تمهيد
بدا العالم في الفترة التي اصطُلِحَ على تسميتها بـ”الحرب الباردة”، أكثر قابلية للتوقع، مع وضوح قواه المتنافسة وأيديولوجياتها، في إطار الثنائية القطبية؛ قطب شرقي شيوعي بقيادة الاتحاد السوفيتي، وخلفه حلف وارسو، مقابل قطب غربي رأسمالي بقيادة الولايات المتحدة، وخلفه حلف الناتو. ومع الوقت، تشكلت قواعد اشتباك واضحة لكلا القطبين وحلفائه، وصولًا إلى لحظة إعلان الفشل النهائي لمشروع “البيريسترويكا” السوفيتي، أي “إعادة البناء” عام 1991، وما أنتجه من تفكك للاتحاد السوفيتي، وبدء مرحلة الأحادية القطبية الأمريكية، التي استمرت حتى حرب أفغانستان 2001، ثم غزو العراق 2003، وما أعقبه من تحولات عالمية كبرى، بلغت ذروتها في اللحظة الراهنة، ونتج عنها، عالم تسوده الفوضى من كل مكان. في ظل هذه الأوضاع، تعددت الأسئلة عن شكل النظام العالمي الجديد، ولا يخلو في القلب منها سؤالا “روسيا” و”الصين”؛ الأولى بوصفها قوة مستاءة تسعى إلى قلب هزيمتها الجيوسياسية، وتطالب علنًا بمواقع خاصة لنفوذها. والثانية لا تُخفي رغبتها في الحصول على مركز الزعامة الاقتصادية العالمية. يجادل كثير من الخبراء الأمريكيين بأن تحديد مستقبل هذه المنافسة الآخذة في التوسع، سيكون في منطقتي أوراسيا والمحيط الهادئ، معتبرين منطقة الشرق الأوسط قد باتت أقل أهمية مما كانت عليه في الحرب الباردة، مع ضرورة عدم إهدار الطاقة والموارد فيها، في حين يجادل فريق آخر بأن منطقة الشرق الأوسط كانت- وما زالت، وستظل- ذات أهمية خاصة في عملية تحديد موازين القوى العالمية. أما هذه الدراسة فتجادل بأنه لا تعارض بين كلتا النظريتين، ومن هذا المنطلق، تبرز أهمية فهم طبيعة العلاقة بين موسكو وبكين في الشرق الأوسط، وهل يمكن وصفها بالتكامل أم التنافس، وهو ما سيتم إلقاء الضوء عليه.
في كتابه “الصين.. من الإمبراطورية الوسطى إلى القوة العظمى في القرن الحادي والعشرين”، ذكر المؤرخ والدبلوماسي، والعميد الأسبق للأكاديمية الدبلوماسية التابعة لوزارة الخارجية الروسية، يفغيني باجانوف (Evgeny Bazhanov)، أن الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، قد تحدث في إحدى المرات إلى رفاقه، بأن قراءته للتاريخ الصيني شكلت الدافع الأساسي لانخراطه في العمل السياسي في أثناء شبابه، حيث شعر بالغضب والضيق الشديدين بسبب تراجع مكانة بلاده عما كانت عليه في ماضيها المجيد، ذاكرًا أن أراضي مثل “سيبيريا والشرق الأقصى الروسيين، وكثير من مناطق جنوب آسيا وجنوب شرقها، كانت يومًا ما أراضي صينية”، وأنه عزم منذ تلك اللحظة على “ضرورة استعادتها من جديد”[1]. في المقابل، مثّل الزعيم السوفيتي يوسف ستالين الوجه الأبرز لما تسمى “البلشفية القومية”، التي عززها بشعاره الشهير “الاشتراكية في بلدٍ واحد”، مقابل التوجه “الأممي” داخل الحزب الشيوعي السوفيتي، الذي كان يؤمن به لينين وتروتسكي. وقد وضح المؤرخ ميخائيل أغورسكي، في بحثه “أيديولوجية البلشفية الوطنية”[2]، وكذلك المؤرخ ديفيد براندنبرغر، في كتابه “البلشفية الوطنية.. الثقافة الجماهيرية الستالينية وتشكيل الهوية الوطنية الروسية الحديثة (1931-1956)”[3] طبيعة هذا الصراع، الذي انتصر فيه ستالين ورفاقه في النهاية؛ لذا لم يكن غريبًا أن يدرك سريعًا، بعد لقائه الأول مع ماو، أنه يشاطره الرؤى القومية نفسها، لكن بشعارات تبدو حداثية باسم الشيوعية، وهو ما أوضحه نيكولاي فيدورينكو (Nikolai Fedorenko)، مترجم ستالين الخاص، الذي ادعى أن الأخير وصف ماو، بعد اللقاء الذي جمعهما عام 1949، بأنه “مثل الفجل، أحمر من الخارج، ولكنه أبيض من الداخل”[4]، كناية عن كونه يبدو شيوعيًّا، لكنه في الواقع يُخفي مشاعر وطموحات قومية صينية.
كان ستالين يميل إلى صين ضعيفة منقسمة على نفسها في الداخل، ويراها أفضل من صين موحدة في قبضة حزب، ورجل واحد. ويعود ذلك إلى عدة أسباب؛ أولًا: فهمه لشخصية ماو القومية. ثانيًا: خشيته من تحول الصين ذات المليار نسمة في ذلك الوقت، إلى قطب شيوعي يقود البلدان الشيوعية الآسيوية، ويهيمن عليها تمامًا كما فعل ستالين مع بلدان الكتلة الشرقية في أوروبا. ثالثًا: لم يكن ماو طيّعًا في قبول إملاءات ستالين في أثناء الحربين العالمية الثانية والأهلية. أخيرًا: كانت شخصية ماو مجهولة لستالين، ولا تحظى بثقته، عكس الثوري الصيني وانغ مينغ (Wang Ming)، الذي يوصف بأنه صنيعته؛ ولذا كان يريده على قمة الحزب الشيوعي الصيني، لكن ماو ضيق عليه، وأبعده عن مركز القيادة[5].
تحت ضغط الجبهة الغربية، والمواجهة مع ألمانيا النازية، دعا ستالين القوميين في الكومينتانغ، والشيوعيين، إلى الوحدة، محتجًا بأن المواجهة مع اليابان تمثل الأولوية، وأن طبقة البروليتاريا ما زالت ضعيفة وغير مؤهلة لحكم الصين. كما أنه عقد عدة اتفاقيات مع الزعيم القومي الصيني تشانغ كاي شيك، واعتقد أن حكومة ائتلافية بين الطرفين ستؤدي إلى صين منقسمة داخليًّا، وضعيفة خارجيًّا، وللاتحاد السوفيتي قدرة على التدخل في شؤونها وتطويعها، لكن الانتصارات التي حققها الشيوعيون على الأرض أدت في نهاية المطاف إلى خضوع الزعيم السوفيتي للأمر الواقع، واستقباله ماو عام 1949، وتوقيع معاهدة الصداقة السوفيتية-الصينية، وفقدان كثير من المزايا التي حصل عليها سابقًا من الكومينتانغ، لكنه نجح في الحصول على اعتراف من ماو باستقلال منغوليا، التي كانت تطالب الصين بضمها، ومناداة ماو- علنًا- ستالين بأنه “معلمه” الأكبر، وجعله الشخصية الرئيسة في الملصقات الدعائية، وأدبيات الحزب الشيوعي الصيني، بعد ماركس، وإنجلز، ولينين[6].
بعد وفاة ستالين، عام 1953، رأى ماو أنه الأجدر بقيادة الحركة الشيوعية العالمية، أو على أقل تقدير مساوٍ للاتحاد السوفيتي، ولم يعد “الأخ الأصغر”. وقد رسخ هذا الوضع في الاتفاقية السوفيتية- الصينية لعام 1954، مع نيكيتا خوروشوف، قبيل مؤتمر جنيف من العام نفسه، الذي ناقش تسوية القضايا العالقة من جراء الحرب الكورية، وحرب الهند الصينية الأولى، التي بموجبها أقر الاتحاد السوفيتي بـ”حق” بكين في السيطرة على مجالها الحيوي في آسيا، على أن يكون بقية العالم الشيوعي تحت هيمنة موسكو[7].
في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي عام 1956، تفجر الخلاف علنًا، بعد إدانة خوروشوف للستالينية، والبدء بتحطيمها، ودعوته إلى التعايش السلمي مع الغرب. ربما كانت هذه الأسباب مجرد قشرة خارجية لطبيعة العلاقة بين الطرفين التي سادها الشك والريبة منذ البداية، وفرضتها حاجة كل طرف إلى الآخر. كما أن ماو خشي من انقلاب رفاقه عليه، كما حدث في الاتحاد السوفيتي تجاه ستالين[8]. كذلك أراد ماو الحصول على التكنولوجيا النووية من السوفيت، والمبالغة في مطالبه الاقتصادية، واستخدم أسلوب الهجوم على سياسات خوروشوف، وصولًا إلى الهجمات الحدودية، وسيلة للابتزاز. على سبيل المثال، في عام 1963، سُجِّلَ أكثر من أربعة آلاف انتهاك حدودي، شارك فيها أكثر من مئة ألف مدني وعسكري صيني. وكانت ذروة هذه الاشتباكات الحدودية وأكثرها دموية الصراع على جزيرة دامانسكي (نهر أوسوري). خلال القتال، الذي استمر من 2 إلى 15 مارس (آذار) 1969، قُتل 58 جنديًّا سوفييتيًّا[9].
فكريًّا، ظهرت مجموعة مقالات حملت عنوان “تحيا اللينينية”، حيث اشتدت حملة الصحف الصينية في إدانة سياسات الاتحاد السوفيتي علنًا، مدعية أنها تمثل “تحريفًا” للقيم الشيوعية، التي باتت الصين وحدها هي من تمثل حقيقيها، ومعها بدأت تظهر للعلن التيارات الماوية في الستينيات، بوصفها تجسيدًا حيًّا لهذا الانشقاق.
على عكس المتصور، لم يكن للاتحاد السوفيتي أي دور في إدخال الصين منطقة الشرق الأوسط، حيث كان يناضل لنيل اعتراف البلدان العربية، التي كانت واقعة آنذاك تحت الاحتلال أو التأثير السياسي المباشر لبريطانيا وفرنسا، وخشية الأنظمة الملكية والتقليدية من الشيوعية. على الجانب الآخر، اعترفت الأنظمة العربية آنذاك بحكومة جمهورية الصين في تايوان، تحت قيادة حزب الكومينتانغ القومي. أصبحت مصر أول دولة عربية وإفريقية تعترف بالحكومة الشيوعية المسيطرة على البر الصيني، تحت اسم جمهورية الصين الشعبية، عام 1956[10]، نتيجة موقف بكين الداعم للزعيم المصري جمال عبد الناصر في أزمة السويس 1956، ويعود إليه الدور الأكبر في توسيع رقعة الدول العربية والإفريقية التي اعترفت بحكومة بكين، وسحبت اعترافها من حكومة تايبيه.
يعود الفضل إلى الصين في إدخال الاتحاد السوفيتي على نحو أكثر فاعلية في قضايا الشرق الأوسط، من خلال الوساطة التي قام بها رئيس الوزراء الصيني تشوان لاي بين القاهرة وموسكو، عندما طلب جمال عبد الناصر من الصين، في أثناء مؤتمر باندونغ 1955، تقديم معدات عسكرية لمواجهة الضربات الإسرائيلية على غزة، التي كانت واقعة تحت الحكم العسكري المصري منذ الحرب العربية- الإسرائيلية عام 1948، ورد لاي بأن الصين ما زالت تعتمد على الاتحاد السوفيتي في تسليحها، وأنه يقترح التوسط لدى السوفيت لتقديم الدعم العسكري لمصر[11]، وهو ما حدث بالفعل، وأدى إلى إتمام صفقة الأسلحة التشيكية، التي مثلت أول تعاون عسكري مصري- سوفيتي، فتح المجال للنفوذ السوفيتي في مصر والشرق الأوسط وإفريقيا[12].
بحسب الأمين العامة للجمعية الصينية لدراسات الشرق الأوسط، البروفيسور زياودونغ شانغ (Xiaodong Zhang)، “لم يكن للصين اهتمام كبير بالشرق الأوسط، وحتى عام 1985، بلغ إجمالي صادرات الصين إلى دول الشرق الأوسط مجتمعة 1.7 مليار دولار فقط”، في حين لم يكن للأحزاب الشيوعية الماوية وجود بارز في المنطقة. ثم يضيف: “لم يكن لدى الصين موارد مالية أو امتيازات قادرة على تقديمها، باستثناء بعض الأسلحة الخفيفة للحركات اليسارية الفلسطينية، وبعض المنح الدراسية، والعمالة، والخبراء”[13].
ظلت الصين طيلة حكم ماو في حالة صراع داخلي، فترة “القفزة العظيمة إلى الأمام”، ثم “الثورة الثقافية”، وكان اهتمامها منصبًا على جوارها الإقليمي، في الحرب الكورية، والحرب الفيتنامية، والصراع مع الاتحاد السوفيتي وفي كمبوديا، في حين ركزت في حقبة دنغ شياوبنغ على البناء الاقتصادي الداخلي، والتوسع في صادراتها الخارجية، ولم يكن لها تأثير في السياسة الشرق أوسطية، ولا أتباع أيديولوجيون يمكنها الاعتماد عليهم؛ وعليه، لم تحدث مواجهة أو تنافس بين بكين وموسكو في الشرق الأوسط، وانحصرت مواجهتهما على حدود البلدين، وفي منطقة آسيا. وحتى عندما اصطفت الصين إلى جوار الولايات المتحدة في مواجهة السوفيت، كانت أفغانستان الساحة التي دعمت فيها بكين المقاتلين المناهضين للوجود السوفيتي[14]، في حين لم تتدخل في مناطق أخرى من الشرق الأوسط.
عادت العلاقات السوفيتية- الصينية إلى الدفء في مرحلة الزعيم السوفيتي الأخير ميخائيل غورباتشوف، حيث تخلت الصين عن أيديولوجية ماو، وضعف الاتحاد السوفيتي كثيرًا، ولم يعد يشكل خطرًا على الصين. بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وقيام الاتحاد الروسي، سعت بكين إلى توثيق علاقتها مع موسكو؛ لضمان أمن المنطقة الأوراسية، وعدم نزوعها إلى الفوضى. كما أنها لم تكن ترغب في انحدار روسيا، مما يضعف موقعها على الساحة الدولية من خلال فقدان التوازن الذي يمكن أن تشكله روسيا مقابل الغرب، ويحملها أعباء أمنية تشغلها عن تنميتها الاقتصادية؛ ولأجل ذلك تأسست منظمة شنغهاي للتعاون (SCO) عام 2001، التي ضمت إلى جانبها، روسيا وبلدان آسيا الوسطى السوفيتية السابقة.
أزمة الحدود المزمنة بين البلدين، تم حلها بعد توقيع اتفاقية 2004، والمصادقة عليها عام 2005[15]، وشارك كلا البلدين في تأسيس مجموعة بريكس (BRIC)، عام 2009؛ لإعلان مطالبهما، بجانب الأعضاء الآخرين، في مركز متقدم في النظام العالمي الجديد ما بعد الحرب الباردة.
بعد صعود شين جين بينغ لرئاسة الصين عام 2013، وإطلاق مبادرة الحزام والطريق، نشأت كيمياء خاصة بين كلا الزعيمين، أدت إلى مزيد من التفاهمات. في الأنظمة القيادية التي لا تعتمد كثيرًا على المؤسسات، كما هي الحال في روسيا والصين، تضطلع العلاقات الشخصية بين الزعماء بدور مهم في تطوير العلاقات.
تأسس ما يمكن تسميته معادلة بوتين- بينغ، على عدة مبادئ عامة بين الطرفين، يمكن ملاحظتها من خلال سياساتهما وبياناتهما المشتركة:
وفق هذه المبادئ، تم تدعيم العلاقات الروسية- الصينية، وجمع كلا الطرفين هدف واحد مشترك؛ هو التوصل إلى صيغة جديدة لشكل النظام العالمي، تضمن مشاركتهما فيه بالحصص العادلة المتصورة لكل طرف، دون السعي إلى هدم هذا النظام، أو استبدال نظام جديد به؛ لكونهما مستفيدين منه. باختصار، اتفاقية يالطا جديدة تضم الولايات المتحدة، والاتحاد الروسي، والصين، بديلًا عن المملكة المتحدة.
فقدت روسيا هيبتها في الشرق الأوسط، بعد حرب 5 يونيو (حزيران) 1967، عندما انتصرت إسرائيل على حليفتيها مصر وسوريا، ثم تلقت ضربة قاصمة بعد فك الرئيس المصري السابق السادات علاقة الارتباط مع موسكو، وتوقيع معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية عام 1979 بوساطة أمريكية، ثم جاء تفكيك الاتحاد السوفيتي ليُنهي النفوذ الروسي من المنطقة تمامًا.
تنظر روسيا اليوم إلى وضعها في الشرق الأوسط من خلال هذا المنظور، كنا خارج المعادلة تمامًا، ولا وجود لنا سوى ذلك الوجود الهامشي في سوريا، ممثلًا في قاعدة طرطوس البحرية، في حين تعزز هذا الوجود اليوم من خلال عدة قواعد بحرية وجوية، والانخراط على نحو مباشر في الحرب الأهلية السورية، مع ما رافق هذا التدخل من دعاية قوية عن وفاء موسكو لحلفائها، عكس واشنطن، وهو ما وجد صدى عربيًّا قويًّا بعد أحداث “الربيع العربي”، في ظل ما بدا تخليًا أمريكيًّا عن حسني مبارك، أقرب حلفائها، وما شكله من صدمة لأنظمة الخليج العربية. كذلك نسجت موسكو- لأول مرة- علاقات وثيقة مع بلدان الخليج العربية، في المقام الأول السعودية، من خلال التنسيق المشترك لضبط أسواق النفط، من خلال آلية “أوبك بلس” التي أثبتت نجاحها، والتوافق على عدد من الملفات السياسية، وكذلك الإمارات، التي تشهد العلاقة معها تناميًا غير مسبوق في التجارة والاستثمارات، وباتت ملاذًا آمنًا لأقطاب الأوليغارشية الروسية، الهاربين من العقوبات الغربية. يوجد أيضًا تنسيق عالي المستوى مع قطر، في عدم تعدي أي طرف على حصة الطرف الآخر في أسواق صادراته التقليدية للغاز، إلى جانب عودة لأول مرة منذ السبعينيات لتزويد الجيش المصري بالأسلحة، ومشروعات اقتصادية في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، وبناء أول مفاعل نووي مصري في الضبعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
في المجمل، علاقات روسيا الآن في الشرق الأوسط أفضل بكثير مما كانت عليه زمن الاتحاد السوفيتي، ولا تعاني تناقضات أيديولوجية. حتى مع إسرائيل، شهدت العلاقة تقدمًا على المحاور كافة، رغم ما اعتراها من شد وجذب، بعد الحرب الروسية- الأوكرانية.
في المقابل، تحولت الصين إلى شريك تجاري رئيس لجميع الدول العربية، وتفوقت على الولايات المتحدة اقتصاديًّا في منطقة نفوذها التقليدي بالخليج، وأصبحت أكبر مشترٍ للنفط العربي، كما أنها ترتبط بعلاقات جيدة مع جميع الأطراف المتنافرة أو المتصارعة؛ الفلسطينيين والإسرائيليين، والسعودية وإيران، وصولًا إلى وساطتها التي بموجبها استؤنِفَت العلاقات السعودية- الإيرانية لأول مرة منذ قطعها عام 2016.
فعليًّا، لا وجود لمنافسة جادة بين موسكو وبكين في الشرق الأوسط، حيث تختلف أولويات كل طرف عن الآخر. تركز روسيا على العلاقات العسكرية التقنية، وضمان وجودها العسكري في سوريا، وتنظيم أسواق الطاقة مع دول الخليج العربية والجزائر، والحصول على الدعم العربي، أو حياد إيجابي تجاه صراعها مع الغرب، وفك العزلة التي فرضها الغرب عليها بعد ما تسمى “العملية العسكرية الخاصة”، في حين تركز بكين على الاقتصاد، وأمن الممرات المائية، وتدفق النفط، ومشروعات البنية التحتية، وتنفيذ مبادرتها الطموحة “الحزام والطريق”.
عند سؤال الباحث والدبلوماسي العراقي، باهر مردان، أحد أبرز مهندسي تطور العلاقات الصينية- العراقية، عن رؤيته للعلاقات الصينية- الروسية في الشرق الأوسط عامة، والعراق على وجه الخصوص، أجاب بأنها “علاقات قائمة على التحالف الخفي، وبالعلن ترتكز على أساس التعاون والشراكة الإستراتيجية، وقائمة على التكامل ]روسيا رأس الرمح ، والصين مقبضه[؛ بغية تغيير قواعد اللعبة، وإنشاء نظام دولي متعدد الأقطاب”. أما أوجه الاختلاف- لا الخلاف- بين الطرفين في قضايا الشرق الأوسط، فقال: “نرى أنه هنالك اختلافًا في التوجهات والإستراتيجيات؛ فموسكو لديها الخبرة التاريخية، والأدوات الإستراتيجية التي تمكنها من أداء دور فاعل ومتعدد، في حين لا تمتلك بكين الخبرة التاريخية مع هذه المنطقة المعقدة والحساسة بنظرها، إذ امتلكت القوة الناعمة المتمثلة في المفاتيح الاقتصادية، التي مكنتها من تحقيق النفوذ والتأثير، ولا تسعى إلى ملء الفراغ في المرحلة الراهنة”. لكن بحسبه، وعلى الرغم من الاختلاف في التوجهات، “فإن التفاهم الروسي- الصيني يمكن أن يحقق مبدأ توازن الأدوار عالميًّا، وفي الشرق الأوسط بخاصة فوق أطلال القطب الأوحد”، حسب وصفه.
هناك رؤية أخرى تخص موقف الجانبين تجاه القضية السورية، والجهود الروسية لإدخال الصين إلى الساحة السورية، فقد أجاب البروفيسور الروسي- الإسرائيلي، أرتيوم كيربيتشينوك، الأستاذ في جامعة سانت بطرسبورغ الحكومية، عن هذا السؤال بالقول: “تحاول روسيا منذ أكثر من 10 سنوات إشراك الصين في مشروعات إعادة إعمار سوريا، أولاً وقبل كل شيء في قطاع النفط، حيث كانت الصين قبل بدء الحرب الأهلية واحدة من أكبر المستثمرين في أعمال النفط السورية. كما بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين عام 2010، قبل الحرب الأهلية، ما يقارب 2.48 مليار دولار، وعملت نحو 30 شركة صينية في سوريا، واحتلت الصين المرتبة الأولى بين الشركاء التجاريين لسورية بنسبة تصل إلى 6.9 من إجمالي التجارة السورية”. لكنه أرجع الإحجام الصيني عن الدعوة الروسية إلى رغبة الصين أولًا “في رؤية الاستقرار في المنطقة، وعلى وجه الخصوص، التوصل إلى سلام مع إسرائيل، كما أنها كانت تراعي أيضًا علاقاتها ذات الأولوية مع السعودية وقطر، وبقية بلدان الخليج العربية، التي لم تكن منفتحة مثل الآن على نظام الأسد”.
تبدو العلاقة الروسية- الصينية مع إيران تنطوي على عدة إشكاليات؛ فمن ناحية، لدى كلا البلدين مصالح وحرص مشترك على تكوين أفضل العلاقات مع بلدان الخليج العربية، وعدم إظهار أنفسهما في إطار الداعم لطرف معادٍ لإسرائيل. كما أن إيران تشكل أهمية اقتصادية وجيوسياسية لكلا البلدين.
تم حل هذه الإشكالية من خلال عملية تكاملية بين الطرفين؛ من ناحية، تمثل بكين الرئة الاقتصادية التي تمنح طهران قدرة على التنفس لتظل على قيد الحياة في ظل العقوبات الغربية القاسية، في حين تمثل موسكو الداعم العسكري التقني، والسند الدبلوماسي لطهران في المؤسسات والهيئات الدولية.
موسكو، التي لا تمتلك قدرات اقتصادية تمكنها من تقديم العون لطهران، تفضل نفوذ بكين الاقتصادي على النفوذ الغربي، وهو ما أسهم فيه على نحو ربما يكون غير مقصود، دونالد ترمب، بعد انسحابه الأحادي من “خطة العمل الشاملة المشتركة”، التي كانت مزعجة لبكين وموسكو؛ لأنها فتحت السوق الإيرانية على الاستثمارات الغربية. في إجابة عن سؤال خاص للبروفيسور الروسي ليونيد سافين، نائب رئيس الحركة الأوراسية الدولية، والدائم التردد إلى طهران، قال: “تتعاون روسيا وإيران بنجاح كبير في عدد من المجالات، وقد قطعتا شوطًا طويلًا مقارنة بما كانتا عليه قبل 10 سنوات”. أما فيما يخص العلاقات الصينية- الإيرانية، فقال: “يمكن قول الشيء نفسه عن الصين. لديها مستوى عالٍ من الشراكة، والجانبان على استعداد لتعزيزها وتطويرها”. أما ما يخص تقاطع مصالح روسيا والصين في إيران، فقد أكد أنه لا يرى أي سبب للقلق أو التناقض، “خاصة أن إيران تخطط للانضمام إلى الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وهي بالفعل عضو في منظمة شنغهاي للتعاون، ومجموعة بريكس”. وفيما يخص القلق من تنامي النفوذ الاقتصادي الصيني في إيران، رد بأنه “على العكس من ذلك، الوجود المتنامي للصين من الممكن أن يحفز روسيا على تكثيف أنشطتها، وتطوير المشروعات الثلاثية، وهو أمر بالغ الأهمية لتعزيز التعددية القطبية”.
بناءً على ما سبق، وعند إلقاء نظرة فاحصة على الخريطة، وهو أمر لا غنى عنه لفهم السياسة الدولية، تبدو نظرية التوجه نحو أوراسيا والمحيط الهادئ صحيحة تمامًا، وتؤكد ما سبق أن تنبأ به مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق زبغنيو بريجينسكي، في كتابه الشهير “رقعة الشطرنج الكبرى”، بأن “أوراسيا قلب العالم، ومركز الصراع الجديد ما بعد الحرب الباردة”. كما أن فشل مشروع إدماج الصين في المنظومة الليبرالية الغربية، مع تنامي قدراتها الاقتصادية، يفرض على الولايات المتحدة، المعادلة نفسها في منطقة المحيط الهادئ. لكن هذه المعادلات الجديدة لا تُخرج الشرق الأوسط من دائرة الأهمية كما يظن البعض؛ بل ترسخ مكانته؛ وذلك لأنه يمثل في هذا الصراع بيضة القبان في منح التفوق لطرف على حساب الآخر.
تعتقد موسكو أن نهضتها الاقتصادية، وتحقيق الرفاهية لشعبها، مجرد قرار؛ نظرًا إلى توافر جميع المقومات التي تمكنها من أن تصبح دولة غنية؛ لما تمتلكه من موارد طبيعية لا متناهية، لكن هذه النهضة المنتظرة لا يمكن تحقيقها بالجهود الذاتية الروسية فقط؛ نتيجة حاجتها إلى رأس المال والتكنولوجيا الغربية، لكن انفتاحها على الغرب مشروط بقلب هزيمتها الجيوسياسية، وحل هذه المهمة- أولًا وقبل كل شيء- يكمن في استعادة نفوذها التقليدي في المجال ما بعد السوفيتي، وفي القلب منه أوكرانيا، وإلا فإنها ستعجز مستقبلًا، حتى لو أصبحت قوة اقتصادية كبرى، عن فرض شروطها، وستصبح رهينة لرأس المال الغربي، وهو الخطأ الذي وقعت فيه الصين بحسب تلك النظرية الروسية المهيمنة؛ وعليه تكمن المهمة الأولى للروس في فرض شروطهم لضمان استقلال قرارهم؛ ومن ثم التعاون مع الغرب والانفتاح عليه من مركز قوة، وقد عبر بوضوح عن هذه الرؤية، المؤرخ الروسي أندري فورسوف (Andrey Fursov)، في مقال مطول له تحت عنوان “عن صعود الإمبراطورية السماوية وهبوطها”[16]، ردًا على الأصوات الروسية التي تطالب بتبني نهج دنغ شياوبنغ في روسيا.
في المقابل، تبني الصين سلاسل توريدها الخاصة، وتربطها بالمركز في بكين، عن طريق مبادرة “الحزام والطريق”، مع تنمية غير مسبوقة للمشاعر القومية الصينية، وقد تناولت هذا الموضوع بمزيد من الشرح والتوضيح الباحثة المتخصصة في العلاقات الأمريكية- الصينية، جيسيكا تشن فايس (Jessica Chen Weiss)، في مقالها “الذاكرة التاريخية الجديدة تعيد تشكيل القومية الصينية”[17]، وتهدف هذه السياسة إلى ترسيخ شعور بالعظمة القومية لدى المجتمع الصيني، وتعبئته داخليًّا لدعم مطالب القيادة الصينية باستعادة أمجاد الماضي في مناطق نفوذها التقليدية.
في ظل هذا الوضع، لا يمكن لروسيا أن تضمن تحقيق مطالبها الجيوسياسية، دون علاقة جيدة مع بلدان الخليج العربية والجزائر؛ لضمان استقرار أسواق الطاقة، حيث تمثل المورد الاقتصادي الأهم لها، وتحييد بقية دول الشرق الأوسط، وربطها بمصالح معها، كما هي الحال مع تركيا، وإيران، ومصر، وإسرائيل، واستمرار نفوذها على سوريا؛ فبدون قاعدة طرطوس البحرية، يصبح أسطول البحر الأسود الروسي في بحر آزوف وسيفاستوبول محدود القدرة، وغير قادر على مواجهة الأسطول الأمريكي السادس في البحر الأبيض المتوسط، ولا التوسع باتجاه البحر الأحمر، وإفريقيا، أو الوصول إلى المحيط الأطلسي، وأمريكا اللاتينية.
ما زال الدين يضطلع بدور حيوي في روسيا، والأديان الثلاثة الكبرى (الأرثوذكسية، والإسلام، واليهودية)، مراكزها في الشرق الأوسط، وللمنطقة تأثير مباشر في السياسات والمشروعات الروسية. بدون مزيد من النفوذ الروسي على الكنائس الأرثوذكسية الشرقية، لا يمكنها المطالبة بأن تكون مركز الأرثوذكسية العالمي بدلًا من بطريركية القسطنطينية المسكونية، وإيقاف عملية فك الارتباط مع بطريركية موسكو وعموم بلاد الروس التي بدأت من أوكرانيا، بعد منح بطريركية القسطنطينية قرار استقلالها في يناير (كانون الثاني) 2019. كذلك الأمر للإسلام، الذي يشكل أكثر من 20 % من تعداد سكان روسيا، ويشهد تناميًا ملحوظًا في أعداد أفراده؛ نتيجة حفاظ المجتمع الروسي المسلم على جوانب الحياة التقليدية، وزيادة نسبة المواليد أكثر من المجتمع السلافي، مع تنامي الهجرة من بلدان آسيا الوسطى ذات الأغلبية المسلمة، ووجود المسلمين كأغلبية في جمهوريات فيدرالية ذات ثقل في منطقتي الفولغا وشمال القوقاز، والعدد الضخم للمسلمين في الجوار القريب لروسيا في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، وهو ما يفرض عليها مراقبة ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط، ونسج علاقات جيدة مع دول المنطقة، والتعاون معها في مواجهة الحركات الإرهابية، والأفكار الإسلاموية، أو النزعات الانفصالية. كذلك، يوجد في روسيا جالية يهودية مؤثرة، وداخل إسرائيل، يمثل اليهود ذوو الأصول الروسية الكتلة الأكبر داخل المجتمع.
الصين بحاجة إلى موارد الطاقة التي توفرها إيران ودول الخليج العربية، وكذلك الأسواق الضخمة لهذه المنطقة التي يزيد تعداد سكانها على نصف المليار، أغلبيتهم من الشباب، مع خشيتها من تنامي المشاعر الانفصالية في إقليم شينجيانغ، ذي الأغلبية المسلمة. ومن دون علاقات قوية مع دول الشرق الأوسط، لا يمكن لمبادرتها الطموحة “الحزام والطريق” أن ترى النور.
تقرض كل هذه الأوضاع وغيرها أهمية خاصة لبلدان الشرق الأوسط، وهو ما أدركته جيدًا روسيا والصين، اللتان تخليتا عن أي معايير أيديولوجية في علاقاتهما مع دول المنطقة، وتتعاملان مع بلدانها وفق المصالح البراغماتية، ولديهما علاقات وحوار مع الأطراف كافة، في حين تعاني السياسة الأمريكية من التردد، وغلبة الأيديولوجية على خطاب السياسة الواقعية، وفشلها في إتمام مشروع التسوية الشاملة بين العرب وإسرائيل، وقيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود ما قبل 5 يونيو (حزيران) 1967. فعليًّا، لم تتمكن واشنطن من اجتذاب الشعوب العربية إلى جانبها، من خلال خطاب حقوق الإنسان والديمقراطية، نتيجة عدم قدرتها على تطبيق مشروعها “للإصلاح السياسي” في المنطقة، وتغليب مصالحها في نهاية المطاف على ما ادعت أنه قيمها، مع فقدانها ثقة الأنظمة العربية، التي لم تعد قادرة على التفاعل معها نتيجة هذا الارتباك في خطابها وانعكاسه على سياساتها. كما لم تتمكن من الانسحاب الناعم، وتورطت في الحرب الأخيرة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، ولم تؤسس واقعًا يضمن الاستقرار، ويبدو أنها الطرف الخاسر الذي لم يتمكن من إرضاء أي طرف نتيجة هذه السياسات المتخبطة.
مرت العلاقة الروسية- الصينية بمراحل تاريخية متعددة، شهدت فيها صعودًا وهبوطًا، وصولًا إلى الصيغة الحالية بين البلدين، التي يمكن وصفها بأنها “أقل من تحالف، وأكبر من تعاون”.
لا تمتلك موسكو وبكين أي رؤى لنظام عالمي جديد خلافًا للحالي، ولا يوجد لديهما رغبة في هدمه؛ بل يريدان تغيير قواعده بما يسمح لهما بأن يكونا شريكين في هذا النظام وفقًا لمعادلة تبدو “عادلة” من وجهة نظرهما، قائمة على منحهما الحق الكامل في الهيمنة على مناطق نفوذهما التقليدية، وعدم تعدي أي طرف على مصالح الطرف الآخر، وتعهد كل طرف بتأمين مصالح الطرف الآخر في المناطق الخاضعة لنفوذه، وعلى أساس هذه المعادلة يمكنهما أن يكونا شريكين متعاونين في النظام الدولي بجوار الولايات المتحدة، مع الإقرار بتفوق واشنطن، أي “واشنطن الزعيم العالمي الأكبر وليس الوحيد، بجانب زعماء آخرين، وإن كانوا أقل مرتبة”.
تتكامل السياسة الروسية مع نظريتها الصينية لتحقيق هذه المعادلة، ولا وجه للخلاف الجاد بينهما أو التنافس؛ لذا تبدو العلاقة بينهما تكاملية في العموم، وفي الشرق الأوسط على وجه الخصوص.
لا ينفي التكامل بين موسكو وبكين وجود خلافات بينها في كثير من النقاط. على سبيل المثال، يصف المؤرخ الروسي أندري فورسوف العلاقة مع الصين الآن بأنها “حليف تكتيكي لروسيا في حالتها ووضعها الراهن. لكن من حيث المبدأ، أي دولة كبرى مثل الصين وعلى حدودنا، تشكل تهديدًا، لا سيّما أن لديها هذا العدد الضخم من السكان، مع وجود فائض من الذكور، الذين يعانون مشكلات اقتصادية، ويحيطون بالحدود مع روسيا التي يبلغ طولها (4200) كم، والتي تعاني ضعفًا سكانيًّا”. ويضيف أن على موسكو أن تعمل مع بكين على أساس الحكمة الثابتة “نحن شعب مسالم، لكن قطارنا المدرع يقف على جانب الطريق”[18]. في المقابل، لا تنسى الذاكرة الصينية أن روسيا لا تختلف كثيرًا عن الغرب في مشاركتها في حقبة إذلال الصين، بل أسوأ، لكونها استحوذت على أراضٍ صينية، شكلت “كارثة وطنية للبلاد”، على حد تعبير الأكاديمي في جامعة بكين، يوان غانغ (Yuan Gang)[19]، كما يثير الخطاب الروسي المحافظ، والنزعة التي يصفها كثير من الأكاديميين الصينيين بـ”الإمبراطورية”، مخاوفهم بشأن مستقبل العلاقة مع موسكو، ولعل أبرز من قدّم نقدًا واضحًا للخطاب الروسي، الأستاذ ونائب عميد معهد الدراسات الدولية بجامعة فودان، ومدير مركز الدراسات الروسية وآسيا الوسطى بجامعة فودان، فينغ يوجون (Feng Yujun)[20].
ستظل العلاقات الروسية- الصينية تحكمها التفاهمات، وقائمة على سياسة التكامل في الشرق الأوسط، في ظل الهدف المشترك المتمثل في تغيير موزين القوى في النظام العالمي الحالي، ربما يحدث التغيير، وتتحول العلاقة إلى الإطار التنافسي، وربما حتى الصدام، فيما بعد، حال تحقق هذا الهدف. في المقابل، خسرت الولايات المتحدة الشعوب، ولم تكسب الأنظمة، وسط افتقارها إستراتيجية واضحة، وتحول السياسة الخارجية إلى مادة للجدل والصراع الانتخابي الداخلي، وفشلها في إيجاد حل نهائي للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وعدم قدرتها على التواصل مع جميع الأطراف المتنافسة والمتنازعة في المنطقة، وهي كلها ثغرات تمنح موسكو وبكين مساحات أكبر للتمدد في الشرق الأوسط، وشعبية وسط الشعوب وجيل الشباب، خاصةً بعد حرب إسرائيل على قطاع غزة.
في ظل حالة الارتباط الواضحة للخطاب والسياسات الأمريكية، لا يبدو أن قادة بلدان الشرق الأوسط مستعدون للدخول في لعبة الاستقطابات التي ميزت حقبة الحرب الباردة، وسيظلون محافظين على علاقات جيدة مع الجميع. ربما إذا حدث تغير إستراتيجي في السياسات الأمريكية؛ يمكن حينئذٍ أن تعيد كثير من بلدان المنطقة النظر في هذه السياسة، وتقرر الانحياز إلى الجانب الأمريكي، الذي يظل مفضلًا لدى بعضهم إذا التزم بقواعد التعاون السابقة، في ظل الضعف العسكري للصين، والاقتصادي لروسيا.
نُشر ملخص لهذه الدراسة في صورة تقرير خاص لمركز وودرو ولسون الدولي للعلماء (WWICS).
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.