هي مدينة المدائن والأديان والرسالات السماوية الثلاث، إليها ترنو العيون والقلوب من شتى أنحاء العالم، قيمتها الروحية عابرة ليس فقط لحدود الجغرافيا؛ بل تسمو فوق أي أنانية سياسية، أو طائفية، أو دينية، يحج إليها المسلمون، والمسيحيون، واليهود من كل أنحاء العالم، فيها المسجد الأقصى، وقبة الصخرة، أثنت عليها كل الرسالات والكتب السماوية المقدسة، التنافس والصراع عليها وحولها بدأ قبل قرون كثيرة، تاريخها شاهد على أن جميع القوى العظمى في تاريخ البشرية حاولت أن تترك بصمة على هذه المدينة المقدسة التي يحلم بزيارتها ليس فقط أتباع الديانات الإبراهيمية الثلاث؛ بل الجميع من جميع أصقاع المعمورة، تاريخها يعود إلى أكثر من 30 قرنًا قبل الميلاد، سُمّيت بأسماء كثيرة مثل “يبوس”، و”أوساليم”، و”أورشليم”، و”بيت المقدس”.
أتحدث عن مدينة القدس ذات المكان والمكانة الخاصة في حياة ووجدان المسلمين والمسيحيين واليهود على مدار قرون طويلة، لكن التعقيدات السياسية حول المدينة المقدسة زادت منذ قيام إسرائيل في 14 مايو (أيار) 1948، وسيطرتها على القدس الغربية “الجديدة”، كما قادت سيطرة إسرائيل على القدس الشرقية “العتيقة” إبان حرب 4 يونيو (حزيران) 1967 إلى مزيد من التحديات والقيود التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي على حركة المسلمين والمسيحيين في القدس، فالاحتلال الإسرائيلي بدأ بوضع قواعد لدخول المدينة المقدسة، الهدف منها تفريع القدس من سكانها المسلمين والمسيحيين، وأن تؤول إليه السيطرة الكاملة على القدس التي تدعي جميع الأحزاب الإسرائيلية أنها عاصمة إسرائيل الأبدية.
وبعكس المسلمين والمسيحيين، الذين يرغبون في أن تكون المدينة المقدسة بمساجدها وكنائسها ومعابدها للجميع، تعمل إسرائيل بكل قوتها على “تهويد القدس”، وتفريغها من المسلمين والمسيحيين؛ حتى تفرض كلمتها عندما يحين الوقت للحديث عن “الوضع النهائي” لمدينة القدس، وفق ما نصت عليه اتفاقيات أوسلو في 13 مايو (أيار) 1993.
ورغم تأكيد كل المراجع التاريخية والآثار التي تزخر بها المدينة أن القدس كانت عربية قبل ظهور العبرانيين بقرون طويلة، فإن إسرائيل تدعي دائمًا أن وجود وبناء مدينة “أورشليم” (القدس) ارتبط فقط باليهود، وهو ما يضفي “حسابات صفرية” عند الحديث عن الوضع النهائي للقدس التي تسعى إسرائيل إلى السيطرة الكاملة عليها، بمعنى السيطرة على القدس الشرقية والغربية، كما أن المتطرفين من النخبة السياسية الإسرائيلية، مثل الليكود وغيرهم، يرفضون قيام دولة فلسطينية تكون القدس الشرقية “القديمة” عاصمة لها، كما أن أقصى اليمين المتطرف، الذي يمثله في الوقت الحالي وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، ووزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريش، يرفض حتى بناء عاصمة للفلسطينيين في ضواحي القدس، أي في منطقة “أبو ديس” التي تقع على بعد كيلومترين من المسجد الأقصى، وهو الطرح الذي سبق أن قدمه دونالد ترمب؛ الرئيس الأمريكي السابق، المرشح الجمهوري لانتخابات 5 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وهو ما أدى إلى احتدام الصراع بين إسرائيل وكل من المسلمين والمسيحيين في العالم حول مدينة السلام، فما جذور الصراع على المدينة المقدسة؟ وهل هناك أي أفق سياسي يمكن أن يكون مقبولًا من الطرفين؟ وهل طوفان الأقصى والحرب الإسرائيلية على غزة يمكن أن تكون بداية لتحريك المجتمع الدولي في اتجاه الاعتراف بعروبة مدينة القدس في إطار الدولة الفلسطينية التي اعترفت بها نحو 146 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعززها اعتراف كل من إسبانيا وأيرلندا والنرويج؟
كما فشلت إسرائيل في إيجاد دليل واحد على وجود “هيكل سليمان” أسفل المسجد الأقصى وقبة الصخرة، لا يوجد دليل واحد على أن تأسيس القدس ارتبط بوصول أو وجود العبرانيين اليهود في القدس، لأنه وفقًا لوثيقة أصدرها الأزهر الشريف في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2011، فإن عروبة القدس تضرب في أعماق التاريخ لأكثر من ستين قرنًا، حيث بناها العرب في الألف الرابع قبل الميلاد، أي قبل عصر أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام بواحد وعشرين قرنًا، وقبل ظهور اليهودية التي هي شريعة موسى عليه السلام بسبعة وعشرين قرنًا؛ لأن شريعة موسى عليه السلام وتوراته قد ظهرت في مصر، الناطقة باللغة الهيروغليفية، قبل دخول بني إسرائيل غزاةً إلى أرض كنعان ( فلسطين)، وقبل تبلور اللغة العبرية بأكثر من مئة عام؛ ومن ثم فلا علاقة لليهودية، ولا العبرانية بالقدس ولا بفلسطين، وحتى وفق المصادر الإسرائيلية نفسها فإن الوجود العبري في مدينة القدس لم يتعد 415 عامًا بعد ذلك في عهد داود وسليمان عليهما السلام، في القرن العاشر قبل الميلاد، وهو ما يقول إن وجود العبرانيين في القدس كان وجودًا طارئًا وعابرًا، وحدث بعد أن تأسست القدس العربية ومضى 30 قرنًا من الزمان. ووفق نصوص التوراة نفسها، فإن الملك داود وابنه سليمان، عليهما السلام، جاءا إلى القدس، لكنها كانت بالفعل موجودة، وقائمة، ومزدهرة قبل وصولهما إليها.
هذه الأدلة الكاملة تقول إن ما تقوم به إسرائيل في الضغط على المقدسيين لترك بيوتهم، كما تضغط على سكان حي الشيخ جراح وغيرهم، يتنافى تمامًا مع الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي تجرم التهجير القسري، كما يتنافى مع وجود العرب وبقائهم في القدس منذ ما يزيد على 60 قرنًا من الزمان، وهو ما يؤكد أن “قضية القدس” ليست فقط مجرد أرض محتلة؛ وإنما هي حرم إسلامي مسيحي مقدس، وقضيتها ليست فقط قضية وطنية فلسطينية، أو قضية قومية عربية؛ بل هي قضية لكل المسلمين والمسيحيين في العالم أجمع، وكل هذا يؤكد سلسلة من الحقائق، في مقدمتها أن وجود العبرانيين فيها كان مؤقتًا، ولم يزد على 75 عامًا، وانهارت دولتهم في العقد الثامن، وهو الخوف نفسه الذي يشعر به بنيامين نتياهو في الوقت الحالي بأن تنهار إسرائيل في عقدها الثامن، كما أن علاقة العبرانيين في الماضي لا تختلف عن علاقة الإسرائيليين في الوقت الراهن، وهي “علاقة احتلال” مع السكان الأصليين الذين كان يطلق عليهم في الماضي “اليبوسيون”، الذين هم فلسطينيون بنفس تسمية التوراة اليهودية، ولهذا عندما فكر أثرياء اليهود في بناء دولة لليهود في العهد الحديث، مثل البارون هرتشي، وتيودور هيرتزل، ذهبت حساباتهم إلى دول مثل الأرجنتين، والبرتغال، وحتى إلى أوغندا، والكونغو، ولم يفكروا في فلسطين إلا بتوجيه من حكومة بريطانيا العظمى.
أسهم ضعف الدولة العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مع رغبة سلاطينها في الفترة الأخيرة من زمن الإمبراطورية في الحصول على الأموال من أثرياء الصهاينة، في هجرة الآلاف من اليهود إلى فلسطين، وخاصة إلى القدس، لكن التطور الأخطر كان هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، ودخول الانجليز إلى القدس بقيادة الجنرال أدموند اللنبي في 9 ديسمبر (كانون الأول) 1917، وهو ما فتح الباب على مصراعيه لدخول أعداد غير مسبوقة من اليهود إلى القدس تزامنًا مع الاضطهاد الأوروبي لليهود، خاصة في إسبانيا وشرق أوروبا، هذه الأعداد الكبيرة من المهاجرين الصهاينة، وتشكيل العصابات الصهيونية مثل الهاجاناه، دفعت العرب في القدس إلى ثورات فلسطينية متعاقبة ضد هجرة اليهود للقدس، منها “ثورة البراق عام 1920″، و”ثورة 1929″، والثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، وفي سبيل حل الصراع بين العرب الفلسطينيين واليهود أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 181 في 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947، الذي يطلق عليه قرار التقسيم، الذي قسم أراضي فلسطين التاريخية بمساحة 28 ألف كم إلى 3 كيانات رئيسة، وهي:
أولًا: دولة فلسطينية عربية: تبلغ مساحتها 11 ألف كم، بنحو 42.3 % من فلسطين، وتقع على الجليل الغربي، ومدينة عكا، والضفة الغربية، والساحل الجنوبي الممتد من شمال مدينة أسدود، وجنوبًا حتى رفح، مع جزء من الصحراء على طول الشريط الحدودي مع مصر، ورفض الفلسطينيون والعرب هذا القرار، واعتبروه ظلمًا وإجحافًا بحق الفلسطينيين.
ثانيًا: دولة يهودية: تبلغ مساحتها 15 ألف كم، أي نحو 57.7 % من فلسطين، وتقع على السهل الساحلي من حيفا حتى جنوب تل أبيب، والجليل الشرقي بما في ذلك بحيرة طبريا وإصبع الجليل، والنقب، وميناء ايلات.
ثالثًا: القدس وبيت لحم والمساحة المجاورة لهما، بإجمالي مساحة تبلغ ألفي كم، تحت إدارة الأمم المتحدة.
قرار التقسيم لم يكن وليد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكنه كان استجابة لرغبات حكومة الانتداب البريطاني التي سوّقت قرار التقسيم منذ عام 1937 عبر لجنة بيل، ثم تقرير لجنة وود هود عام 1938، وعندما أنهت لندن الانتداب البريطاني سيطرت إسرائيل على الجزء الغربي بالكامل من القدس، كما أكملت السيطرة على القدس الشرقية بعد حرب 4 يونيو (حزيران) 1967. لكن وفق قرارات الأمم المتحدة، خاصة قراري 242 و338، فإن “القدس الشرقية” هي عاصمة دولة فلسطين، وفي 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 قبلت الجمعية العامة للأمم المتحدة فلسطين بصفة “دولة مراقب” على حدود 4 يونيو (حزيران) 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
منذ سيطرتها الكاملة على القدس عام 1967، ترفض إسرائيل أي تنازل عن القدس الشرقية، وتسعى إلى الاحتفاظ بكل شبر من القدس، وطرد الفلسطينيين منها، وهو ما يقابله المقدسيون بالصمود بكل إصرار وعزيمة، ويقف خلفهم كل الشعوب الإسلامية والمسيحية في فلسطين والعالم. وقد شجّع قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في 6 ديسمبر (كانون الأول) نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، شجّع إسرائيل على رفض أي تنازلات تتعلق بالقدس، بما فيها رؤية ترمب (صفقة القرن) لإنشاء عاصمة لدولة فلسطين في منطقة “أبو ديس” التابعة إداريًّا لمحافظة القدس، وتبعد عن المسجد الأقصى بنحو كيلومترين، وهو اقتراح رفضه الفلسطينيون والإسرائيليون معًا.
المؤكد أن كثيرًا من الغزاة والمحتلين احتلوا القدس مثل الصليبيين، وطال احتلالهم أكثر بكثير من احتلال إسرائيل للقدس منذ عام 1948، لكن في النهاية خرج كل هؤلاء الغزاة من القدس بعد هزيمة نكراء، وهو ما يؤكد- بكل ثقة- أن الاحتلال الإسرائيلي ليس نهاية حكاية القدس، فكما دحر المقدسيون كل الغزاة من قبل، سوف يَدحرون ويَهزمون أنصار نتنياهو وبن غفير وسيموترتش، فالإسرائيليون لن يكونوا أبدًا استثناءً.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.