكو بنحو 4000 كيلومتر.

وبكل وضوح أقول إن الدير الروسي هو نسخة مستوحاة من الدير المصري، والدليل على ذلك الصورة التالية التي أخذتها من كلا الديرين.

الصورة في دير سيرغيف باساد، وتبين واحدة من “معجزات” القديس سيرجيف حين جاء إليه دب جائع يريد أن يفترسه، فبدلًا من ذلك استأنس إلى القديس، واقتسم معه رغيف الخبز. القصة نفسها موجودة في دير الأنبا بولا، الذي جاء إليه أسد جائع، فاقتسم معه رغيف خبز كان يجلبه إليه طائر كل يوم.

لا تناقض بين الأسد والصحراء، فقبل 1500 عام كانت منطقة الدير أقرب إلى غابة في مصب أحد الأودية الجبلية الغنية بعيون المياه إلى الجنوب من منطقة الزعفرانة حاليًا على البحر الأحمر.

وبصفة عامة، فإن نظام الأديرة المسيحية هو نظام مصري صرف ُصدِّرَ إلى كل ربوع العالم، أو كما قال بعض العلماء فإن نظام الرهبنة هو “هدية مصر إلى العالم”.

3- تريتياكوف.. أشهر متحف في موسكو

في عام 1856، اشترى التاجر الموسكوفي المستنير “بافل تريتياكوف” третьяков أهم أعمال الفنانين الروس؛ بهدف تكوين مجموعة فنية تكون نواة لمعرض كبير للفنون الجميلة. بعد نحو 40 سنة من البذل والإنفاق جمع التاجر المستنير 2000 قطعة فنية ما بين رسم، وتصوير، ونحت، وأهداها جميعًا إلى الأمة الروسية عام 1892. اليوم، وبعد مرور أكثر من 130 عامًا على مبادرة التاجر تريتياكوف، تبنت الدولة مضاعفة حجم المعرض، فبلغ حجم مقتنياته أكثر من 130 ألف قطعة فنية.

 

4- أسماء الشوارع

رغم مرور ما يزيد على 30 عامًا على سقوط الاتحاد السوفيتي، ما زالت أسماء الشوارع في المدينة تحمل تاريخًا ينتمي إلى المجد الشيوعي السابق. في رحلة عمل في جنوب موسكو، استوقفني شارع يحمل اسم “موسى مصطفى جليل Муса Джалиль”، منسوب إلى الشاعر التتري الذي حصل نتيجة اشتراكه إلى صفوف الشيوعيين في محاربة النظام الملكي، على لقب “بطل الاتحاد السوفيتي”، فضلًا عن عدة جوائز عن أعماله الأدبية التي تمجد الفكر الثوري الشيوعي، ومناقب الجيش الأحمر، وتشجع الشبيبة الشيوعية. ولد الشاعر التتري المسلم موسى جليل عام 1906، وتوفي عام 1944.

5- عالم الأعراق Этномир

سافرت في شتاء 2015 إلى ضواحي موسكو الجنوبية، زرت مركزًا ثقافيًّا أسسه رجل أعمال روسي من أصول أذربيجانية يُدعى “روسلان بايراموف”، عام 2006، وأعطى المشروع اسم “عالم الأعراق” Этномир، فأقام على بعد 90 كم جنوب غرب موسكو متحفًا مفتوحًا ضخمًا على مساحة 250 هكتارًا في كنف بيئة الغابة الروسية. حين زرته في افتتاح الجناح الإفريقي تعلمت كيف يمكن أن تتزاوج الثقافة والربح، فالمتحف الكبير المفتوح لا يضم فقط أجنحة لمختلف الثقافات، ونماذج من البيئات؛ بل يحوي مطاعم ومعارض لنماذج من السلع المقلدة من كل ثقافة، تجلب أرباحًا لصاحب المشروع بمثل ما تجلب بهجة ومتعة للزائرين من مختلف الأعمار.

في وسط الجناح الإفريقي كان هناك قسم للحضارة المصرية في بلاد النوبة، يقوم عليه شاب مصري من أسوان، جذب انتباه الزوار والباحثين.

6- مهرجان دائرة الضوء

أقيم في موسكو عام 2015، المهرجان الدولي الخامس لعروض الإبهار البصري، الذي يحمل اسم “دائرة الضوء”، وهو مهرجان يعقد دوريًّا منذ عام 2011. حضر العرض في عام 2015 نحو 4 ملايين مشاهد من سكان موسكو وزائريها.

أسقطت العروض أشكالًا فنية عبر تقنيات إسقاط الضوء على الأبنية الحكومية المهمة في موسكو، التي تحولت إلى أكبر شاشة عرض في العالم، ومن بين المباني الأخرى التي استخدمت واجهتها كشاشات عرض مبنى مسرح البولشوي، واستخدمت أيضًا ضفاف نهر موسكو في إسقاط الضوء. صاحب العرض محاضرات، وسيمنارات، وورش عمل. استخدم في تقنات العرض 1000 منصة إسقاط ضوء، و220 جهاز لعروض الفيديو.

كان الهدف من المهرجان هو تحويل موسكو خلال فترة العرض إلى “مدينة الضوء”؛ من خلال عروض صممتها استوديوهات فنية من كل من روسيا، وفرنسا، والمملكة المتحدة.

 شمل العرض سرد قصص من التاريخ الروسي، من بينها تاريخ الجمعية الجغرافية الروسية (تأسست عام 1845)، والاكتشافات التي قامت بها في القطب الشمالي، وصحاري آسيا الوسطى، وكذلك سرد عن رواد المستكشفين الروس العظام.

ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع