هذه لحظتكم؛ إما أن تسقطوا الأسد، وإما أن تسقطوا أنتم إلى الأبد”. كان هذا نص رسالة أرسلتها المخابرات الأمريكية إلى ما يسمى “جيش تحرير سوريا”، الذي تتولى المخابرات الأمريكية والبريطانية تدريبه وتمويله والإشراف عليه منذ فترة طويلة. الرسالة نشرتها صحيفة الجارديان البريطانية في 19 ديسمبر (كانون الأول) الحالي نقلًا عن قادة ومقاتلين في جيش تحرير سوريا، أكدوا أن هذه الرسالة وصلت إليهم قبل تحرك الفصائل المسلحة من إدلب باتجاه حلب بنحو 3 أسابيع فقط من إسقاط حكومة الأسد.
مضمون هذه الرسالة وتوقيتها يؤكد أن الولايات المتحدة ضالعة وفاعلة في جميع الخطوات التي جرت في سوريا منذ مارس (آذار) 2011 وصولًا إلى يوم 8 ديسمبر (كانون الثاني) الجاري، وسقوط نظام الأسد، وهذا ما يطرح سلسلة طويلة وكبيرة من المسارات الجديدة لواشنطن في سوريا، وكيف يمكن أن تحقق هذه المسارات الأهداف والمصالح الأمريكية، خاصة تلك التي تتعلق بصراع واشنطن الجيوسياسي مع كل من روسيا والصين؟ وهل يمكن تحويل سوريا إلى “مركز تدريب وتأهيل” لكل الفصائل المسلحة والمناهضين للاستقرار ليس في المنطقة العربية والشرق الأوسط فقط؛ بل لمنافسي واشنطن على الساحة الدولية، مثل روسيا والصين؟ والى أي مدى تسهم المتغيرات السياسية والميدانية الجديدة في المشرق العربي في تعديل مسارات “المواجهة والاحتواء” وتغييرها على المستوى العالمي؟
مع أن الرئيس المنتخب دونالد ترمب أكد أكثر من مرة أنه لا يوجد لواشنطن مصالح في سوريا، وأنه لا ينبغي لبلاده أن تتورط فيما يجري في بلاد الشام فإن كل التحركات الأمريكية مع حلفائها الغربيين، سواء في الميدان، أو في الغرف المغلقة، تؤشر إلى اعتقاد واشنطن بأن هناك فرصة تاريخية لتحقيق سلسلة من المكاسب الجيوسياسية عبر سلسلة من المسارات في الساحة السورية، وهذه المسارات هي:
أكثر الأهداف التي تعمل عليها واشنطن في الوقت الحالي هو طرد روسيا نهائيًّا من سوريا، بعد أن ظلت القوات الروسية على الأراضي السورية أكثر من 50 عامًا، حيث كانت القاعدة العسكرية الروسية في سوريا منذ أيام الاتحاد السوفيتي السابق حتى هذا الشهر شوكة في ظهر الهيمنة الاقتصادية والعسكرية والأمنية لواشنطن، خاصة في مرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة. ومنذ 30 سبتمبر (أيلول) 2015 زاد الوجود العسكري الروسي على الأراضي السورية، لكن مع رحيل نظام الأسد في 8 ديسمبر (كانون الأول) بات كل الحديث الغربي يرتكز على كيفية إنهاء الوجود العسكري الروسي، ليس فقط في سوريا؛ بل في ليبيا ومنطقة الساحل والصحراء في إفريقيا، وجنوب الصحراء الإفريقية الكبرى، وهدف واشنطن من هذه الخطوة هو تأمين “الجناح الجنوبي” لحلف الناتو؛ لأنها كانت ترى في وجود السفن العسكرية الروسية شرق البحر المتوسط تحديًا عسكريًّا لدول جنوب حلف شمال الأطلسي (الناتو)، خاصة القواعد العسكرية للحلف في إيطاليا واليونان وتركيا وبلغاريا ورومانيا، وزادت هذه القناعة الأمريكية عندما زارت سفن عسكرية روسية من أسطول بحر الشمال الروسي قاعدة طرطوس البحرية على الساحل السوري بعد نشوب الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير (شباط) 2022، وحتى اليوم لا يوجد شىء واضح يتعلق بمستقبل القواعد العسكرية الروسية في سوريا، فما زالت روسيا تدرس خياراتها، ووتواصل مع الحكام الجدد في سوريا، كما عرض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الاستفادة من إمكانات القواعد الجوية والبحرية الروسية في سوريا من أجل دعم العمل الإنساني.
لكن المؤكد أن “الرباعي الفاعل” في سوريا لا يريد استمرار القواعد العسكرية الروسية في بلاد الشام، وهذا الرباعي هو:
1- تركيا؛ الغريم التاريخي لروسيا، حيث يتهم الأتراك روسيا القيصرية بأنها كانت وراء تفكك الإمبراطورية العثمانية، وأنه حان الوقت للرد على هذه الهزيمة التاريخية.
2- إسرائيل التي كانت تتوجس من دعم روسيا لحكومة الأسد طوال ما يقرب من 10 سنوات متواصلة، وترى إسرائيل في رحيل القواعد العسكرية الروسية من سوريا مع تدمير الجيش السوري بالكامل أنها باتت تعمل بحرية مطلقة فوق الأجواء السورية حتى الحدود الإيرانية.
3-الفصائل المسلحة التي ترى أن تأخر سيطرتها على دمشق من 2011 إلى 2024 كان بسبب دعم موسكو لدمشق في هذه الفترة، كما أن كثيرًا من الفصائل المسلحة التي تعمل مع هيئة تحرير الشام لا ترغب في بقاء القواعد العسكرية الروسية التي قتلت كثيرًا من قادة هذه الفصائل وعناصرها منذ سبتمبر (أيلول) 2015.
4- الولايات المتحدة التي ترى أنها تحقق نصرًا إستراتيجيًّا ضد روسيا بطردها من سوريا التي كانت تعد أهم منفذ بحري وسياسي لموسكو خارج الأراضي الروسية بعد عام 2014 عندما سيطرت روسيا على شبه جزيرة القرم، وتراهن واشنطن على أن خروج روسيا من سوريا لن يكون مقدمة لإنهاء الوجود العسكري الروسي في ليبيا وإفريقيا فحسب؛ بل ربما في أمريكا اللاتينية أيضًا.
منذ اندلاع الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، وعجز الولايات المتحدة عن الإفراج عن رهائن سفارتها في طهران لمدة 444 يومًا، بدأت الولايات المتحدة تتبني سياسة “الاحتواء المزدوج”، بمعنى أنها تعمل مع طرفي أي صراع، وتبنت هذه السياسة مع كل من العراق وإيران خلال الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت 8 سنوات، وهذا ما تفعله مع “الأكراد والأتراك”، فالولايات المتحدة حليفة للأكراد، وهي من تدعمهم بالسلاح والذخيرة والتدريب والحماية، وفي الوقت نفسه هي الحليف الأول لتركيا شريكتها في حلف (الناتو) منذ دخول أنقرة حلف الأطلسي عام 1952، وتستخدم واشنطن الأكراد في سوريا “كقوة حاجزة ومانعة” للطموحات التركية في المنطقة، بما فيها سوريا والعراق، ولمساومة أنقرة للابتعاد عن موسكو، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات التجارية والاقتصادية بين روسيا وتركيا، وتضغط واشنطن في الوقت نفسه على الأكراد لينفذوا كل الأجندة الأمريكية في الأراضي السورية، خاصة في منطقة شرق الفرات، سواء عبر العمل مع 900 جندي أمريكي في “قاعدة التنف”، أو تأمين سيطرة الولايات المتحدة على حقول الغاز والنفط السوري، وسوف تظل الولايات المتحدة تعمل على المسارين التركي والكردي”بالتوازي” لتحقيق أكبر المكاسب الخاصة بها هي فقط، حتى لو قاد هذا الأمر إلى تدمير الإدارة الذاتية للأكراد، وقد يرتد هذا الأمر نفسه على الدولة التركية التي تضم نحو 20 مليون كردي في تركيا التي قامت بثلاث عمليات عسكرية ضد أكراد سوريا من عام 2016 حتى عام 2019، وكانت أنقرة ترغب في الولاية الأولى للرئيس ترمب في بناء منطقة عازلة على حدودها مع سوريا بعمق 35 كم، حيث يوجد نحو 20 ألف جندي تركي في شمال سوريا وشمال شرقها، وتشير كل المعلومات الميدانية إلى أن تركيا سوف تحاول اجتياح مناطق الأكراد في شمال سوريا خلال الأيام والأسابيع المقبلة، وهو ما سيكشف موقف واشنطن من حماية الأكراد السوريين الذين سبق أن تخلى عنهم الرئيس المنتخب دونالد ترمب عام 2019، وطلب من أردوغان حينذاك أن يأخذ سوريا كلها.
من يقرأ كتاب “مسجد ميونخ” للباحث الاستقصائي الأمريكي أيان جونسون، سوف يكتشف أن الولايات المتحدة بدأت بالاستثمار في الفصائل المسلحة ذات الصبغة الأيديولوجية منذ نهايات الحرب العالمية الثانية، وهي الفصائل التي يطلق عليها في الغرب “الجماعات الجهادية”، وتجلى ذلك في إرسال عشرات الآلاف من هؤلاء لقتال الاتحاد السوفيتي السابق في أفغانستان من عام 1979 حتى عام 1989، وهو ما أسهم بقوة في تفكيك الاتحاد السوفيتي، وما تشهده سوريا يؤكد استخدام “السيناريو نفسه” و”البندقية عينها” ليس فقط لطرد الروس والإيرانيين من سوريا؛ بل ربما لنقل المجموعات القتالية الأيديولوجية، أو استنساخ تجربتهم في الشرق الأوسط وخارجه.
منذ مارس (آذار) 2011، سعت الولايات المتحدة إلى تحويل سوريا إلى “مركز تأهيل وتدريب” لكل العناصر والمجموعات المستعدة للقتال ضد روسيا والصين؛ ولهذا دربت الولايات المتحدة المجموعات القوقازية، وخاصة الشيشانية والتتارية والأنجوشية، من أجل العودة والقتال ضد الدولة الروسية في روسيا؛ ولهذا قال الرئيس بوتين مقولته الشهيرة عام 2015: “نذهب إلى سوريا قبل أن تأتي سوريا إلى روسيا”. وفي لقائه السنوي مع الصحفيين يوم 19 ديسمبر (كانون الأول) الجاري، قال الرئيس بوتين: “إن روسيا حققت أهدافها في سوريا بإضعاف المجموعات الإرهابية والمتشددة مثل داعش”.
أيضًا سبق أن استحضرت واشنطن المقاتلين الصينيين من شمال غرب الصين من إقليم “شينجيانغ”، أو ما يطلق عليه “تركستان الشرقية”؛ من أجل إعدادهم لقتال الدولة الصينية؛ ولهذا تشكّل منذ عام 2013 ما يسمى “الجيش الإسلامي التركستاني الصيني” في إدلب والمناطق المحيطة بها، ومن أجل دعم الجيش التركستاني الصيني رفع وزير الخارجية الأمريكي الأسبق مايك بومبيو في الولاية الأولى للرئيس ترمب، في 6 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، الحزب التركستاني والحركة الإسلامية التركستانية من قوائم المجموعات الإرهابية، واليوم، مع تدمير الجيش السوري بالكامل، ترى واشنطن فرصة ذهبية لتأتي “بجيل جديد” من القوقازيين والتركستانيين الشرقيين لمزيد من التدريب والتأهيل في سوريا ليعودوا مرة أخرى للقتال ضد الصين وروسيا، في سيناريو سبق أن استخدمته ألمانيا النازية ضد الاتحاد السوفيتي السابق خلال الحرب العالمية الثانية.
تقوم التقديرات الأمريكية على أن الخطر الأكبر للهيمنة الأمريكية على العالم تأتي من الصين التي تتحدى الولايات المتحدة سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا وتكنولوجيًّا، وما جرى في سوريا، وتغير الحسابات والمعادلات الداخلية السورية والإقليمية المحيطة بالمشرق العربي، يفتح الباب واسعًا لتمكين إسرائيل من كل الشرق الأوسط، وهنا تكمن المصالح الأمريكية بضمان بقاء الشرق الأوسط ضمن الإطار الإستراتيجي الغربي بقيادة أمريكية عبر حليفتها إسرائيل بما يمهد لواشنطن الطريق لتحقيق ما تتحدث عنه منذ عام 2010؛ وهو “الاستدارة شرقًا”؛ بمعنى نقل غالبية أصولها وثقلها السياسي والدبلوماسي، وحتى العسكري، من الشرق الأوسط باتجاه جنوب آسيا وجنوب شرقها، بعد أن تأكد لها أنها لا يمكن أن تخسر الشرق الأوسط بعد إضعاف أو إخراج اللاعبين والمنافسين الإستراتيجيين لها في المنطقة العربية والشرق الأوسط.
لا تزال أوروبا تعتمد في نسبة من استهلاكها للغاز على الغاز الروسي، وكانت هناك آمال بأن تتوقف الحرب الروسية الأوكرانية عام 2025، ويعود تدفق الغاز الروسي بقوة إلى أوروبا كما كان قبل 24 فبراير (شباط) 2022، لكن بعد يوم واحد من سقوط الأسد، ويوم الاثنين 9 ديسمبر (كانون الأول) الجاري، تحدث ألب أرسلان بيرقدار، وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي، عن إمكانية إعادة إحياء مشروع لنقل الغاز بالأنابيب من الشرق الأوسط عبر سوريا وتركيا إلى أوروبا، وقال الوزير التركي بوضوح تام عقب اجتماع لمجلس الوزراء التركي، في تصريح نقلته وكالة الأناضول: “إن تنفيذ المشروع قد يصبح ممكنًا إذا حققت سوريا سلامتها واستقرارها”، وهنا ترى الولايات المتحدة فرصة لتحقيق هدف جديد يمنع أوروبا في المستقبل من العودة مرة أخرى إلى الاعتماد على خطوط أنابيب نقل الغاز والنفط الروسيين، مثل “نورد ستريم 1″، و”نورد ستريم 2″، و”يامال”.
المؤكد أن وصول وفد أمريكي رفيع المستوى بقيادة باربرا ليف، مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، إلى دمشق يوم الجمعة 20 ديسمبر (كانون الأول) الجاري، يكشف إلى أى مدى تتلهف واشنطن إلى تحقيق أهدافها وأغراضها التي خططت لها منذ ما يُسمى “الربيع العربي” عام 2011.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.