تعزز المكاسب الكبيرة التي حصل عليها اليمين في انتخابات البرلمان الأوروبي من الصيحة الأوروبية الجديدة لبناء مسار جديد ومستقل، لا تكون فيه أوروبا “رهينة” لإشارة البيت الأبيض، فمن يدقق في برامج ونتائج أحزاب اليمين السياسي، أو اليمين الشعبوي، سوف يتأكد له سعي الناخب الأوروبي إلى التركيز على القضايا الوطنية والهوية الأوروبية، ويهدف إلى “التخارج” من “العلاقة الحصرية” مع الولايات المتحدة، التي تسببت في نكسات أوروبية سياسية، واقتصادية، وأمنية، فالدعاية الانتخابية الناجحة لأحزاب مثل البديل من أجل ألمانيا، وحزب “الجبهة الوطنية” الفرنسي، وحزب رابطة الشمال “الليجا” الإيطالي، وأحزاب الحرية في النمسا وهولندا، وحتى الأحزاب المنضوية تحت تحالف “الشعب الأوروبي”، وحزب “النهضة” الذي يتزعمه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كانت كلها تقول إن أوروبا تدفع “أثمانًا باهظة” لارتباطها بالأجندة الأمريكية، وأن الولايات المتحدة تراعي مصالحها فقط، دون مصالح الأوروبيين، وحان الوقت للسياسات الأوروبية أن تهتم بمصالحها، وتبني لنفسها “مسارًا مستقلًا” بعيدًا عن واشنطن، خاصة في القضايا التي تورط الأوروبيين دون أي عائد، ويكفي الاشارة هنا إلى أن برنامج “الجبهة الوطنية” بقيادة مارين لوبن، كان يؤكد أن تبني فرنسا الكامل للأجندة الأمريكية في الحرب الروسية الأوكرانية أضر بالمصالح الأوروبية والفرنسية، وأن الأوروبيين دفعوا نحو 700 مليار دولار فروق أسعار فقط للغاز بين أسعار الغاز الروسي الرخيص الذي كان يصل إلى كل بيت ومصنع في أوروبا، والغاز الأمريكي الباهظ الثمن، وهو ما يهدد مستقبل الصناعات الأوروبية.
وتشكل العلاقة بين أوروبا والصين “جوهر” التحول في المواقف الأوروبية الجديدة، فلم يعد طرح الأمين العام لحلف دول شمال الأطلسي (الناتو) مقبولًا في بناء نسحة آسيوية من “الناتو” لاستعداء الصين، وبناء أسوار عالية بين بيجين والعواصم الأوروبية، خاصة في ظل حصول اليمين الشعبوي على 25 % من مقاعد البرلمان الأوروبية، وهو ما يجعل هذه الأحزاب قريبة جدًّا من الاصطفاف مع “أحزاب يمين الوسط” فيما يتعلق بعلاقة أوروبا مع الصين.
وغالبية الأحزاب التي حققت مكاسب في انتخابات البرلمان الأوربي تؤيد “بناء مسار مستقل” للعلاقة الأوروبية مع الصين، بعيدًا عن التجاذبات والحسابات الأمريكية مع الصين، فما الدوافع التي تساعد “الأوروبيين الجدد” على تعميق التعاون الصيني الأوروبي بعيدًا عن “الوصاية الأمريكية”؟ وكيف يمكن للعلاقات الأوروبية الصينية أن تعمق السلام والاستقرار في العالم، وتخفض مستوى التوتر والعسكرة الذي ينتقل من إقليم إلى آخر برعاية حصرية من واشنطن؟
تصر الولايات المتحدة على تخريب العلاقات الأوروبية الصينية عندما دفعت إيطاليا إلى الانسحاب من مبادرة “الحزام والطريق” في 5 ديسمبر (كانون الأول) 2023، وإثارة قضايا تتهم الصين بالتجسس على الدول والشركات الأوروبية، ومطالبة هولندا وألمانيا وفرنسا بوقف التعاون مع الصين في تكنولوجيا “أشباه الموصلات”، وسبق لواشنطن أن أرغمت الدول الأوروبية على وقف تعاملاتها مع شركة “هاواوي” الصينية، ورغم كل ذلك يتذكر المواطن الأوروبي أن جزءًا رئيسًا من الرفاهية التي عاشتها المجتمعات الأوروبية في آخر 4 عقود كان بفضل الواردات الصينية الضخمة من البضائع الأوروبية؛ ولهذا فإن هناك عوامل مشتركة كثيرة تدفع ليس فقط إلى الحفاظ على العلاقات الصينية الأوروبية في مستوى متقدم من التعاون السياسي والاقتصادي؛ بل أن تشكل كل من أوروبا والصين معًا مرحلة جديدة تفضي إلى عالم متعدد الأقطاب، تكون فيه الصين وأوروبا أحد هذه الأقطاب، وبناء “عالم جديد وقواعد جديدة” تكون أكثر عدالة، من خلال تخفيض حالة التوتر والعسكرة، والانتقال إلى بيئة سياسية، واقتصادية، وأمنية جديدة، تكون حاضنة للسلام والاستقرار العالمي.
واليوم، باتت هناك أفكار أوروبية جريئة على غرار ضرورة تحقيق “السيادة الأوروبية والأمن الاقتصادي” حتى تكون أوروبا قادرة على “اختيار شركائها مثل الصين، وتحديد مصيرها بدلًا من أن تكون مجرد شاهد على التطورات الدراماتيكية لهذا العالم”، وهنا نتذكر مطالبة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن تكون أوروبا قادرة على “وضع القواعد، وليس تلقيها من الخارج”، وتقوم الحسابات المستقبلية الأوربية الصينية على مجموعة من المحفزات، هي:
أولًا: المصالح المشتركة
سجلت التجارة البينية بين أوروبا والصين في عام 2023 أكثر من 990 مليار دولار. وبعيدًا عن أهمية السوق الصينية الضخمة للمنتجات الأوروبية، فإن الصناعات الأوروبية باتت تعتمد على سلاسل الإمداد الصينية، وأي خلل في سهولة ويسر وصول المكونات الصينية، سوف تكون له آثار كارثية على الصناعات الأوروبية، لكن على الجانب الآخر، ما زال الأوروبيون يتذكرون رفض الرئيس الأمريكي جو بايدن تخفيض أسعار الغاز عندما وصلت أسعار الغار إلى أرقام قياسية في 2022 و2023، وهو ما هدد بنقل الصناعات الأوروبية إلى الولايات المتحدة، ففي الوقت الذي كانت واشنطن تبيع الغاز لأوروبا بأسعار قياسية، كان البيت الأبيض يقدم دعمًا غير مسبوق في أسعار الطاقة للمصانع الأمريكية.
ثانيًا: اعتمادية متبادلة
تضغط الولايات المتحدة لفك الارتباط بين الاقتصادين الصيني والأوروبي، من خلال ترويج سيناريو يقول إن اعتماد الأوروبيين على سلاسل الإمداد الصينية سوف يضر بمستقبل أوروبا على غرار اعتماد أوروبا على الغاز الروسي قبل 24 فبراير (شباط) 2022، لكن هناك من يطرح في أوروبا فكرة بديلة تقوم على “الاعتماد المتبادل” بين الصين وأوروبا، ويحقق مصالح الطرفين في ظل الموارد والإمكانات الضخمة التي لدى أوروبا والصين، فالناتج السنوي للاتحاد الأوروبي بلغ نحو 18 تريليون دولار عام 2022، وهو الناتج نفسه للصين، وهو ما يجعل العلاقات التجارية والاستثمارية مفيدة للجانبين.
ثالثًا: رفض أهداف الولايات المتحدة بشأن تايوان
لا يتشارك الأوروبيون مع الولايات المتحدة الأفكار نفسها عندما يتعلق الأمر بالقضية الحيوية للصين، وهي تايوان، وفي الوقت الذي تسلح فيه واشنطن جيران الصين، وترسل الوفود السياسية والعسكرية وجميع أشكال المساعدات العسكرية إلى تايوان، ترى أوروبا نفسها بعيدة تمامًا عن هذا النهج، وتشجع الصين على التقارب مع تايوان، وحل الخلاف بطريقة سلمية.
رابعًا: دبلوماسية القمة
الأوروبيون على عكس الولايات المتحدة، يتبادلون الزيارات عبر “دبلوماسية القمة”، وهو ما يخلق مساحة مشتركة بين أوروبا والصين، بخلاف الولايات المتحدة التي ترسل وزراءها إلى الصين، وفي اليوم نفسه تكون هناك تصريحات صادمة من البيت الأبيض ضد بيجين، ولعل جولة الرئيس الصيني شي جين بينغ التي بدأت في 5 مايو (أيار) الماضي، وشملت فرنسا وصربيا والمجر، خير دليل على قوة التواصل بين أوروبا والصين على مستوى الدبلوماسية. كما أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني أولاف شولتز، ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، زاروا الصين أكثر من مرة، وكانت زيارات ناجحة جدًّا على جميع المستويات السياسية، والاقتصادية.
خامسًا: انفتاح صيني على أوروبا
المتابع لمسار العلاقات الأوروبية الصينية في الشهور الأخيرة يقول إنها تمضي في طريق إيجابي جدًّا، بعيدًا عن قيود الولايات المتحدة، ويتجلى ذلك في سعي الصين مع أوروبا إلى المضي قدمًا في البناء على المكاسب المشتركة بين الطرفين، خاصة مع ألمانيا وفرنسا، ففي المجال الصناعي تبني الصين أكبر مصنع للبطاريات الكهربائية في المجر، كما أصبح التعاون بين فرنسا والصين في مجال السيارات الكهربائية نموذجًا للتعاون بين أوروبا والصين؛ لأن الخبرة الصينية في التكنولوجيا، مع خبرة الشركات الأوروبية، أدت إلى فوز الجانبين ببناء سلسلة من مصانع السيارات الكهربائية في أوروبا.
سادسًا: دعم السلام العالمي
تتشارك أوروبا والصين قيم دعم السلام والاستقرار العالمي، وسوف يسهم التعاون بين الصين وأوروبا بقوة في الحفاظ على السلام العالمي، فالصين معروف عنها أنها تلتزم بمبدأ “التعايش بين الثقافات المختلفة”، والوقوف على “مسافة واحدة” من الفرقاء الإقليميين، أو الدوليين؛ لأن مواقفها تقوم على النظر إلى طبيعة الخلافات وفق الحقائق والعدالة، وليس التحالفات والمواقف السياسية المسبقة.
رغم إصرار الرئيس الأمريكي على الفصل بين الصين وأوروبا، من خلال الادعاء بأن الأوروبيين ينتمون إلى “تحالف القيم الديمقراطية”، في حين لا تنتمي الصين إلى هذا العالم، فإن “الواقعية الأوروبية” لا تعتد كثيرًا بحسابات البيت الأبيض، وبدأ الأوروبيون يرسمون بمفردهم، وبعيدًا عن الولايات المتحدة، “طريق الاستقلال الإستراتيجي”، الذي يسمح لأوروبا بتحديد مصالحها بعيدًا عن الولايات المتحدة، وهو ما يعني أنه خلال فترة زمنية قصيرة قد نرى “فك الارتباط” في كثير من المجالات بين أوروبا والولايات المتحدة، وليس بين أوروبا والصين كما يسعى الرئيس الأمريكي جو بايدن. ويقوم فك الارتباط بين الولايات المتحدة وأوروبا على مجموعة من الأفكار لم تتبلور بعد، لكن كل المؤشرات تقول إن أوروبا ماضية ناحية “استقلالها” عن واشنطن. وتأخذ النوازع الأوروبية باتجاه فك الارتباط مع البيت الأبيض سلسلة من الخطوات، لعل أبرزها:
1- الاستقلالية العسكرية
تراهن الولايات المتحدة في ضغوطها على أوروبا لفك ارتباطها مع الصين بالدور الأمني الذي يقوم به نحو 100 ألف جندي أمريكي، بالإضافة إلى نشر واشنطن نحو 630 قنبلة نووية تكتيكية في العواصم الأوروبية، لكن أوروبا تستطيع أن تختار طريقها المستقل في علاقاتها مع الصين اعتمادًا على ما لديها من موارد وإمكانات عسكرية، منها رغبة فرنسا في إتاحة 300 سلاح من “الأسلحة النووية الفرنسية” لأوروبا بديلًا للأسلحة النووية الأمريكية والبريطانية، كما أن هناك كثيرًا من الأوروبيين يعتقدون أن الوقت قد حان للتفكير في الجيش الأوروبي، خاصة أن “قوة التدخل السريع الأوروبية” سوف ترى النور في مارس (آذار) 2025، وفي سبيل تحقيق ذلك تحتاج أوروبا أن تبني لنفسها “قوة ودرع دفاع جوي”، وتضع إستراتيجية للتعامل مع الجماعات الإرهابية والمتطرفة، التي يمكن أن تشكل خطرًا على الأمن الأوروبي في ظل الحديث أن هذه الجماعات يمكن أن تستخدم الطائرات المسيرة لمهاجمة الأولمبياد الصيفية التي سوف تُعقَد في فرنسا، فضلًا عن عمل الأوروبيين الدوؤب على وضع “درع سيبرانية أوروبية” لحماية المنشآت المدنية الحيوية من الهجمات السبرانية، مثل محطات إنتاج الطاقة النووية، أو شبكات الغاز والكهرباء.
2- رفض عسكرة الدولار
الشركات والاقتصاد الأوروبي أكثر الخاسرين من فرض الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية على بعض القطاعات الصينية. وتجبر الولايات المتحدة الشركات الأوروبية على الالتزام بهذه العقوبات، وهو ما أضعف في النهاية الشركات الأوروبية، ولهذا تعمل أوروبا على تحقيق “السيادة الاقتصادية” بعيدًا عن ضغوط واشنطن التي تصر على “عسكرة الاقتصاد الأوروبي”. ولا تشترط “السيادة الاقتصادية” الأوروبية قطيعة اقتصادية مع الصين، وكل شروط السيادة الاقتصادية تتعلق فقط باتخاذ القرارات التي تتفق مع مصالح المواطن الأوروبي، وليس وفقًا لرغبات واشنطن ومطالبها.
3- إستراتيجية اقتصادية جديدة
تعمل بيوت الافكار الأوروبية في فرنسا وألمانيا وهولندا على “صياغة إستراتيجية اقتصادية أوروبية”؛ حتى لا تُهمَّش أوروبا. وسبق للرئيس الفرنسي ماكرون أن قال إن أوروبا ليس عليها أن تغير نهجها الحالي المرتبط بواشنطن فحسب؛ بل عليها أيضًا قيادة العالم نحو المقاربة التي ترغب فيها. وتبدأ هذه القيادة الأوروبية عندما يشرع الأوروبيون في “فك الارتباط” مع الولايات المتحدة؛ لأن البقاء تحت الخيمة الأمريكية سوف يقود في النهاية إلى إضعاف أوروبا، بل قد يهدد وجودها ككيان واحدة متماسك، خاصة أن الاقتصاد الأوروبي يتراجع مقارنة بالاقتصاد الأمريكي، فضلًا عن أن وصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل قد يقود إلى فرض عقوبات اقتصادية على شركات السيارات الألمانية، والمزروعات الفرنسية.
الواضح للجميع أن الصين وأوروبا سوف تعملان معًا أكثر في الفترة المقبلة ليس فقط للنخب السياسية الجديدة التي تقترب من الحكم بعد انتخابات البرلمان الأوروبي؛ بل لأن المغانم التي تجمع بين الطرفين أكثر بكثير من المغارم التي تروج لها واشنطن.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.