بحلول 15 مارس (آذار) 2024، ستسحب الهند- غاضبة- قواتها العسكرية من جُزر المالديف وفقًا لرغبة حكومة الرئيس المالديفي محمد مويزو، الذي اعتمد خلال حملته الانتخابية على فكرة “خروج الهند”، وإعادة النظر في المصالح التجارية بين الطرفين، وصنع علاقة متوازنة تحفظ سيادة جُزر المالديف. أدت إستراتيجية مويزو إلى فوزه في الانتخابات بنسبة (54 %) من الأصوات في سبتمبر (أيلول) 2023. وألغت المالديف مؤخرًا اتفاقًا رئيسًا يتضمن مسحًا للمياه، واختار مويزو الصين في إحدى أولى زياراته الخارجية في يناير بعد أن أصبح رئيسًا، وهناك وقع على (20) اتفاقية، من بينها اتفاقية للتعاون السياحي.
توجد القوات الهندية في جزر المالديف منذ عام 1988، في نوفمبر (تشرين الثاني) من ذلك العام، جنّد رجل الأعمال المالديفي عبد الله لطفي عددًا من المسلحين التاميل السريلانكيين لشن انقلاب ضد الرئيس المالديفي مأمون عبد القيوم. طلب القيوم على الفور مساعدة الهند، وخوفًا من استجابة الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة لنداءات القيوم للمساعدة بشكل أسرع من الهند، أرسل راجيف غاندي 1600 مظلي هندي، وثلاث سفن حربية للتدخل، وبقي بضع مئات من القوات الهندية لتدريب قوات الأمن المالديفية، وأُنشئت علاقة دفاعية تظل “ماليه” بموجبها تحت المظلة الأمنية لنيودلهي في حالة التهديدات من المتمردين أو الإرهابيين. وعلى الرغم من تأسيسها في ظل حكم الرئيس عبد القيوم، فإن هذه العلاقة نجت من الثورة الديمقراطية عام 2008، التي أوصلت زعيم المعارضة السابق محمد نشيد إلى السلطة.
كما أن تزايد المد الإسلامي في جزر المالديف أقلق الهند. ففي عام 2010، ألقي القبض على تسعة مسلحين مالديفيين في باكستان، حيث كانوا يتدربون مع حركة طالبان، في حين أسست منظمة تابعة لجماعة عسكر طيبة وجودًا لها في جزر المالديف تحت شعار الإغاثة الإنسانية بعد تسونامي في عام 2004؛ لذا عززت نيودلهي حضورها، وأوصلت البحرية الهندية الغذاء والأدوية، وعالجت المرضى في مستشفى ميداني، وأصلحت مولدات الكهرباء ومعدات الاتصالات، وأجلت الضحايا. وفي أواخر عام 2009، كانت لدى الهند خطط لتطوير البنية التحتية الأمنية في جزر المالديف، وربط جزر المالديف مع خفر السواحل الهندي ونظام الرادار الساحلي، واستغلال هذا لمواجهة جهود الصين في المحيط الهندي. وتجري الهند ما يقرب من 70 % من التدريب الدفاعي في جزر المالديف، ويتضمن هذا التعاون تدريب أكثر من 1500 من أفراد قوات الدفاع الوطني المالديفية، وتوفير الطائرات والمروحيات للمراقبة الجوية.
عام 2014، وسط أزمة مياه الشرب في جزر المالديف، سلّمت البحرية الهندية 374 طنًا من المياه المعبأة في غضون نصف يوم من مناشدات الحكومة المالديفية للمساعدة. ومنذ عام 2019، أجرى الموظفون الهنود أكثر من 500 عملية إجلاء طبي، مما أنقذ حياة 523 شخصًا في جزر المالديف. وأسهمت الهند في تطوير البنية التحتية لجزر المالديف أيضًا من خلال توفير مواد البناء والمشروعات المهمة، مثل مستشفى أنديرا غاندي الذي يضم 300 سرير، وخلال جائحة كوفيد- 19 وفرّت أيضًا الغذاء، والأدوية، وفرق المساعدة.
وتحتل الهند المرتبة الخامسة في الشراكة التجارية مع جزر المالديف، وتعتمد جزر المالديف- اعتمادًا كبيرًا- على الهند في التجارة، فضلًا عن توفير الأرز، والفواكه، والأدوية. بين عامي 1995 و2021، نمت صادرات الهند إلى جزر المالديف بمعدل سنوي قدره 10.4 %، من 31.6 مليون دولار أمريكي إلى 416 مليون دولار أمريكي، في حين ارتفعت صادرات جزر المالديف إلى الهند بمعدل سنوي قدره 22.9 %، من 230 ألف دولار أمريكي إلى 48.8 مليون دولار أمريكي.
رغم ما سبق، انتهج الرئيس محمد مويزو سياسات لتعزيز العلاقات بين جزر المالديف والصين من خلال الدخول في كثير من الاتفاقيات الاقتصادية والدفاعية، وقدم مويزو عرضًا لزيادة الاستثمار الأجنبي المباشر، والتجارة، والسياحة، في منتدى “استثمر في جزر المالديف” في الصين مطلع عام 2024. والجدير بالذكر أنه أُعلنت نية إدارته تنفيذ اتفاقية التجارة الحرة بين جزر المالديف والصين، التي لم تدخل حيز التنفيذ في الإدارة السابقة. وتسعى جزر المالديف إلى الحصول على استثمارات صينية لتوسيع المطار الرئيس، وتطوير ميناء تجاري.
تنظر الهند إلى سياسات مويزو لرفع العلاقات الثنائية بين المالديف والصين إلى شراكة تعاونية إستراتيجية شاملة على أنها تهديد مباشر لأمنها، وتشعر نيودلهي بالقلق إزاء الآثار المترتبة على الاتفاقيات العشرين الموقعة بين جزر المالديف والصين، والتي تغطي مجموعة متنوعة من مجالات التعاون، مثل السياحة، ومصايد الأسماك، والاقتصاد الرقمي، والحد من أخطار الكوارث، وقد تكون هذه مقدمة لوجود مستقبلي دائم لجيش التحرير الشعبي الصيني في جزر المالديف. ورست سفينة الأبحاث الصينية شيانغ يانغ هونغ 3 في أحد مواني جزر المالديف بعد أن سمحت لها حكومة “ماليه”، وأعربت البحرية الهندية عن مخاوفها بشأن طبيعة البيانات الناتجة عن الأنشطة البحثية الصينية في المياه الدولية، وأشارت إلى أن البيانات التي تُجمَع غالبًا ما يكون لها تطبيقات ذات استخدام مزدوج في كل من القطاعين المدني والعسكري.
مع أن مويزو أعلن أن سحب الأفراد العسكريين الهنود لا يعني السماح بدخول جنود دولة أخرى، فإن الصين تحتفظ بأكثر من (60 %) من الديون السيادية لجزر المالديف، وإذا اختارت “ماليه” استقبال جيش التحرير الشعبي الصيني، فلن يكون أمام الهند سوى قليل من الخيارات المتاحة، لكن تضرر العلاقة الإستراتيجية بين الهند وجزر المالديف يشكل خطرًا دفع جزر المالديف إلى الاعتماد الاقتصادي المتزايد على الصين، وهي نتيجة لا تستطيع الهند تحملها بالنظر إلى التداعيات الجيوسياسية الأوسع، ومخاوف الاستقرار الإقليمي. وإذا قررت نيودلهي الانسحاب الاقتصادي كوسيلة عقابية، فمن المرجح أيضًا أن يؤدي ذلك إلى تنفير السكان المحليين؛ ومن ثم الحد من نفوذ النخب السياسية التي تفضل إقامة علاقات أوثق مع الهند.
لذا يجب الحد من التوترات في العلاقة بين الهند والمالديف، والاعتراف بأن العلاقات الدبلوماسية تتشكل من خلال المصالح المشتركة والمستدامة، علمًا بأن نيودلهي مُجبرة على عدم التصعيد حتى لا تفتح مجالًا حيويًّا لبكين من خلال ضغط الأولى على جزر المالديف؛ وعلى هذا، يمكن فهم موافقة الهند على إنهاء وجودها العسكري كتخطيط طويل الأمد، أن السياسات الحالية للحكومة المالديفية قد لا تستمر، وليس هناك سبب لتوسيع الشرخ في العلاقات، ويجب أن تبقى الهند هي الحليف الأول لجزر المالديف، وأن ما يحدث الآن مِن تدهور في العلاقات يمكن ترميمه غدًا، ولكن هذا يتطلب حكمة، وصبرًا إستراتيجيًّا، وعدم الاندفاع على نحو عدائي ضد المصالح المالديفية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.