جغرافيا

أدب السجون في رواية

7000 يوم في سيبيريا


  • 27 أبريل 2024

شارك الموضوع

لم يتفق النقاد على تصنيف واضح للكتاب الذي ألفه “كارلو شتاينر Karlo Štajner “، وحمل عنوان “7000 يوم في سيبيريا”.

لقد حار النقاد، هل يصنفونه كتابًا أم رواية، وإن ذهب كثير منهم إلى تسميته “أدب الحقيقة”، فالكاتب نفسه هو البطل في أحد سجناء معسكرات العمل الجماعي في سيبيريا، نمساوي الأصل، يوغسلافي الجنسية، كان سوفيتي الهوى والعقيدة السياسية، فاستقر في الاتحاد السوفيتي منذ عام 1932، لكنه اعتقل عام 1936 لانتقاده التمايز الطبقي بين القادة والعمال في أثناء عمله مديرًا لمؤسسة الطباعة للشيوعية العالمية.

كانت هذه الطبقية مخيبة لآماله وآمال المؤمنين بالفكر الشيوعى داخل روسيا وخارجها، فقد جاء إلى موسكو محملًا بأحلام سيعيشها في المدينة الفاضلة التي داعبت خياله طويلًا، لكن فوجئ بالتمييز، فأبدى نقده علانية، مما ترتب عليه اعتقاله في غياهب السجون والمعتقلات.

الرواية حاشدة بعشرات الشخصيات والأحداث المتسلسلة التي تتناسب مع معاناة سجين قضى قرابة 20 عامًا في السجون والمعسكرات والمنفى. وهذا التسلسل البارع والدقيق لا يترك مجالًا لالتباس الأمر على القارئ في تتبعها، ربما فقط ثقل الأسماء والأعلام الروسية وتشابهها على القارئ العربي.

تناول الكاتب رحلته الطويلة في المعسكرات والسجون، ولم يعرج على حياة المدن وشوارعها، أو الحياة الاجتماعية أو الثقافية في روسيا، بل نتابع خريطة لانتقالاته وأحداثها المثيرة. تحتاج هذه الرواية بالفعل إلى خريطة جغرافية عن روسيا، وليس إلى خريطة ذهنية لتعدد انتقالات الكاتب، والأحداث، والشخصيات.

ورغم طول المدة الزمنية للأحداث والشخصيات، فإن شتاينر استخدم أسلوب السرد الشخصي والوصف وكأن للرواية بطلًا واحدًا فقط، آخذًا في الحسبان التكثيف الزمني للأحداث الذي تظهر فيه شخصيات وتختفي ليحل محلها آخرون مع ثبات الراوي صاحب السرة الذاتية.

تتألف هذه الرواية من خمسة أجزاء، قُسِم كل منها إلى فصول قصيرة، تمثِل سجلًا لتجربة إنسانية مؤلمة بكل المقاييس.

من شيوعي مخلص إلى تهمة الجستابو!

يأخذنا شتاينر في الجزء الأول من الرواية عبر رحلة اعتقاله، تاركًا زوجته “سونيا” حاملًا في شهرها الأخير، وبيته المهلهل جراء التفتيش. اقتيد إلى مقر جهاز الأمن “لوبيانكا” في وسط موسكو، ووجد نفسه وسط عشرات المقبوض عليهم- رجالًا ونساء ومراهقين وأطفالًا- لا يعرفون سبب وجودهم هناك.

يصور الكاتب سياسة جهاز الأمن بحرق الأعصاب، وتحطيم المعنويات بترك المقبوض عليهم منتظرين أيامًا وشهورًا دون تحقيق، أو إعادة التحقيق أكثر من مرة حتى يسهل السيطرة عليهم، وإتلاف أعصابهم، والاعتراف والتوقيع على التهم التى نسبت إليهم. وجهت إلى شتاينر تهمة الانتساب إلى منظمة الثورة المضادة والعمالة للجستابو الألماني، مع أنه عضو فى الحزب الشيوعى منذ عام 1919.

يكرر الراوي هنا وصف قسوة السجون الروسية “لوبيانكا- بوتيرك- لفورتوف- فلاديمير”، وردة الفعل لديه لتأكيد حجم معاناته لدى القارئ، معاناة لا يتحملها بشر.

يشير شتاينر إلى نتائج الإجراءت القمعية، وأساليب المحقق “فروشفسكى” في سجن بوتيرك باستخدامه أبشع الأساليب وأقساها؛ لإرغام السجناء على الاعتراف والتوقيع على اعترافاتهم بأن هذه السياسة أنتجت نوعين من السجناء؛ الأول متكيف، والآخر منزوٍ متدهور الصحة، ينطفىء بالتدريج كشمعة حزينة في ليل عاصف.

في حالة مغايرة تمامًا، يتسلل الكاتب إلى النفس البشرية وحالة اللامبالاة التي تصيب الأشخاص حينما يعرفون مصيرهم ولا يقعون تحت خوف الانتظار، فبعد الحكم عليه وجاهزيته للترحيل لسيبيريا لم يكن هناك توتر أو انزعاج لديه أو لدى السجناء؛ فقد عرفوا مصيرهم، وهنا يجدر بكل شخص أن يهيئ نفسه أن هؤلاء السجناء من سيقضى العمر القادم معهم، وفي سجن فلاديمير الواقع على بعد 300 كم من موسكو. ولأنه كان يعلم نوع العقاب بدأ يعترض ويرفع صوته أمام الحراس عند إهماله وقت مرضه، غير عابئ بعقوبة السجن الانفرادي التي تشبه القفص الحديدي لحيوانات السيرك، وكأن هذا التسلسل يوضح كيف يتكيف الأشخاص تبعًا للظروف.

من البحر الأبيض إلى بحر كارا

ثم تأخذنا الرواية إلى شتاء 1937 مع اهتمام شتاينر بالوصف الجغرافي للمعسكرات والأماكن والبلدات وكأنه يرسم خريطة بالمسافات للمناطق التى ينتقل إليها. ففي رحلة انتقاله للعمل في معسكرات الشرق في دودينكا  Dudinka في عمق سيبيريا، صور رحلة من العذاب والموت بقاع السفينة من جراء الزحام، ونقص مياه الشرب، وقضاء حاجتهم في جرادل، فأصيب بعضهم بالدوسنتاريا، وتوفي كثير منهم، وكأنه يعيد إلى أذهان القارئ رحلات نقل الأفارقة إلى أمريكا بعد اختطافهم واستعبادهم من جانب المستعمر الأوروبي. ثم يسرد خريطة اتجاهاتهم بداية من الإبحار في نهر سيبيريا الكبير “ينسى ويصب فى بحر كارا Kara”، حتى وصلوا إلى دودينكا.

يقع السجن في بلدة “دودينكا” غير بعيد عن مدينة نوريلسك بمبانيها العامرة بالفنون والثقافة حتى يعطى القارى فرصة ليذهب بمخيلته كيف لمدينة بها دور للمسرح والسينما والموسيقى والتعليم أن تقف غير بعيد عن عنابر بدائية يسكنها السجناء؟! ومع أن صيفها شهران فقط، وتغطى بثلوج وعواصف بشتاء طويل قاسٍ، لكن ستالين أمر بإنشاء معسكر إجباري فيها عام 1936 لاستغلال مناجم الفحم، وتحت وطأة تلك الطبيعة القاسية، دون اعتبار لمن سيعمل بها.

يرسم الكاتب لنا صورًا فنية ممزوجة بأخرى درامية قاسية يصل فيها مبلغ قساوة السياسة الروسية مداها. ومن الواقع الحقيقي الذي يعيشه، يسرد شتاينر عشق السجناء لصوت النورس البحري، فقد كان يمرر رتابة الأيام عليهم، ويتخذونه رمزًا للحرية.

على حافة الحياة

في أجواء الاعتقال نعيش مع الكاتب “الصراع من أجل الغذاء”، فقبضة الحراس، والعمل المضني في المعسكرت أدى إلى انهيار قدرات السجناء على العمل بسبب نقص الطعام؛ ومن ثم نقصت إنتاجيتهم، ويصور الكاتب الإجراءات القمعية المشددة، فكان الضرب يعجزهم عن الحركة، وأحيانًا يسقط منهم صريعًا، فلم تحتمل أجسادهم الهزيلة كل ذلك.

ينقل شتاينر صورة نقدية لاذعة لفشل السياسة الروسية فى إدارة المعسكرات، فنتيجة لنقص الغذاء أصيب أغلب السجناء بمرض الإسقربوط؛ مما أدى إلى مأساة الجوع، وترك الحراس السجناء يتقاتلون على الطعام، بل تركوا السجناء السياسيين لقمة سائغة للسجناء المجرمين. واستمرت الأعمال الوحشية من الحراس للسجناء، فتعددت حالات الهروب المحاط بالموت.

 قفز أحدهم في أثناء هروبه في صهريج صهر المعادن الذي يغلي، ولم يسلم نفسه، وهرب البعض في برارى الجليد، وآخرون تعمدوا إصابة أنفسهم بأمراض الإسهال التي لا تتحملها أجسادهم الواهنة رغبة في الموت، وآخرون أصابوا أنفسهم بتجميد الأطراف طمعًا في راحة بضعة أشهر، أو بتروا أطرافهم حتى يعملوا في أعمال أقل صعوبة من المكلفين بها. وقد جربها شتاينر نفسه، لكنه لم يفلح. كان الجوع يجبر السجناء على تناول أى شيء، ومخلفات القمامة، أو صيد الجرذان وطبخها، فأصيبوا بالتيفود.

ويقدم أيضًا صورة نقدية لنفسه، فقد سقطت شعاراته عن الفضيلة والأخلاقيات مع حرب الجوع، فحينما انتقل إلى قسم آخر من العمل في أحد معسكرات نوريلسك Norilsk، ورغم معارضته للعلاقات المحرمة بين السجناء الرجال والنساء، فإنه تعاطف مع النساء، فنظرًا إلى الظروف الشاقة في العمل بالمعسكرات، التي تتساوى فيها بعمل الرجال، وبسبب الظروف الصحية السيئة، كانت النساء تقبل على تلك العلاقات بحثًا عن فرصة للحمل حتى تنال بعض الراحة عند الحمل والولادة.

من اللافت للنظر أيضًا القيم الأخلاقية التي يتمتع بها الكاتب عند ارتكابه أي خطأ في المعسكر، واعترافه بالسرقة وقت الجوع، ومساندة الفقراء من السجناء، ورفضه دعوة النساء من نزيلات المعسكرات له رغم بعده سنوات طويلة عن زوجته، لكنه ظل وفيًا لها كما كانت هي أيضًا.  كان شتاينر ينظر إلى علاقة المرأة بالرجل في إطار شرعي فقط، ويرى غير ذلك منافيًا للقيم والأعراف، وكان يأمل الخروج من السجن ولقاء زوجته وفيًا لها.

ما قبل ستالين وما بعده

ثم يأخذنا الكاتب إلى سياق الحديث عن السياسة والجاسوسية؛ ففى النصف الثاني من الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، بدأت المعسكرات تتلقى عددًا أكبر من السجناء اليهود المتهمين بالتعاون مع الأمريكيين والألمان الذين وقعوا في الأسر خلال المعارك، وخاصة الذين ارتكبوا فظائع فى أوكرانيا، أو أسرى، ومنهم النازيون والمتعاطفون مع هتلر أو المتآمرون مع العملاء الأمريكيين، كانت أيامًا خطرة؛ لأن بعض هؤلاء يستخدمهم الأمن الروسى طعمًا للسجناء السياسيين، أو يشكلون عملاء لدول أخرى، حتى إن بعضهم من عملاء الأمريكان أراد تجنيد شتاينر ليكون مسؤولًا سياسيًا عن جيش العصابات المزمع إقامته في المعسكر للقيام بثورة، والهروب من السجون والمعسكرات.

مع أن شتاينر كان نمساوي الأصل، وعاش طويلًا في يوغوسلافيا، فإنه كان يعرف أرض روسيا جيدًا، ربما لكثرة تنقله بين المعسكرات؛ ما ساعده على تفهم جغرافية المكان، فقد انتقل من دودينكا إلى كراسنويارسك Krasnoyarsk، ومنها إلى إركوتسك، ثم إلى سجن ألكسندروفيسكي، ثم العودة إلى إركوتسك ثم تايشت الواقعة غير بعيد عن إركوتسك؛ لذلك كان متفهمًا للمسافات والمساحات الكبيرة لأرض روسيا، وربما كان جغرافيًّا بطبعه؛ لذلك كان يسخر من الألمان أو السجناء الذين يخططون للهرب دون فهم طبيعة الأراضي الروسية، وقسوة طبيعتها، والمسافات الشاسعة التي سيقطعونها في أراض ثلجية، ودرجة حرارة تصل إلى 60 تحت الصفر، وحتى إن اجتازوا حدود المعسكرات، فهل يتقنون اللغة الروسية لتحميهم من الشك في جنسيتهم؟! كان يراهم سذجًا، ولا يعرفون أيضًا طبيعة النظام الروسي القاسي.. كان السجناء يصدقون أحلامهم بالحرية.

بعد وفاة ستالين عام 1953، خفت القيود، وأصبح هناك متنفس للسجناء والكثيرين من أبناء الشعب، وفقدت إدارة السجون جزءًا من سيطرتها، فكان يمكن للبعض أن يتحدث عن فشل ستالين علانية.

الحرية

ظن المؤلف أنه بموت ستالين سينال الحرية، ولكن فوجئ أن إطلاق السراح مشروط بالعيش في المنفى بكراسنويارسك Krasnoyarsk مدى الحياة، وإلا يعاقب بالسجن 10 سنوات.

شكل النظام السوفيتي حينذاك القسوة في أبشع صورها، فتكالب على السجين الطليق ثلاثية السجن، والمعسكر، والنفي، ولأن الطليق كالعبد، لا يسمح له بالابتعاد عن المكان المحدد له، ولا زيارة مدينة أخرى، إلا بإذن؛ قضى شتاينر رحلة شاقة وطويلة بين التصاريح والانتقال إلى عدة مدن بحثًا عن عمل يناسبه، أو ملجأ للمبيت، فاستقر فى ماكلاكوفو  Maklakovo  إلى الشمال الشرقي من موسكو، ولم يخفف عنه إلا حضور ولقاء زوجته الوفية بعد 20 عامًا تقريبا.

في عام 1955، فُتحت قضية شتاينر مرة أخرى بعد تراجع الشهود عن إدانته، وفى أبريل 1956 صدر خبر رد اعتباره وإسقاط التهم عنه، وبعد تدخل السفير اليوغسلافى في روسيا عاد كارلو وزوجته الروسية لبلاده بعد ربع قرن من قدومه إلى بلد أراد أن يحقق فيها أحلامه فسرقت شبابه.

حينما عاد كارلو شتاينر (1902-1992) إلى يوغوسلافيا السابقة في يوليو 1956، كتب قصة اعتقاله عام 1958، لكن لظروف سياسية لم يستطيع نشرها إلا عام 1971 ونقلت إلى عدة لغات ومنها العربية.

المدهش في هذا الكتاب أنه رغم طول المدة الزمنية للمؤلف في معسكرات سيبيريا، فإنه استطاع الاحتفاظ بكل هذه الذكريات والأحداث بتسلسلها وترتيبها حتى أخرجها على شكل كتاب، فلم يكن من الممكن كتابتها بالمعسكر لعدم السماح للسجناء بالاحتفاظ بأي أوراق للكتابة غير مراسلات الأهل فقط.

الترجمة العربية

نقل هذا الكتاب إلى العربية الأديب والطبيب السوداني فيصل محمد مكى أمين، الذي ولد في ولاية أم درمان، وتلقى تعليمه الأولى في السودان، ثم التحق بكلية الطب بجامعة زغرب بيوغوسلافيا سابقا ( وعاصمة كرواتيا حاليا)، ثم التحق بكلية علم النفس لتعليم وتأهيل ورعاية المعوقين، وواصل عمله الأكاديمي حتى مرحلة الأستاذية بتخصص النساء والتوليد.

خلال إقامته بيوغوسلافيا، وتنقله بين عدة دول، ومنها ألبانيا والسودان، نقل تجاربه ويومياته بعدة مقالات نشرها في الصحف السودانية فضلًا عن كثير من المؤلفات الطبية والأدبية، ومنها: صرخة في وادي الإنسانية، وتعليم المعاقين وتأهيلهم ورعايتهم، ومجموعة قصصية بعنوان “يا عقلي سافر بالسلامة”، ومجموعة أخرى بعنوان “جزيرة الأقمار السبعة.

 ازداد عشق الطبيب السوداني لقراءة الأدب، ومن بين الكتب التى اطلع عليها “٧٠٠٠ يوم في سيبيريا”، لمؤلفه “كارلو شتاينر” Karlo Štajner، في نسخته اليوغسلافية، فأقدم على ترجمته، وهكذا أصبحت النسخة العربية متاحة إلى جوار اللغات الأخرى التي ترجم إليها الكتاب، ولا سيما الألمانية، والإنجليزية، والفرنسية، والتشيكية، والصينية.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع