إستراتيجيات عسكرية

“الناتو”.. فشل سياسة “الاحتواء المزدوج”


  • 18 يوليو 2024

شارك الموضوع

يشكل البيان الختامي الصادر عن قمة دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) في واشنطن “مرحلة خطيرة” من التصعيد الغربي ضد كل من روسيا والصين؛ فالاتهامات الواردة في البيان، والتصريحات المرافقة للقمة من زعماء “الناتو” لموسكو وبيجين سوف تزيد حالة “الاستقطاب العالمي”، وتدفع نحو مزيد من “عسكرة النزاعات والخلافات”، بدلًا من البحث عن سبل جديدة لحل الصراعات السياسية والعسكرية التي يمر بها العالم. ورسمت واشنطن خلال “قمة الناتو” الأخيرة صورة تقسم العالم إلى “فسطاطين”؛ الأول هو أمريكا وحلفاؤها الغربيون في الاتحاد الأوروبي و”حلف الناتو”، بالإضافة إلى كوريا الجنوبية، واليابان، وأستراليا ونيوزيلندا، والفسطاط الآخر هو “روسيا والصين” وحلفاؤهما، وهو ما يقول إن “حلف الناتو” بقيادة الولايات المتحدة يعمل بالفعل على “احتواء” روسيا والصين معًا، وذلك عندما أعلن عددًا من الخطوات ضد روسيا، أبرزها نشر صواريخ طويلة المدى في أوروبا لأول مرة منذ عام 1987، والاستمرار في الخطوات التي تسمح لأوكرانيا بالانضمام إلى “الناتو” في نهاية المطاف، وتأكيد أن أوكرانيا في “مسار لا رجعة عنه” للانضمام إلى الحلف الأطلسي، وهو ما يدعم وجهة نظر الكرملين التي كانت تقول دائمًا إن “العملية الروسية في أوكرانيا” جاءت لوقف انضمام كييف إلى “الناتو”.

 في مسار التصعيد نفسه، عقد “الناتو” قمة للتنسيق ضد الصين مع زعماء أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا، فمنذ عام 2013 كان الحلف يرى الصين “تهديدًا بعيدًا”، وحتى بعد عام 2019 عندما زادت نبرة الانتقادات الغربية للصين كان “الناتو” يصف الصين “بلغة ناعمة”، ودون أي اتهامات مباشرة، لكن في قمة واشنطن اتهم “الناتو” الصين- اتهامًا مباشرًا- أنها من أهم داعمي روسيا في حربها على أوكرانيا، وهو ما تنفيه الصين بقوة.

هذه التصريحات الغربية المتزامنة مع عدد من الخطوات العملية على الأرض سياسيًّا وعسكريًّا، سوف يكون لها “ارتدادات جيوسياسية” على العالم كله، وهو ما يطرح سلسلة من الأسئلة عن مدى قدرة حلف “الناتو” على احتواء “روسيا والصين” معًا، وهي السياسية التي يطلق عليها في الغرب “الاحتواء المزدوج”؟ وإذا كانت كل العقوبات على روسيا، وإرسال جميع أنواع السلاح والذخيرة لأوكرانيا لم ينجح في “احتواء روسيا”، فكيف يستطيع “الناتو” بقيادة واشنطن احتواء كل من “روسيا والصين معًا”؟ وما الأوراق التي لدى موسكو وبيجين للرد على سياسة “الاحتواء المزدوج” التي ينتهجها “الناتو”؟

سقوط خيار كيسنجر

تعود العبقرية الدبلوماسية لوزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر إلى أنه استطاع فتح الطريق أمام عودة العلاقات الأمريكية الصينية، بعد أن رفضت واشنطن الاعتراف بالحكومة الصينية منذ عام 1949 حتى عام 1979، وقامت الحسابات الأمريكية في ذلك الوقت على أن “التقارب الأمريكي مع الصين” سوف تكون نتيجته الحتمية هي سحب الصين بعيدًا عن الاتحاد السوفيتي السابق، ومقابل هذه “الجزرة السياسية” التي تحصل عليها الصين، تحصل الولايات المتحدة على “جزرة جيوسياسية”؛ هي “ابتعاد” الصين عن الاتحاد السوفيتي السابق، وهو ما يعني عمليًّا “عزل” الاتحاد السوفيتي في آسيا.

في ذلك الوقت كان هناك إدراك من الرؤساء الأمريكيين، خاصة ريتشارد نيكسون، وجيمي كارتر، بأن الولايات المتحدة لا يمكن أن “تحتوى، أو تواجه” الصين والاتحاد السوفيتي معًا، وأن عزل الاتحاد السوفيتي، واستقطاب الصين إلى صفوف الغرب، أو على الأقل تحييدها، هو “الوسيلة الوحيدة”، و”الأقل تكلفة” للانتصار في الحرب الباردة، ونجحت الولايات المتحدة طوال النصف الثاني من القرن العشرين في احتواء القوى الكبرى في العالم من خلال استقطاب طرف وجذبه بعيدًا عن الطرف الآخر؛ حتى لا تكون هناك “كتلة جيوسياسية” واحدة ضد الهيمنة الغربية؛ ولهذا استثمرت الولايات المتحدة في تعميق الخلافات الهندية الصينية، وفي تأجيج الصراع التاريخي بين الهند وباكستان، وعمقت الخلافات بين الصين واليابان؛ حتى تضمن أن تكون اليابان في “الخندق الأمريكي” طوال الوقت.

لكن سياسة “الاحتواء المزدوج” أُجهِضَت عمليًّا في 18 ديسمبر (كانون الأول) 2017، عندما أعلن الرئيس الأمريكي السابق والمرشح الجمهوري الحالي دونالد ترمب “إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي”، التي وصفت “روسيا والصين” بأنهما “المنافستان الإستراتيجيتان” للولايات المتحدة على الساحة الدولية، وتكرر الأمر نفسه في عهد جو بايدن، عندما أعلن في 12 ديسمبر (كانون الأول) 2022 إستراتيجية الأمن القومي الأمريكية، التي تصف روسيا والصين “بالخطر” على الهيمنة الأمريكية، وفي كل اجتماعات الناتو منذ عام 2022، يتهم بايدن روسيا والصين بالسعي معًا إلى التخلص مما يسميه “النظام العالمي القائم على القواعد”، والسعي إلى بناء “عالم جديد” يقوم على “تعدد الأقطاب”.

هذه الاتهامات، والعمل الصريح ضد روسيا والصين، يشكلان مخاطرة جيوسياسية كبيرة؛ لأن حلف “الناتو” الذي فشل في العراق وأفغانستان وليبيا، كيف يمكنه أن يحتوي دولتين كبيرتين مثل روسيا التي لديها أكبر مخزون من الأسلحة النووية الجاهزة للانطلاق في العالم، والصين، وهي دولة نووية، وتشكل الاقتصاد الثاني عالميًّا؟

تورط مباشر

المعنى الواضح لكل الخطوات التي أعلنها “الناتو” في قمة واشنطن ضد روسيا تقول إن الحلف يتجه بسرعة نحو “التورط المباشر” في الحرب الروسية الأوكرانية، وذلك عبر مجموعة من الخطوات، منها:

أولًا: أوكرانيا على مسار “الناتو”

لأول مرة منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية يكون هناك التزام واضح من جانب “الناتو” لضم أوكرانيا؛ عندما أشار الى أن أوكرانيا “في مسار لا رجعة عنه” في طريق الانضمام إلى الحلف، وهذا سيشكل استفزازًا كبيرًا لروسيا، التي قالت- أكثر من مرة- إن عملياتها العسكرية في أوكرانيا بداية من 24 فبراير (شباط) 2022، كان الهدف منها هو إجهاض انضمام أوكرانيا إلى حلف “الناتو”، ليس هذا فقط، فقد أعلن “الناتو” أنه سيوفر مساعدات عسكرية سنوية لأوكرانيا بنحو 40 مليار دولار، وكشفت إحدى الوثائق الصادرة عن الحلف التزام 20 دولة في الحلف بتقديم كل ما يستطيعون لدعم أوكرانيا عسكريًّا، ووقع على هذه الوثيقة كل من الولايات المتحدة وبلجيكا وكندا والدنمارك وإستونيا وفنلندا وفرنسا وألمانيا وأيسلندا وإيطاليا واليابان ولاتفيا وليتوانيا ولوكسمبورغ وهولندا والنرويج وبولندا والبرتغال وإسبانيا والسويد وبريطانيا، وتلتزم الدول الموقعة على هذه الوثيقة بتقديم الدعم لأوكرانيا في مجال الدفاع والأمن والتدريب العسكري، وتحديث الجيش مع صياغة جديدة تقول إن “أمن أوكرانيا جزء لا يتجزأ من أمن المنطقة الأوروبية الأطلسية”.

ثانيًا: نشر صواريخ توماهوك في ألمانيا

هذا دليل جديد على تدهور الأمن في أوروبا، فمنذ عام 1987 التزمت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق بمنع “إنتاج وتطوير ونشر” الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى في أوروبا، ووقعها الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان، والزعيم السوفيتي ميخائيل جورباتشوف، لكن الولايات المتحدة وروسيا انسحبتا منها عام 2019، والآن مع نشر صواريخ “توماهوك” في ألمانيا بداية من عام 2026، والاستعداد لنشر صواريخ فرط الصوت “قيد التطوير” فإن هذا يعد “نكوصًا أمنيًّا” وخطورة كبيرة على مستقبل أوروبا.

ثالثًا: تطوير صواريخ كروز أوروبية

لا تكتفي الولايات المتحدة بنشر الصواريخ الجديدة في ألمانيا، وربما في دول أخرى في المستقبل، مثل بولندا، وبلغاريا، ورومانيا، لكنها تدفع نحو تعزيز “آلة التصنيع العسكري الأوروبي” ضد روسيا، ومن هذه الخطوات دعم واشنطن للاتفاقية التي وقعتها كل من ألمانيا وإيطاليا وبولندا على هامش اجتماعات “الناتو” لتطوير صواريخ كروز تطلق من الأرض، ويزيد مداها على 500 كيلومتر؛ لسد ما يسميه البيت الأبيض “فجوة” في الترسانات الأوروبية، مع أن أوروبا بالفعل لديها كثير من تلك الصواريخ، مثل صواريخ ستورم شادو البريطانية، وسكالب الفرنسية، وتوروس الألمانية التي يصل مداها إلى نحو 500 كيلومتر، وهي صواريخ تتميز عن الصواريخ البالستية بأنها تُطلَق على ارتفاع منخفض، مما يجعل اكتشافها صعبًا على أجهزة الرادار، ووفق وثائق نشرها موقع المفوضية الأوروبية فإن حلف الناتو طلب أن يكون مدى الصاروخ الأوروبي الجديد ما بين 1000 و2000 كيلومتر، وهي فئة من الصواريخ كانت محرمة بموجب الاتفاقية التي وقعتها واشنطن وموسكو عام 1987.

رابعًا: تسليم طائرات “أف 16”

إعلان حلف “الناتو” تسليم كمية غير مسبوقة من طائرات “أف 16” الأمريكية المتعددة المهام هذا الصيف لأوكرانيا، يهدد بدخول الحرب الروسية الأوكرانية “مرحلة جديدة”، وقدمت أوكرانيا طلبات للحصول على 130 طائرة “أف 16” أمريكية ذات مهام متعددة، وتعهدت دول في “الناتو” بتسليم هذه الطائرات لأوكرانيا بداية من هذا الصيف، ومن هذه الدول هولندا والدنمارك والنرويج وبلجيكا، وتعهدت الدنمارك بتقديم نحو 19 طائرة لأوكرانيا، منها طائرات 8 هذا العام، و5 طائرات عام 2025؛ بهدف تعزيز الأسطول الأوكراني الذي كان يضم قبل الحرب نحو 98 طائرة مقاتلة نهاية عام 2021، وفقد غالبيتها في الحرب الروسية الأوكرانية.

 ناتو آسيوي

كل المؤشرات تقول إن الولايات المتحدة وحلفاءها في “الناتو” يستعدون لبناء تحالف عسكري آسيوي ضد الصين يكون “نسخة آسيوية” من “الناتو”، ولعل المقدمة الساخنة في حجم الاتهامات الغربية والأمريكية للصين ونوعيتها تؤشر على هذا الأمر عندما قالت دول “الناتو” إن “الطموح المعلن للصين، والسياسات القسرية، يستمران في تحدي مصالحنا وأمننا وقيمنا، وإن الصين لا يمكنها أن تدعم أكبر حرب في أوروبا في التاريخ الحديث، دون أن يؤثر ذلك سلبًا في مصالحها وسمعتها، وإن الشراكة الإستراتيجية العميقة بين روسيا والصين وجمهورية الصين الشعبية تقوض النظام الدولي القائم على القواعد”.

 لكن أكثر ما صدر من اتهامات للصين هو اتهام بيجين بأنها “عامل تمكين حاسم لروسيا في حربها على أوكرانيا؛ من خلال الشراكة بلا حدود بين بيجين وموسكو، ومن خلال الدعم الصيني الواسع النطاق للقاعدة الصناعية الدفاعية الروسي”.

 ويتضح من اجتماعات واشنطن أن حلف الناتو سوف يعمل على أكثر من مسار ضد الصين في الفترة المقبلة؛ بهدف الوصول في النهاية إلى بناء “ناتو آسيوي”، وهذه المسارات هي:

1- بناء تكتلات ضد الصين

وتجلى هذا بوضوح في الاجتماع الرباعي الذي ضم اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا على هامش اجتماعات “الناتو”، وكان القاسم الوحيد هو دفع هذه الدول لتأخذ مسارات سلبية تجاه العلاقة مع الصين. ومع أن هذه الدول الأربع ليست أعضاء في “الناتو” فإنها كانت موافقة تمامًا على ما جاء في البيان بشأن الصين، وهذه الاتهامات للصين صدرت بعد اجتماع الدول الآسيوية الأربع مع “الناتو”.

2- زيادة الانفاق العسكري الآسيوي

تدفع واشنطن حلفاءها الآسيويين إلى زيادة الإنفاق العسكري في الفترة المقبلة لتكون نحو 2 % من الناتج القومي لهذه الدول، على غرار النسبة المتفق عليها مع 32 دولة في حلف “الناتو”، وهناك دول آسيوبة وصلت بالفعل إلى هذه النسبة، منها اليابان، وأستراليا، وكوريا الجنوبية.

3- الاتفاقيات العسكرية الثنائية والثلاثية

 شهدت الآونة الأخيرة توقيع عدد من الاتفاقيات الدفاعية المشتركة بين أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية والفلبين وفيتنام وغيرها من دول جنوب آسيا وشرقها وجنوب شرقها، وبالتزامن مع هذه الخطوة وقعت الدول الآسيوية، مثل أستراليا واليابان، اتفاقيات عسكرية مع دول من حلف “الناتو”، مثل الولايات المتحدة، وبريطانيا.

الرد المزدوج على الاحتواء المزدوج

تكشف تفاصيل 40 لقاء جمع الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والصيني شي جين بينغ، منذ عام 2013، أن “الشراكة بلا حدود” بين بيجين وموسكو سوف تتعمق أكثر وأكثر خلال الفترة المقبلة، بعد أن تأكد للشعبين الروسي والصيني أنهما في “خندق واحد”، وأمام سياسة واحدة هدفها “الاحتواء المزدوج” للصين وروسيا، وأنه ليس أمام البلدين إلا “الرد المزدوج” على محاولات الغرب- بقيادة الولايات المتحدة- “للاحتواء المزدوج”.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع