هل يعيد التاريخ نفسه؟ بمعنى، هل يخسر الرئيس جو بايدن وحزبه الديمقراطي الانتخابات الرئاسية في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل بسبب “تفتيت الأصوات” في صفوف اليسار والتقدميين كما جرى في انتخابات عامي 2000 و2016؟ فبعد دقائق قليلة من ظهور نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2000، صرخ الرئيس جو بايدن- الذي كان آنذاك سيناتور في الكونغرس الأمريكي عن ولاية ديلاوير- وقال: “لقد كلفنا رالف نادر البيت الأبيض، وكان يشير حينئذٍ للمرشح اليساري رالف نادر الذي حصل على نحو 97500 صوت في ولاية فلوريد التي لها 29 صوتًا في المجمع الانتخابي الأمريكي، وأسهم رالف نادر بذلك في خسارة المرشح الديمقراطي آنذاك آل جور، الذي خسر هذه الولاية أمام الرئيس الأسبق جورج بوش الابن بفارق 537 صوتًا فقط، وهو ما يعني أن أصوات رالف نادر كانت ستذهب إلى آل جور حال عدم وجود نادر على قائمة المرشحين لانتخابات عام 2000، وأن دخول رالف نادر الانتخابات الرئاسية سحب من الأصوات التي كان المرشح الديمقراطي آل جور سيحصل عليها.
السيناريو نفسه تكرر في الولايات المتأرجحة خلال انتخابات عام 2016، التي فاز بها دونالد ترمب ضد هيلاري كلينتون، ويتهم الديمقراطيون مرشحة حزب الخضر “جيل شتاين ” بأنها هي سبب خسارة هيلاري كلينتنون، ومنح البيت الأبيض لدونالد ترمب من خلال تفتيت الأصوات في 3 ولايات متأرجحة على الأقل، الأمر الذي منح دونالد ترمب الفوز قبل 8 سنوات.
وتسيطر هذه الأجواء السلبية على حسابات الحزب الديمقراطي، والرئيس جو بايدن في الانتخابات المقبلة، خاصة مع التقارب الشديد الذي تظهره استطلاعات الرأي حول جو بايدن ودونالد ترمب، اللذين “فازا حسابيًّا” في الانتخابات التمهيدية للحزبين، بعد أن حصل جو بايدن على دعم أكثر من 1968 مندوبًا ديمقراطيًّا، وحصل دونالد ترمب على دعم 1215 مندوبًا جمهوريًّا، فما سيناريوهات الصراع الانتخابي بين دونالد ترمب وجو بايدن؟ وهل هناك فرصة لفوز “مرشح ثالث” بمنصب البيت الأبيض، أم أن دور المرشح الثالث سيكون فقط “صانع ملوك”، و”حصانًا أسود” في الانتخابات المقبلة؟
لسان حال غالبية الأمريكيين يقول إنهم سوف يختارون بين خيارين أحلاهما مر، الخيار الأول هو جو بايدن، الطاعن في السن، الذي تزيد هفواته إحراج الولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى إلى ترسيخ صورتها كأقوى دولة بأكبر جيش، وأعظم اقتصاد منذ عام 1870، في حين يتمثل الخيار الثاني في مرشح غريب الأطوار من وجهة نظر ملايين الأمريكيين، الذين يرفضون التصويت لرئيس متهم في 91 جناية، ويمكن أن تكون عقوبتها عقودًا من السجن.
وأمام هذه “الثنائية الحادة” التي تجمع بايدن وترمب للمرة الثانية، زاد الحديث عن دور “المرشح الثالث”، أو “التيار الثالث” في الانتخابات الرئاسية المقبلة؛ لعدد من الأسباب، منها:
أولًا: ثلثا الأمريكيين يرفضون بايدن وترمب
نسبة كبيرة تريد التصويت لمرشح من خارج الحزبين الجمهوري والديمقراطي، فكل استطلاعات الرأي التي جرت منذ بدء الانتخابات التمهيدية تقول إن نحو “ثلثي الناخبين” لا يريدون جو بايدن، أو دونالد ترمب، وفي الوقت نفسه يحظى المرشحون المستقلون، أو من الأحزاب الصغيرة، بنسب دعم غير مسبوقة، على سبيل المثال، قال نحو 18 % إنهم سوف يصوتون لـ”روبرت كينيدي”، ابن شقيق الرئيس الأمريكي الراحل جون كينيدي، كما يوجد مرشحون آخرون سوف يحصلون على نسب ليست قليلة، مثل مرشحة حزب الخضر “جيل شتاين”، و المرشح المستقل “كورنيل ويست”، ويظهر التأثير السلبي لمرشحي “التيار الثالث” على الديمقراطيين عند تحليل استطلاعات الرأي في ولايات كانت ديمقراطية بامتياز، مثل ولاية كاليفورنيا، التي توصف مع نيويورك بأنها معقل الديمقراطيين، فقد كشفت آخر الاستطلاعات أن الرئيس جو بايدن سوف يفوز على دونالد ترمب في هذه الولاية بهامش أقل من انتخابات 2020، فالمعروف أن بايدن فاز على ترمب عام 2020 بفارق 29 % منحته نحو 5 ملايين صوت، وهو هامش تاريخي في الانتخابات الأمريكية، لكن الاستطلاعات هذا العام تقول إن بايدن يتقدم على ترمب بـ18 نقطة فقط في كالفورنيا، وفي حال دخول مرشحين من “التيار الثالث” مستقلين، أو مرشحة “حزب الخضر “، سوف يتراجع الهامش إلى 12 % فقط، وهو ما يقول إن بايدن يخسر نحو 17 نقطة كاملة في معقله الديمقراطي، وقبل نحو 7 شهور كاملة على الانتخابات الرئاسية، تؤكد جميع استطلاعات الرأي أن هناك “أغلبية واضحة” تريد مرشحًا يمثل “الطريق الثالث”، فقد دعم 58 % من الناخبين الأمريكيين اختيار “شخصية معتدلة”، بعيدًا عن “الاستقطاب الحزبي”، كما أيد 60 % من الديمقراطيين مرشح “الطريق الثالث”، في حين دعم هذا التوجه 47 % من الجمهوريين، و71 % من المستقلين، وما يؤشر على قوة هذا المسار أن هناك 66 % من الشباب من مختلف الانتماءات السياسية أيدوا البحث عن “مرشح ثالث”، وقال 63 % إنهم لا يريدون ترشح بايدن مرة أخرى، في حين رفض 55 % ممن شاركوا في الاستطلاع ترشح ترمب مجددًا.
ثانيًا: الولايات المتأرجحة
وهي مشكلة تزداد حدتها للديمقراطيين والرئيس جو بايدن، وخير مثال على هذا ما جرى في ولاية ميشغان، حيث قال نحو 100 ألف من المسجلين في الحزب الديمقراطي إنهم لن يصوتوا لجو بايدن بسبب رفضه وقف إطلاق النار في غزة، وسبق أن فاز الرئيس بايدن على غريمه دونالد ترمب بنحو 10 آلاف صوت فقط في ميشغان عام 2020، وصوت لبايدن نحو 130 ألف من أصول عربية وإسلامية، وهؤلاء قالوا إنهم لن يمنحوا أصواتهم لجو بايدن ودونالد ترمب، وهو ما يعني أن تلك الأصوات سوف تذهب للمستقلين ومرشحي “التيار الثالث”. وفي ظل “صلابة الكتلة الانتخابية” لترمب، فإن التأثير السلبي وفق كل هذه الحسابات سوف يصب في صالح ترمب، ومع أن الدعم لشتاين وويست لا يزيد في بعض الولايات على 2 أو 3 %، فإن هذه النسبة سيكون لها تأثير كبير في الولايات المتأرجحة، كما حدث بين آل جور وجورج بوش الابن عام 2000.
ووفق استطلاع رأى لصالح مجلة الإيكونوميست جرى في شهر مارس (آذار) الجاري، فإن بايدن يتراجع عن ترمب بنحو 1.9 %، لكن إذا خُصِمَت الأصوات التي يحصل عليها مرشحو “التيار الثالث” فسوف تزيد الفجوة إلى 4.5 %، وهو معدل يزيد على “نسبة هامش الخطأ” في أي استطلاعات للرأي، وهو ما يؤكد مدى تأثير مرشحي “التيار الثالث” في نتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة، ويفاقم هذا الأمر أن “الكتلة الصلبة” الداعمة لجو بايدن بلغت 23 % فقط من إجمالي الناخبين، في حين أن “الكتلة الصلبة” الداعمة للمرشح دونالد ترمب تزيد على 48 % .
ويزيد أهمية “التيار الثالث” ودورها في الولايات المتأرجحة أن فوز دونالد ترمب على هيلاري كلينتنون في انتخابات 2016 جاء بهوامش بسيطة جدًّا، خاصة في ولايات مثل بنسلفانيا، التي فاز فيها ترمب بأغلبية 47 ألفًا و292 صوتا، وفي ويسكونسن بأغلبية بـ22 ألفًا و748 صوتًا، وكان يمكن لهيلاري كلينتنون أن تفوز في هذه الولايات ما لم تكن “جيل شتاين”، مرشحة حزب الخضر، أو مرشح “الحزب التحرري” جاري جونسون، على ورقة الاقتراع، فقد حصل جونسون في هذه الولايات على نحو 2.5 % من الأصوات، ويستند الديمقراطيون إلى سلسلة من الحسابات في رفض دخول “مرشح ثالث”، منها أن مجموع ما حصلت عليه هيلاري كلينتون ودونالد ترمب 129 مليون ناخب، وهو ما يساوي 94.2 % فقط من إجمالي الذين شاركوا في انتخابات 2016، وهو ما يقول إن نحو 7 ملايين صوت تشكل 5.8 % ذهبت إلى مرشحي “التيار الثالث”، وهو ما يعني أن “مرشح حزب الأحرار” عام 2016 حصل على عدد أصوات بلغ “أضعاف الفارق” الذي خسرت به كلينتون في عدة ولايات حاسمة.
ثالثًا: تنامي دور حركة “لا للملصقات”
وهي حركة تدعو إلى انتخاب رئيس من الوسط، وتقول إن جو بايدن دفع الحزب الديمقراطي ناحية “اليسار المتطرف”، في حين يدفع دونالد ترمب الحزب الجمهوري إلى “أقصى اليمين”، وإن أمريكا تحتاج إلى مرشح ينتمي إلى “الوسط” في الحزبين، وتصف هذه الحركة وغيرها من الحركات المشابهة كلًا من بايدن وترمب بأنهما مرشحان “غير فاعلين، وغير قويين”.
لم يحدث أن فاز مرشحو “التيار الثالث” في الانتخابات الأمريكية منذ استقلال الولايات المتحدة، لكن حالة الانقسام والتشظي السياسي التي تمر بها الولايات المتحدة في الوقت الحالي تجعل مرشحي “التيار الثالث” في وضع أفضل من كل المحاولات السابقة؛ لعدد من الأسباب، منها:
1- تكتلات حزبية جديدة
تشهد الولايات المتحدة ظاهرة جديدة تقوم على “اندماج الأحزاب والحركات السياسية”، إذ يسعى المرشح الديمقراطي السابق للرئاسة “أندرو يانج”، والحاكمة الجمهورية السابقة لولاية نيوجيرزي “كريستين تود ويتمان”، إلى بناء تحالف سياسي “وسط”، من خلال دمج مجموعة من الحركات السياسية الأمريكية، مثل حركة “رينيو أمريكا” (تجديد أمريكا)، التي تأسست عام 2021، وتضم كبار المسؤولين من إدارات جمهورية وديمقراطية مختلفة، بالإضافة إلى حزب “إلى الأمام”، الذي انشق غالبية أعضائه عن الحزب الديمقراطي، وحركة “سيرف أمريكا ” التي أسسها عضو الكونغرس الجمهوري ديفيد جولي، وتضم ديمقراطيين وجمهوريين ومستقلين، كما شهدت الولايات المتحدة خلال الآونة الأخيرة ظهور حركات سياسية جديدة، منها تأسيس السيناتور المعتدل عن ولاية وست فرجينيا جو مانشين حزب “بلا تسمية” ،NoLabels
ومعروف عن جو مانشين أنه يختلف مع الديمقراطيين والجمهوريين، ودائمًا ما يبحث عن “طريق ثالث”، لكنه حتى الآن يرفض الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة.
2- رفض النهجين الجمهوري والديمقراطي
ويتجسد ذلك في يقين البعض بأن مرشحي “التيار الثالث” باتوا أمام فرصة تاريخية بسبب تزايد الأصوات الاحتجاجية التي ترفض نهج الحزبين الديمقراطي والجمهوري بداية من عام 2016، عندما دعم الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون على حساب السيناتور بيرني ساندرز في الانتخابات التمهيدية عام 2016، ويعتقد أصحاب هذا التيار أن إصرار الحزب الديمقراطي على ترشيح هيلاري كلينتون بدلًا من بيرني ساندرز أهدر ملايين الأصوات، كما يعتقدون أن ترشيح ترمب من جديد سوف يؤدي إلى عزوف الملايين أيضًا عن الإدلاء بأصواتهم، وأن وجود “المرشح الثالث” سيكون بمنزلة “تنويع للخيارات” أمام الناخب الرافض لخيارات الحزبين الجمهوري والديمقراطي.
3- التغيرات المناخية وأحزاب الخضر
فقد أدت التغيرات المناخية إلى زيادة غير مسبوقة لداعمي “حزب الخضر”. وفي دليل جديد على رفض مرشحي الجمهوريين والديمقراطيين، جاءت كل الاستطلاعات خلال عام 2024 تقول بارتفاع شعبية الأحزاب الأخرى، مثل حزب “إلى الأمام”، وحزب “الأحرار”، و”الحزب الدستوري”، و”حزب التحالف”، و”الحزب الاشتراكي”، و”حزب التضامن الأمريكي”.
4- شيخوخة النخبة السياسية
لهذا قامت دعاية المرشحة الجمهورية نيكي هايلي- قبل انسحابها من السباق- على رفض ترشح كبار السن فوق 75 عامًا للمناصب الرئاسية، وسبق أن قال 59 % من الأمريكيين إن صحة بايدن لن تساعده على أداء مهام وظيفته حتى الشهر الأول من عام 2029، وكلما حدثت هفوات ومشكلات صحية للرئيس بايدن زاد الإحساس بضرورة أن يكون هناك “مرشح ثالث”، خاصة أن دونالد ترمب سوف يبلغ 78 عامًا العام الحالي، ويرى الداعمون “للمرشح الثالث” أن انتخاب بايدن أو ترمب سوف يسهم في “شيخوخة” النخبة السياسة الأمريكية بعد أن عانى كثيرًا زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونويل الذي تجاوز الثمانين عامًا، والأمر نفسه فيما يتعلق بنانسي بيلوسي التي تسعى إلى الفوز في الانتخابات المقبلة، والعودة إلى قيادة مجلس النواب، مع أنها تجاوزت 82 عامًا.
كل المؤشرات تؤكد صعوبة فوز أيٍّ من مرشحي “التيار الثالث” في الانتخابات الأمريكية، لكنّ مرشحي هذا التيار سوف يكون لهم تأثير كبير في وصول المرشح الديمقراطي أو الجمهوري إلى البيت الأبيض.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.