لقد أحدث الهجوم الإرهابي على موسكو في 22 مارس (آذار) 2024 صدى عميقًا داخل المجتمع البحثي، وانغمست محاولات كثيرة وجادة في كشف ملابسات الحادث، وحاولت استشراف دلالاته وتأثيراته في الساحة الدولية، فدارت السرديات بين سرديتين أساسيتين بين تدبير أوكرانيا والغرب للحادثة كمدبر للهجوم الإرهابي، وبين افتعالها من جانب موسكو لتوجّه الاتهام إلى أوكرانيا، لكن الإشكالية التي ستعترض الباحثين هي كم المعلومات المتاحة عن توصيف الحادثة وطبيعتها- لا في يوم وقوعها وإنما في المراحل السابقة عليها- يستطيع من خلالها الباحث تكوين إطار تحليلي، لكن غياب هذه المعلومات يصعب من عملية الكشف عن حقائق الحادثة؛ لذا ينتقل هذا البحث إلى ما سيترتب عن تلك الحادثة بتحليل إدراك وتصورات القيادة الروسية، وخاصةً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
فلقد أثر الهجوم الذي تبناه تنظيم الدولة الإسلامية على قاعة مدينة كروكوس في موسكو، تأثيرًا بالغًا في النسيج الاجتماعي والسياسي في روسيا، وبرز أثره في علاقاتها الدولية، بما أسفره من خسائر فادحة في الأرواح، ومن الطبيعة الزمكانية للحادث، فلم يكشف هذا الحادث عن نقاط الضعف داخل جهاز الأمن الروسي فحسب؛ بل ألقى الضوء أيضًا على تعقيدات الإرهاب الدولي، وعلى الرقعة الجيوسياسية التي تشمل سياسة روسيا الخارجية، والتفاعل الدقيق بين الحوكمة الداخلية والدبلوماسية الخارجية، فلتحليل التأثير المتعدد الأوجه لهذا الهجوم، من الضروري فهم تداعياته الداخلية، وتأثيره في السياسة الخارجية، والديناميات الجيوسياسية الأوسع نطاقًا.
يتسم النسق العَقَدي للرئيس بوتين- بشكل خاص- والقيادة الروسية بشكل عام، برؤية متماسكة للعالم، تفرض على القيادة أن تتسم سياستها بالاتساق بين مستوى السياسة الداخلية والسياسة الخارجية. وقد مثل الهجوم الإرهاب تهديدًا حقيقيًا لهذا التماسك، بالنظر إلى طبيعة النخب الروسية التي تصفها بعض الكتابات بغلبة التوتر، وفقد الأعصاب في حالات التهديد الداخلي، بما يؤدي إلى اتخاذها قرارات سريعة تتسم بالطابع التغييري الجذري. يمكن فهم سبب هذه القرارات بفهم كيف عرفت القيادة الروسية الهجوم الإرهابي، وسكنته في بنيتها المعرفية. وتجدر الإشارة قبلها إلى السياق الذي سبق وقوع الهجوم الارهابي:
فتشير بعض الأدبيات أن التعديل الوزاري المتوقع حدوثه في شهر مايو في روسيا، هو الذي أدى بصراع النخب داخل جهاز الأمن الروسي إلى التراخي في إحباط الهجمة الإرهابية، مدعمين الرأي بانسحاب سيارة شرطة كانت بجوار المسرح قبل بدء الهجوم الإرهابي[2].
تدور السياسة الروسية في مجملها في الفترة الراهنة في فلك رؤية تعددية للنماذج الإنسانية والحضارية، وتسمح للرئيس بوتين أن يحافظ على التقاليد الامبراطورية على المستوى الداخلي، والحصول على دور فاعل في الساحة الدولية؛ لذا نجد من أول تصريحات بوتين أنه فك الارتباط بين الفاعل المباشر للهجوم- وهو تنظيم الدولة الإسلامية- وبين الإسلام، على أساس أن الإرهاب لا دين له، وأكد في خطابه “أنهم لن يستطيعوا أن يفرقوا بلدنا المتعدد الأعراق”.
بالإضافة إلى كون هذه السردية تهدد الأمن الروسي بشقيه الداخلي والخارجي، ولا تخدم المصالح الروسية، فالسردية الروسية تؤكد على بلد متعدد الأعراق، عالم متعدد الأقطاب[3]. فعلى المستوى الداخلي، يعيش ملايين المسلمين من الروس والمقيمين في روسيا، لا تسطيع روسيا التخلي عن دورهم، خاصة في الظروف الداخلية التي تواجهها روسيا؛ بنقص حاد في العمالة تحتاج فيه إلى مواطني آسيا الوسطى. كما قد يؤدي رد الفعل المتسرع الذي يستهدف المهاجرين إلى تفاقم التوترات الاجتماعية، ويؤثر في العلاقات الثنائية مع دول آسيا الوسطى، ويحتمل أن يؤدي إلى تغذية التطرف بدلاً من تخفيفه[4].
وعلى المستوى الدولي، فإن العالم المتعدد الأقطاب الذي يحقق آمال السياسة الخارجية الروسية ومصالحها يقوم على تعدد النماذج الحضارية، ومنها الدول الإسلامية- بشكل أساسي- بالإضافة إلى المصالح الروسية القائمة بالفعل في المنطقة التي تحتلها الدول الإسلامية، وما تمثله من ثروة مادية وثقافية مهمة جدًّا للدولة الروسية.
لذا فإن كان الهجوم الإرهابي في كروكوس سيؤثر- بلا شك- في السياسة الخارجية الروسية، فإنه سيكون في الاتجاه الأوكراني- الذي اتهمه الرئيس الروسي مباشرة بالتورط في تنفيذ الهجمة الإرهابية- وليس في اتجاه آسيا الوسطى، اللهم إلا أن تجد الحكومة الروسية لنفسها مدخلًا لتكثيف وجودها في دول آسيا الوسطى بذريعة تكثيف التعاون الأمني، وهو ما تفاهم بالفعل بشأنه الرئيسان الروسي والتركمانستاني بعد وقوع الهجمة الإرهابية[5].
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.