تقع ميانمار على مفترق طرق جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا وشرق آسيا، وتوفر الوصول إلى المحيط الهندي، مما يجعل البلاد بقعة إستراتيجية بين الهند والصين. في أعقاب انقلاب عام 2021، الذي قام به المجلس العسكري في ميانمار، اتخذ البلدان إستراتيجيات مختلفة للحفاظ على نفوذهما في البلاد. ظلت الهند، لتعزيز سياستها الشرقية، ملتزمة تجاه المجلس العسكري، واستمرت في تقديم الدعم الاقتصادي والعسكري له. وفي الوقت نفسه، عملت الصين على تعزيز نفوذها في ميانمار من خلال العلاقات الاقتصادية والسياسية والعسكرية مع المجلس العسكري.
عام 2014، أعاد رئيس الوزراء ناريندرا مودي تسمية “سياسة النظر شرقًا” إلى “سياسة العمل شرقًا”، وأعاد تنشيطها بثلاثة أهداف رئيسة؛ أولًا: تعزيز التجارة والاستثمار والعلاقات الثقافية بين الهند الناشئة وجنوب شرق آسيا، وخاصة رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان). ثانيًا: أكدت السياسة خلق الفرص وتحقيق الاستقرار في المنطقة الشمالية الشرقية غير المستقرة والمعرضة للصراعات في الهند. ثالثًا: تسعى إلى مواجهة القوة الاقتصادية والعسكرية المتنامية للصين في ميانمار، سواء على المستوى الثنائي، أو بالتعاون مع دول رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) ذات التوجهات المماثلة.
وإلى جانب أهمية ميانمار الإستراتيجية، تعدّها الهند سوقًا جذابة وشريكًا اقتصاديًّا يمكن الاعتماد عليه لاقتصادها المتنامي. وتشمل اتفاقية التجارة الثنائية بين البلدين العشرات مِن السلع المعفاة من الضرائب، منها المنتجات الزراعية، والأواني، ومستحضرات التجميل، والدراجات النارية، والأسمنت، وبلغ إجمالي التجارة السلعية إلى (1.76) مليار دولار أمريكي للفترة من 2022 إلى 2023. لكن في 8 فبراير (شباط) 2024، قررت حكومة الهند إلغاء حركة النظام الحر بين البلدين؛ لضمان الأمن الداخلي للبلاد، والحفاظ على التركيبة السكانية للولايات الشمالية الشرقية. وجاء هذا القرار بعد أيام من قرار نيودلهي إقامة سياج على الحدود الهندية الميانمارية التي يبلغ طولها 1643 كيلومترًا، لا سيما أن ولاية تشين، الواقعة على الحدود الشمالية الغربية لميانمار مع الهند، هي مركز للمقاومة المسلحة اليوم. وتعد الولاية موطنًا لنصف مليون شخص، وتتميز بتنوع قبلي قوي تاريخيًّا، وقد عانت- على مدى سنوات- العنف وعدم الاستقرار الذي أثر في جزء كبير من ميانمار، حيث كان الجيش في البلاد يكافح من أجل فرض الحكم المركزي. وكانت النتيجة استمرار التخلف التنموي، حيث غادر كثير من الأشخاص ولاية تشين، كلاجئين في كثير من الأحيان. وأدت حملات القمع العنيفة على الاحتجاجات السلمية التي اندلعت مباشرة بعد انقلاب عام 2021، إلى حمل كثير من غير المقاتلين السابقين السلاح للدفاع عن أنفسهم. وتصاعدت التوترات بسرعة مع ظهور العشرات من مجموعات المقاومة المحلية الجديدة، التي عُرف كثير منها باسم قوات دفاع تشينلاند. وقد حظيت جبهة تشين الوطنية، وهي جماعة مسلحة ذات تاريخ طويل في مقاومة السلطات المركزية في ميانمار، وشاركت على نحو وثيق في جهود بناء السلام على مدى العقد الماضي، بدعم شعبي كبير.
في 27 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أطلقت قوات المعارضة الميانمارية (جيش أراكان، وجيش تحرير تانغ الوطني، وجيش التحالف الوطني الديمقراطي الميانماري) “العملية 1027″، ونجحت في السيطرة على المناطق الحدودية، ونشر حضورها في نحو (60%) من أراضي ميانمار؛ ما دفع الهند إلى تعزيز علاقاتها الدبلوماسية مع المعارضة، وبدأت محادثات خلال مارس (آذار) 2024 لمناقشة:
يعكس الاجتماع أيضًا جانبًا آخر من التركيز الإستراتيجي للهند في تفاعلها مع السلطات الإقليمية المنقسمة في ميانمار. وتاريخيًّا، سعت الجماعات المتمردة من شمال شرق الهند إلى البحث عن ملجأ على طول الحدود الهندية الميانمارية المشتركة؛ مما حفز الجهود التعاونية بين الحكومتين منذ التسعينيات لمكافحة أنشطة المتمردين في المنطقة. وقد دخلت نيودلهي في شراكة مع حكومة ميانمار لتأمين منطقة الإقليم الشمالي ضد تهديدات المتمردين. وقد بُذِلَ جهد منسق بين الجيش الهندي والمجلس العسكري في ميانمار لمواجهة التمرد الذي تقوم به الجماعات الهندية العاملة داخل ميانمار منذ التسعينيات. ويُفترَض أن تنفيذ برنامج الشراكة الاقتصادية الآسيوية سوف يخفف من حدة الصراعات المسلحة في منطقة شمال شرق البلاد، ويعزز الاتصال المعزز مع دول رابطة أمم جنوب شرق آسيا عبر ميانمار. ومن المتوقع أن يؤدي هذا التحول إلى وضع المناطق غير الساحلية والأقل نموًا في الهند في نقطة محورية للنمو والأنشطة الاقتصادية؛ ومن ثم تقليل العوامل التي تُسهم في التمرد، مثل البطالة، والفرص المحدودة للشباب في المنطقة.
بدأت الهند مشروعات استثمارية في ميانمار في إطار برنامج الشراكة الاقتصادية الآسيوية لإعادة ضبط موقفها وسط السيناريو الجيوسياسي المتغير. ومع ذلك، فإن فعالية إستراتيجية الهند في مواجهة نفوذ الصين في ميانمار أصبحت موضع تساؤل، لا سيما أن الصين أصبحت المصدر الرئيس للاستثمارات الأجنبية المباشرة، والشريك التجاري الأكبر لميانمار، وتمكنت من إنشاء ممر اقتصادي وقواعد مراقبة على جزيرة كوكو التابعة لميانمار في خليج البنغال، وتوسطت بكين في وقف مؤقت لإطلاق النار بين المعارضة والمجلس العسكري (خُرِقَ بعد ثلاثة أيام). كما استثمرت الشركات الاستثمارية الصينية المملوكة للدولة على نطاق عريض في مشروعات البنية التحتية، منها محطة للغاز الطبيعي المسال، ومحطة للطاقة الكهرومائية، ومشروعات طاقة الرياح، وخط أنابيب الغاز الذي يربط بين البلاد، وكلها تعد جزءًا من الممر الاقتصادي بين الصين وميانمار في إطار مبادرة “الحزام والطريق”. وستتيح المنطقة الاقتصادية الخاصة لبكين إمكانية الوصول إلى خليج البنغال، مما يوفر طريقًا بديلًا لمضيق ملقا المزدحم، حيث تثير المنافسة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين المخاوف بشأن المضيق باعتباره ممرًا للشحن البحري.
تستفيد الصين من علاقتها مع حركات المعارضة، وتبني المناطق الاقتصادية الخاصة داخل مناطقها. وتوفر هذه المناطق إمكانية الوصول المباشر إلى المحيط الهندي، وتأمين وجود بكين على الجانب الشرقي للهند، وتعزيز حضورها البحري في خليج البنغال. وفي الوقت نفسه استورد المجلس العسكري في ميانمار ما تزيد قيمته على (267) مليون دولار أمريكي من المعدات العسكرية الصينية في الفترة من 2022 إلى 2023، منها طائرات صينية من طراز (K-8)، استخدمها لشن ضربات جوية تستهدف المعارضة. وتفتقر الهند حاليًا إلى نهج إستراتيجي مرن مشابه للصين، ويرجع ذلك في الأساس إلى اعتقاد نيودلهي أن التعامل مع المجلس العسكري فقط يشكل وسيلة للحد من النفوذ الصيني، لا سيما أن المجلس العسكري يسيطر على المدن الكبرى، والمعارضة لم توحد جميع الفصائل المسلحة، ويرجع ذلك- إلى حد كبير- إلى المشهد العرقي المعقد في ميانمار، حيث تسعى كثير من المنظمات المسلحة إلى السيطرة المستقلة على أراضيها؛ لذا يبدو أن الهند تتبنى نهج الانتظار والمراقبة، معتقدة أن التفوق العسكري الذي تتمتع به المجلس العسكري سوف يسمح لها باستعادة السيطرة. ومع ذلك، ونظرًا إلى الظروف السائدة في ميانمار، فإن المشاركة المتعددة الأوجه من جانب الصين سوف يكون لها الغلبة على النهج الذي تتبناه الهند إذا حدث تحول حكومي في المستقبل القريب.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.