دائمًا ما كانت “الدببة القطبية” تتغنى بالسلام والاستقرار الذي تعيشه في 28 مليون كم من الثلوج والمساحات البيضاء في أقصى شمال الكرة الأرضية، لكن يبدو أن استمرار هذا الحلم الجميل بات يشوبه كثير من الشك في ظل “الإستراتيجية الأمريكية الجديدة للقطب الشمالي”، التي تهدف إلى بدء مرحلة جديدة من التنافس والصراع مع روسيا والصين على غرار عسكرة واشنطن لكل الجوار الروسي والصيني في السنوات الأخيرة، فالقطب الشمالي يعيش مرحلة غير مسبوقة من السباق في كل أنواع التسلح، ومنها نشر القاذفات النووية، والصواريخ الأسرع من الصوت، والقواعد العسكرية الحديثة، ومنظومات الدفاع الجوي العملاقة، في محاكاة لما قام به حلف دول شمال الأطلسي (الناتو) بقيادة واشنطن في كل من شرق أوروبا ووسطها، ومنطقة الإندو- باسيفيك في شرق آسيا وجنوب شرقها.
ومع تطور تكنولوجيا المسح الجيولوجي تأكد للجميع أن القطب الشمالي به احتياطيات نفط مؤكدة، تصل إلى نحو 160 مليار برميل، كما يضم 30 % من احتياطيات العالم من الغاز الطبيعي موزعة على 61 حقل غاز، في مقدمتها 43 حقلًا لروسيا، و11 للولايات المتحدة، و6 لكندا، وواحد للنرويج، بالإضافة إلى كميات قياسية من الموارد والعناصر النادرة التي تحتاج إليها قطاعات الصناعات الحديثة، وترافق ذلك مع ذوبان الجليد في 2.5 مليون كم، وهو ما فتح الطريق- لأول مرة في تاريخ البشرية- لخطوط ملاحية لـ”طريق الشمال”، الذي يربط شمال آسيا بشمال أوربا وأمريكا الشمالية، كل هذه العوامل شكلت محفزات جديدة للصراع على تلك الموارد، لكن أكثر هذه الدوافع نحو التنافس على القطب الشمالي هو أن طبيعة القطب الشمالي تقوم على المكون المائي والثلوج، وليس التربة، وهو ما يجعل نحو 85 % من القطب الشمالي “بلا صاحب” من الجانب القانوني، حيث تطالب بعض الدول بتطبيق اتفاقية الأمم المتحدة لأعالي البحار، التي تعني أن لكل دولة 12 ميلًا بحريًّا من حدودها، بالإضافة إلى 200 ميل بحري “كمنطقة اقتصادية خالصة” أمام سواحل الدول المتشاطئة الخمس، وهي روسيا، وكندا، والولايات المتحدة، والنرويج، والدنمارك، وهو ما يجعل مساحات شاسعة تصل إلى نحو 24 مليون كم من إجمالي 28 مليون كم مناطق يمكن التنازع عليها.
وبدأت واشنطن مؤخرًا بتحديث إستراتيجيتها “للقطب الشمالي”، وهي الإستراتيجية التي سبق أن أعلنتها في الولاية الثانية للرئيس الأسبق باراك أوباما، ويقوم التحديث الأخير على “اقتفاء” الولايات المتحدة خطوات موسكو في القطب الشمالي، حيث ترى واشنطن أن روسيا تسبق الجميع عندما يكون الحديث عن القطب الشمالي، فبدأ البيت الأبيض برصد 40 مليار دولار للقطب الشمالي، وإرسال منظومات الدفاع الجوي الحديثة إلى القطب الشمالي، ونسج التحالفات السياسية والعسكرية مع حلفائه في شمال أوروبا، فضلًا عن الرغبة الأمريكية في حرمان الصين من التوسع أكثر في القطب الشمالي؛ لأن رؤية واشنطن تقوم على أن روسيا هي من أسهمت في وضع “الأقدام الصينية” في القطب الشمالي، وأن على واشنطن وحلفائها تقليص أي توسع أو تحرك “روسي صيني” على جميع المستويات الميدانية، والسياسية، وحتى التكنولوجية اللازمة للتأقلم مع طبيعة المنطقة الشديدة البرودة، فما إستراتيجية الولايات المتحدة الجديدة في القطب الشمالي؟ وأين روسيا والصين من تلك التحركات الأمريكية مع حلفائها الغربيين؟ وما المكاسب التي يسعى كل طرف إلى الحصول عليها نتيجة لهذا التنافس الذي يمكن أن ينزلق إلى صراع شامل؟
لم تكن الولايات المتحدة دولة قطبية، ولا حتى دولة متداخلة مع القطب الشمالي حتى مارس (آذار) من عام 1867، عندما اشترت من قيصر روسيا ألكسندر الثاني ولاية ألاسكا، وهنا أصبحت الولايات المتحدة دولة قطبية، وخلال الحرب الباردة نشرت الولايات المتحدة منظومات إنذار مبكر خوفًا من الصواريخ السوفيتية العابرة للقارات، وبسبب ما يأتي من ألاسكا من نفط وغاز، أصبحت الولايات المتحدة مصدرًا للنفط والغاز منذ عام 2018. ووفق تقرير لوزارة الطاقة الأمريكية، فإن بعض حقول ألاسكا القريبة من القطب الشمالي تحتوي وحدها على 36 مليار برميل نفط، و3.8 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي، وهي احتياطيات تكفي لاستهلاك الولايات المتحدة لنحو 12 عامًا، لكن أكبر المكاسب من شراء هذه الولاية أن ألاسكا منحت واشنطن حدودًا مباشرة مع القطب الشمالي، وجعلتها ضمن الدولة المتشاطئة للقطب الشمالي.
لكن مع وضع روسيا والصين بوصفهما منافسين إستراتيجيين للولايات المتحدة في إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي لعام 2017، بدأت واشنطن بنشر منظومات دفاع جوي حديثة ضد الصواريخ الطويلة المدى وفرط الصوت التي يمكن أن تأتي من روسيا والصين وكوريا الشمالية، وكانت الولايات المتحدة قد دشنت منذ عام 2013 إستراتيجية تحاول من خلالها اللحاق بروسيا في القطب الشمالي، لكن في عام 2023، ومنذ أزمة المنطاد الصيني- الذي جاء من ناحية القطب الشمالي- زادت الخطوات الأمريكية باتجاه “عسكرة القطب الشمالي”. وتنظر الإستراتيجية الأمريكية الجديدة إلى القطب الشمالي باعتباره “مكانًا للصراع القادم” بعد الحرب الروسية الأوكرانية. وخلال الآونة الأخيرة، شهد القطب الشمالي تحركات أمريكية عسكرية وسياسية غير مسبوقة، أخذت مجموعة من المسارات، منها:
أولًا: تكثيف المناورات
تحتفظ الولايات المتحدة بنحو 30 ألف جندي في القطب الشمالي، وخلال النصف الأول من عام 2024 قامت الولايات المتحدة بسلسلة غير مسبوقة من المناورات العسكرية من حيث الحجم والتسليح مع حلفائها في القطب الشمالي، الذي تطلق عليه “القطب الأزرق”، وجرت هذه المناورات مع النرويج، والدنمارك، وفنلندا، والسويد، وكندا؛ بهدف رسم ثقافة عسكرية مشتركة للتعامل مع الفرص والتحديات الجديدة، مثل ذوبان الجليد في 2.5 مليون كم من القطب الشمالي، واحتمالية تحول “طريق الشمال” الذي يربط بين شمال آسيا وأوربا وأمريكا الشمالية إلى طريق دائم لنقل البضائع، على الأقل لمدة 6 شهور في العام، بداية من 2035. ومع انضمام فنلندا والسويد إلى حلف دول شمال الأطلسي (الناتو) تطالب واشنطن البلدين بمزيد من التنسيق والعمل المشترك في القطب الشمالي باعتباره- من وجهة النظر الأمريكية- ساحة “محتملة” للصراع مع روسيا.
ثانيًا: نشر أحدث تكنولوجيا عسكرية
خلال عامي 2023 و2024، نشرت الولايات المتحدة مزيدًا من العتاد العسكري المتقدم، خاصة طائرات “إف 35” من الجيل الخامس، ومنظومات الدفاع الجوي من طراز “ثاد” البعيدة المدى، و”باتريوت” المتوسطة المدى، وشجعت كندا الدول الثانية من حيث طول الساحل مع القطب الشمالي على شراء مزيد من الأسلحة الأمريكية؛ ولهذا اشترت أوتاوا 85 طائرة “إف 35″، وكثيرًا من منظومات الدفاع الجوي المتوسطة والبعيدة المدى.
ثالثًا: تعزيز الحضور في “مجلس القطب الشمالي”
يتكون مجلس القطب الشمالي من 20 دولة، منها 12 دولة بصفة مراقب، في حين أن هناك 5 دول لها شواطئ مباشرة مع القطب الشمالي، هي روسيا، وكندا، والولايات المتحدة عبر ولاية ألاسكا، بالإضافة إلى الدنمارك، والنرويج، و3 دول متداخلة مع القطب الشمالي، هي أيسلندا، وفنلندا، والسويد، والدول التي تتمتع بصفة مراقب هي الصين، وكوريا الجنوبية، واليابان، والهند، وسنغافورة، وبريطانيا، وفرنسا، وبولندا، وهولندا، وإسبانيا، وألمانيا، وإيطاليا.
وتولت الولايات المتحدة قيادة مجلس القطب الشمالي مرتين، الأولى من عام 1998 حتى عام 2000، والثانية من عام 2017 حتى 2019، وحاليًا تسعى الولايات المتحدة إلى منع دخول حلفاء روسيا إلى المجلس منذ أن نجحت روسيا في إدخال الصين “بصفة مراقب” عام 2013، كما تسعى الولايات المتحدة إلى إجهاض أي خطط روسية تعزز الحضور والزخم الروسي الذي يفوق أي وجود مدني أو عسكري في القطب الشمالي. ومنذ أن علقت روسيا مساهماتها المالية عام 2022 في مجلس القطب الشمالي، تحاول الولايات المتحدة تعويض هذا الأمر بدفع حلفائها إلى تخصيص مزيد من الموارد المالية والعسكرية للتغلب على التفوق الروسي في منطقة ينظر إليها بوصفها مستقبل رخاء العالم.
رابعًا: تعزيز الدبلوماسية الأمريكية
يقع “القطب الشمالي” في قلب رؤية الرئيس جو بايدن القائمة على دعم تحالفات أمريكا في الخارج في مواجهة منافسي واشنطن على الساحة الدولية؛ ولهذا عيّنت الولايات المتحدة “سفيرًا متجولًا” لأول مرة في منطقة القطب الشمالي، كما عينت نائبًا مساعدًا لوزير الدفاع لشؤون القطب الشمالي، وافتتحت أيضًا بعثة دبلوماسية في ترومسو بالنرويج عام 2023 ، وهي أكبر مدينة نرويجية في القطب الشمالي، وتبعد 400 كم فقط عن روسيا.
خامسًا: تعزيز أسطول كاسحات الجليد
تخطط الولايات المتحدة لزيادة أسطولها من كاسحات الجليد، خاصة كاسحات الجليد التي تعمل بالطاقة النووية؛ حتى تقترب من القدرات الروسية في هذا المجال. ولدى الولايات المتحدة كاسحتا جليد فقط، في حين تخطط لتسلم ثلاث كاسحات جليد جديدة قبل عام 2027، ووضعت من أجل ذلك نحو 36 مليار دولار لتحقيق هذه الأهداف، لكن التنافس مع روسيا سوف يحتاج من واشنطن إلى إنفاق مليارات الدولارات؛ إذ تملك روسيا وحدها نحو 40 كاسحة جليد، منها 12 تعمل بالطاقة النووية.
كانت روسيا سباقة منذ عهد الاتحاد السوفيتي السابق إلى الاهتمام بالقطب الشمالي، ومع وصول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الحكم نهاية عام 1999، أعادت روسيا تجديد وتحديث أكثر من 50 قاعدة عسكرية كانت قائمة بالفعل أيام الاتحاد السوفيتي، ولفت الاهتمام الروسي بالقطب الشمالي أنظار العالم منذ عام 2007 عندما وضعت موسكو العلم الروسي في قاع القطب الشمالي، الذي يشكل أهمية خاصة للاتحاد الروسي، منها على سبيل المثال “طريق الشمال” الذي تزداد أهميته يومًا بعد يوم مع ارتفاع درجة الحرارة، وذوبان الجليد؛ ولهذا زادت البضائع التي شُحِنَت عبر “طريق الشمال” من 4 ملايين طن عام 2014 إلى أكثر من 34 مليون طن عام 2023، وتعمل موسكو على الوصول إلى 200 مليون طن من البضائع سنويًّا بحلول عام 2030، وتنظر روسيا إلى “طريق الشمال”، الذي يبلغ طوله نحو 3000 ميل بحري، على أنه “مسار ملاحي وطني” داخل الأراضي الروسية؛ لأن غالبية هذا المسار أمام الشواطئ الروسية، لكن الولايات المتحدة تدعو إلى جعل هذا الطريق مفتوحًا أمام الملاحة العالمية، مثل مضيق تايوان، وبحر الصين الجنوبي، وبحر الصين الشرقي. وتقوم المعادلات الروسية على مجموعة من الأهداف، هي:
1- هيمنة روسية
تسعى روسيا إلى الحفاظ على هيمنتها الإستراتيجية والاقتصادية على القطب الشمالي، ونتيجة للاهتمام الروسي المبكر بالقطب الشمالي بات 25 % من الغاز الروسي، و20 % من النفط، بإجمالي يساوي 11 % من الناتج القومي الروسي، و22 % من الصادرات الروسية يأتي من القطب الشمالي، ويمنح القطب الشمالي موسكو نحو 96 % من البلاتين، و90 % من النيكل والكوبالت، ونحو 60 % من النحاس. وتنتظر روسيا خلال العقدين القادمين عائدات من الغاز والنفط والمعادن التي تُستخرَج من القطب الشمالي تقدر بنحو 30 تريليون دولار.
2- التفوق العسكري
وذلك من خلال نشر القاذفات الروسية الإستراتيجية، ومنظومات الدفاع الجوية “إس 400″، وصواريخ “فرط الصوت”، والصواريخ التي تستطيع حمل رؤوس نووية غير إستراتيجية، مع تشكيل قيادة خاصة بالقطب الشمالي، وهي “القيادة الإستراتيجية المشتركة للقطب الشمالي”، بالتزامن مع نشر عدد غير مسبوق من مراكز الإنذار المبكر، وكل هذه القوات يدعمها أسطول بحر الشمال المتمركز في بحر البلطيق.
3- الالتزام بالمبادئ الدولية
مع أن الشاطئ الروسي على القطب الشمالي يزيد طوله على 3 آلاف ميل، وكان يمكن لموسكو في عقود سابقة السيطرة والاستيلاء على ما تشاء من مناطق لم يكن ينازعها فيها أحد، فإن موسكو تفضل أن تسلك دائمًا طريق القانون الدولي والأمم المتحدة؛ ولذلك تقدمت إلى الأمم المتحدة عام 2015 بوثائق لضم 1.191 مليون كم إلى الجرف القاري الروسي، كما تقدمت في العام نفسه بطلب إضافي إلى لجنة الأمم المتحدة لضم 705 آلاف كم من قاع القطب الشمالي إلى السيادة الروسية.
المؤكد أن إستراتيجية الولايات المتحدة في القطب الشمالي القائمة على العسكرة، ونشر السلاح والذخيرة، وتجييش الحلفاء، تخلق بيئة أقرب إلى النزاع والصراع منها إلى التعاون والشراكة، وهو ما يدفع العالم ليبقي عينًا- بشكل دائم- على كل ما يجري في القطب الشمالي.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.