يطرح تحطم طائرة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي فوق محافظة أذربيجان الشرقية الإيرانية سلسلة من الأسئلة التي لا تتعلق بالتطورات الداخلية في إيران فحسب؛ بل بمجمل العلاقات الإيرانية الخارجية، خاصة العلاقات الإيرانية مع الدول العربية، ومستقبل الانفتاح الإيراني على الولايات المتحدة الأمريكية بعد نجاح جولة المفاوضات غير المباشرة بين الطرفين في مسقط، عاصمة سلطنة عمان.
لكن قبل كل ذلك، فإن “طبيعة التفاعلات السياسية الداخلية” في إيران في أعقاب وفاة الرئيس الإيراني، ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان، سوف “تطبع بصماتها” على مختلف المسارات والسيناريوهات التي تتعلق بالسلوك الإيراني في الخارج، ومدى حدوث تحول نسبي أو جذري في مستوى التعامل الإيراني مع القضايا الإقليمية، سواء ما يتصل بالعلاقات الإيرانية العربية، أو مع مستقبل العلاقة بين طهران وباكو، خاصة أن الرئيس الإيراني كان عائدًا من افتتاح سد يقع على الحدود الإيرانية الأذربيجانية بحضور الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، فما السيناريوهات المحتملة لسقوط طائرة الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته؟ وهل يمكن أن يَحدث فراغ في منصب الرئاسة؟ والى أي مدى سوف يسير قطار تحسين العلاقات العربية الإيرانية وتغزيزها؟
رغم تأكيد الخطاب الإعلامي والسياسي الإيراني فرضية واحدة؛ هي أن الأحوال الجوية هي السبب في تحطم طائرة الرئيس رئيسي، فإن هناك 5 سيناريوهات أخرى يمكن طرحها، وهذه السيناريوهات هي:
السيناريو الأول: اليد الإسرائيلية
رغم النفي الرسمي الإسرائيلي فإن هذا النفي دائمًا ما يصاحبه قيام إسرائيل بعمليات كبيرة تخشى أن يكون رد الفعل الإيراني عليها قويًا، ويوفر النفي الإسرائيلي في حال تورط تل أبيب بعض الوقت لإسرائيل، وهناك مجموعة من العوامل تعزز سيناريو تورط إسرائيل في إسقاط طائرة الرئيس الإيراني، وهي:
1-الرد على الهجوم الإيراني
وهو الهجوم الذي قامت به إيران على الأراضي الإسرائيلية في 13 أبريل (نيسان) 2024، فكثير من الإسرائيليين، والأمريكيين، نظروا إلى الرد الإسرائيلي في 19 أبريل (نيسان) على الهجوم الإيراني بأنه لم يكن كافيًا، وذهبت كثير من الحسابات آنذاك أن إسرائيل سوف ترد من خلال عدد من العمليات التي لا تقود إلى حرب شاملة بين إسرائيل وايران، وقد يكون إسقاط طائرة الرئيس الإيراني جزءًا من الرد الإسرائيلي على أول هجوم إيراني على الأراضي الإسرائيلية.
2-نشاط الموساد في إيران
معروف للجميع المساحة الواسعة التي يتحرك فيها الموساد الإسرائيلي في الداخل الإيراني، فهو الذي سرق الأرشيف الكامل للبرنامج النووي الإيراني الذي عرضه بنيامين نتياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي في مؤتمر صحفي علني عام 2019، كما قام الموساد بعمليات نوعية في إيران، منها اغتيال كبار علماء البرنامج النووي الإيراني، ومنهم محسن فخري زاده، ولا يمكن استبعاد تورط إسرائيل في هذا السيناريو من خلال توظيف العملاء الإيرانيين في الداخل بزرع قنبلة في الطائرة، أو استهدافها بصاروخ محمول على الكتف.
3- الحدود الأذربيجانية
وهي حدود تنشط فيها إسرائيل بحكم العلاقات القوية بين باكو وتل أبيب، ودعم إسرائيل لأذربيجان في حربها على أرمينيا. ورغم استبعاد فرضية مشاركة أذربيجان في أي نشاط إسرائيلي ضد إيران انطلاقًا من الحدود الأذربيجانية الإيرانية في ظل التحسن الكبير في العلاقات الإيرانية الأذربيجانية، فإن الثابت في السلوك الإسرائيلي أن تل أبيب لا تستأذن أحدًا، ولا حتى أقرب حلفائها، عندما تقوم بأي عملية من عمليات “حروب الظل” ضد إيران، وكل التقديرات الإيرانية والغربية تقر بوجود نشاط معلوماتي واستخباراتي إسرائيلي على الجانب الآخر من الحدود الإيرانية الأذربيجانية، والسد الذي افتتحه الرئيس رئيسي كان في أقرب نقطة على الحدود مع أذربيجان، وهو ما يقول إن عملاء إسرائيل يستطيعون أن يستهدفوا طائرة الرئيس الإيراني ليس فقط من الأراضي الإيرانية؛ بل من داخل الأراضي الأذربيجانية، ليس هذا فقط؛ ففي يناير (كانون الثاني) 2022 قالت صحيفة “يسرائيل هيوم” إن الطائرات المسيرة التي نفذت هجومًا على مصنع عسكري بمدينة أصفهان الإيرانية انطلقت من الأراضي الأذربيجانية.
السيناريو الثاني: التنظيمات الأذرية داخل إيران
هناك صراع تاريخي بين ايران وأذربيجان، التي ترى في محافظة أذربيجان الشرقية “أراضي أذربيجانية”؛ لأن نحو 20 مليونًا يشكلون نحو 24 % من سكان إيران من القومية الأذرية، وتخشى إيران من تنامي النزعة الانفصالية لدى هؤلاء، خاصة أن في أذربيجان يطلقون على المناطق التي يسكنها الأذريون في إيران “أذربيجان الجنوبية”، ويقوم الخطاب الرسمي والشعبي في أذربيجان على التعاطف الكامل مع الأذريين داخل الحدود الإيرانية. في الوقت نفسه، باتت هناك ميول قومية لدى الجيل الجديد من الأذريين في الولايات الشمالية، والشمالية الغربية الإيرانية، التي يتركز فيها الأذريون، خاصة في مدينة تبريز، التي تعد عاصمة للأذريين، وهناك من يفترض أن إسقاط طائرة الرئيس في منطقة أغلبيتها من الأذريين يطرح سيناريو إسقاط طائرة الرئيس الإيراني على يد عملاء في هذه المنطقة، سواء بدوافع قومية، أو وُظِّفُوا من جهات خارجية. ورغم التقارب بين إيران وأذربيجان فإن الرئيس الإيراني إلهام علييف لا يفوت فرصة من أجل تأكيد الحقوق والهوية الثقافية للأذريين في إيران، ودائمًا ما يطالب علييف بأن يكون التعليم للأذريين في المنطقة التي سقطت فيها طائرة الرئيس إبراهيم رئيسي باللغة الأذرية، وليس باللغة الفارسية.
السيناريو الثالث: صراع الأجنحة
رغم القدرة الكبيرة التي أظهرها الرئيس إبراهيم رئيسي في توحيد صفوف المحافظين منذ توليه الحكم عام 2021، فإن هناك من يطرح فرضية أن الجناح الأصولي نفسه غير موحد، وليس لديه إجماع على أن يخلف رئيسي المرشد الأعلى على خامنئي. ووفق هذه الفرضية، فإن هذا الجناح يريد أن يكون “مجبتي خامنئي”، نجل المرشد الأعلى، الذي بلغ 55 عامًا هذا العام، هو المرشد القادم؛ ومن ثم، وفق هذا السيناريو، تم التخلص من إبراهيم رئيسي بوضع متفجرات على المروحية في طريق عودتها من مكان السد إلى تبريز. ويستند أصحاب نظرية المؤامرة هذه إلى أن الطائرتين المرافقتين للرئيس رئيسي عادتا بسلام، رغم مرورهما بالظروف الجوية نفسها التي مرت بها طائرة الرئيس رئيسي، وأن افتتاح سد مثل هذا لا يستحق أن يفتتحه الرئيس بنفسه، بصحبة وزير خارجيته.
السيناريو الرابع: العقوبات الأمريكية
المتهم هنا هو العقوبات الأمريكية على قطاع الطيران المدني الإيراني، التي حرمت الطائرات الإيرانية من تجديد قطع الغيار اللازمة للطائرات المدنية التي باتت قديمة ومتهالكة، ووفق كل الصور التي نشرتها الأقمار الصناعية عن المروحية التي كان الرئيس الإيراني على متنها، تقول الصور إنها طائرة متهالكة وقديمة، أُنتجت منذ أواخر الثمانينيات، وهي طائرة إيطالية الصنع، أمريكية الطراز، من نوع “بيل 2012″، وتحتاج إلى قطع غيار من الولايات المتحدة، التي فرضت منذ عام 2010 عقوبات على إيران، تشمل قطع غيار الطائرات، وهو ما أدى إلى كثير من حوادث الطائرات المدنية، ربما كان آخرها في مارس (آذار) 2021، عندما تحطمت مروحية كانت تقل وزير الرياضة حميد سجادي وعددًا من مرافقيه، كما نجا الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد من حادث طائرة مماثل عام 2013، وهذا ما دفع وزير الخارجية الإيراني السابق جواد ظريف إلى اتهام الولايات المتحدة بقتل الرئيس رئيسي ومن معه؛ من خلال حرمان إيران من قطع غيار الطائرات المدنية.
السيناريو الخامس: الخطأ أو التآمر البشري
ويفسر هذا السيناريو عودة الطائرتين الأخيرتين سالمتين بعد عبور التحديات الجوية نفسها، وهو ما يطرح أسئلة كثيرة عن نجاح المناورة الجوية التي نفذها قائدا الطائرتين الأخيرتين، وعدم نجاح قائد طائرة الرئيس في هذه المناورة، والطبيعي أن يكون قائد طائرة الرئيس أكثر كفاءة واحترافية من قادة الطائرتين الأخيرتين، وهو ما يطرح سؤالًا عن إمكانية تورط قائد طائرة الرئيس رئيسي نفسه في إسقاط الطائرة.
رسم الدستور الإيراني خريطة طريق واضحة لعدم حدوث فراغ دستوري أو رئاسي من خلال مواد الدستور، خاصةً المادتين 130 و131، والتعديلات التي دخلت عليهما عام 1989، وقد تكررت هذه المأساة من قبل في التاريخ الإيراني عندما اغتيل الرئيس محمد علي رجائي في 30 أغسطس (آب) عام 1981، وهو الرئيس الثاني بعد ثورة عام 1979، وكانت أوضاع إيران آنذاك أصعب من الوقت الحالي؛ حيث كانت حربها مشتعلة مع العراق، كما أن اغتيال الرئيس رجائي كان بعد 28 يومًا فقط من توليه المنصب، ومع ذلك تجاوزت إيران هذه العقبة؛ لأن النظام السياسي يقوم على توزيع عناصر القوة على أكثر من مؤسسة، مثل مجمع تشخيص مصلحة النظام، والبرلمان، وهيئة القضاء الأعلى، وكل هذا يساعد على تجاوز أي عثرات أو أمور طارئة، كما حدث في تحطم طائرة الرئيس رئيسي.
وتتضمن خريطة الطريق أن يتولى النائب الأول للرئيس، وهو محمد مخبر، السلطة التنفيذية لمدة 50 يومًا، تُجرى خلالها الانتخابات الرئاسية، وتشير كل المؤشرات إلى أن الفائز بالرئاسة الإيرانية القادمة سوف يكون من “معسكر المحافظين”، وهو ما يعني عدم حدوث تغيير كبير في السياسة الداخلية أو الخارجية الإيرانية.
رغم الحادث المأساوي لتحطم طائرة الرئيس رئيسي، والحزن العارم عليه، سواء في إيران أو في المنطقة، فإن هذا الحادث كشف عن “المساحات المشتركة” الكبيرة بين إيران والدول العربية، فكل الدول العربية- بلا استثناء- أكدت دعمها ومساندتها لإيران دولةً وشعبًا منذ الدقائق الأولى لاختفاء طائرة الرئيس رئيسي، ليس هذا فقط؛ بل هناك دول عربية عدة، مثل الإمارات، والسعودية، ومصر، عبّرت عن استعدادها للمساعدة بكل ما تملك من أجل تقديم جميع أشكال الدعم لإيران، وهي روح جديدة تهب على العلاقات العربية الإيرانية، بما يقول إن المنطقة تتحرك نحو تعاون نوعي وتاريخي بين إيران والإقليم العربي؛ بهدف تعزيز السلام والاستقرار في المنطقة، وهو سيناريو يشبه سيناريو العلاقات العربية التركية بعد زلزال 5 فبراير (شباط) 2022، عندما تعاطفت الدول العربية وقدمت مساعداتها لتركيا والمنكوبين من الزلزال، وهو ما أثمر عودة قوية للعلاقات التركية العربية.
الواضح أننا أمام “هندسة جديدة” لإقليم الشرق الأوسط، تقوم على سلسلة من المبادئ الجديدة، وهي “تبريد الصراعات”، و”تهدئة التوترات”، والبحث عن مساحات جديدة من القيم والمصالح المشتركة لبناء شرق أوسط خالٍ من الأزمات، بما يجعل المنطقة العربية، ومن خلفها إقليم الشرق الأوسط، في أقرب نقطة من “تصفير المشكلات”، بعد أن تنتهي الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.