مقالات المركز

هل تهدف عقوبات الغرب إلى إطالة أمد الصراع أم إلى إنهائه؟

19 حزمة عقوبات بلا نتيجة.. لماذا تفشل أوروبا في كسر الموقف الروسي؟


  • 18 سبتمبر 2025

شارك الموضوع

تتواصل محاولات الاتحاد الأوروبي صياغة الحزمة التاسعة عشرة من العقوبات على روسيا والاتفاق عليها، لكن مسار الأحداث -من واقع المراقبة الدقيقة- يكشف عن حجم التردد والانقسام داخل بروكسل.

فبعد أن كان يُفترض تقديم الحزمة يوم 15 سبتمبر (أيلول) 2025، ثم تأجيل تبنيها إلى يوم أمس، الأربعاء 17 سبتمبر (أيلول)، تأجلت إلى أجل غير مسمى  قبل أن تعود تسريبات بوليتيكو اليوم، الخميس 18 سبتمبر (أيلول)، لتتحدث عن احتمال إعلانها يوم 19 أو 22 سبتمبر (أيلول) الجاري.

وتنقل التقارير الصحفية الغربية التي قرأتها وأنا أعد لهذا المقال عن بعض الدبلوماسيين الغربيين عدم استبعادهم طرحها في وقت أبكر من ذلك، لكن الرسالة المهمة التي أستشفها من كل هذه العملية أن الاتحاد الأوروبي عاجز عن الحسم. التفسير الأوروبي الرسمي للتأجيل يقول إن الجهد الأوروبي انصرف إلى ممارسة ضغط على سلوفاكيا والمجر من أجل دفعهما إلى تقليص اعتمادهما على النفط الروسي، وهذا معناه أن الاعتبارات الداخلية، والمصلحة الوطنية، لهذين البلدين تغلبت على خطاب التصعيد المعلن أوروبيًّا ضد روسيا.

في المقابل، جاء رد موسكو واضحًا، فديمتري بيسكوف، المتحدث الرئاسي الروسي، أكد في تعليقه على محاولات الاتحاد الأوروبي تبني هذه الحزمة المأزومة، أن الأوروبيين “يواصلون نهجا عدائيًّا” تجاه روسيا. بيسكوف أعاد التشديد كذلك على الموقف الروسي المعلن قبيل تبني كل حزمة من حزم العقوبات الغربية، الذي يؤكد دائمًا -أي الموقف- أن أي عقوبات جديدة لن تفلح في تغيير الموقف الروسي أو تعديله.

هذا التقييم يعكس قناعة راسخة لدى موسكو والكرملين وبوتين بأن العقوبات -مهما تنوعت أشكالها- لم تعد قادرة على فرض مسار سياسي مختلف لموسكو، فالمسألة باتت مسألة تحدٍّ وجودي؛ لذلك تتحول العقوبات في نظر روسيا إلى عنصر إضافي في إطالة أمد الأزمة، لا أكثر.

الجديد هذه المرة في نقاشات بروكسل -من وجهة نظري- أن الحديث يتجاوز مسألة فرض عقوبات تقليدية على بنوك وشركات وشخصيات روسية إلى ملف الأصول الروسية المجمدة. تقديرات مختلفة تقيّم الأصول الروسية المجمدة في أوروبا ما بين نحو 194 مليار يورو إلى 288 مليار دولار (لا يوجد معلومة دقيقة)، تسعى المفوضية الأوروبية إلى تحويل 170 مليار يورو منها إلى ما يشبه ” قروض تعويضية”، أو ” تعويضات” لأوكرانيا من جيب روسيا، كما يقال بالعامية المصرية.

الآلية المقترحة لتنفيذ هذا “المخطط” الأوروبي تشمل إصدار سندات أوروبية مضمونة بالأموال الروسية، أو إنشاء أداة مالية خاصة تسمح بمشاركة دول غير أعضاء في الاتحاد. والهدف الظاهر هو توفير تمويل طويل الأمد لكييف، لكن جوهر الخطوة، إذا سمينا الأشياء بأسمائها، ما هو إلا مصادرة مباشرة للأموال الروسية.

موسكو حذرت -على لسان عدد من المسؤولين، على رأسهم ميدفيديف وبيسكوف، على نحو لا لبس فيه- بأن أي استيلاء على الأصول الروسية سيقابل برد مماثل على الممتلكات الأوروبية الموجودة داخل روسيا؛ ما يعني تلقائيًّا الدخول في مواجهة اقتصادية، لكن بلا قواعد.

الانقاسامات الأوروبية في هذا الملف لا يمكن إخفاؤها؛ فبلجيكا وألمانيا وفرنسا تبدي خشية من الملاحقات القضائية إذا رفعت روسيا دعاوى أمام محاكم دولية، لكن الأهم تقويض الثقة بالمؤسسات المالية الأوروبية، فمَن مِن الدول العاقلة والأقل قوة من روسيا ستبقي على أموالها بعد حدوث هذه السابقة لدى الأوربيين ليصادروها بكل سهولة تحت أي ذريعة، إن مرت السابقة الأولى.

ومع ذلك، تضغط المفوضية الأوروبية، بقيادة أورسولا فون دير لاين، باتجاه تمرير هذا المخطط تحت شعار “تحمل المخاطر على نحو جماعي”، وهنا يظهر التناقض: فالاتحاد الأوروبي يريد تمويل أوكرانيا بأموال روسية حتى تستمر الحرب، لكنه يدرك أن هذه الخطوة قد تفتح باب نزاع قانوني واقتصادي طويل الأمد، كما يصعب ضبط تداعيات الخطوة على السمعة المالية والاقتصادية للاتحاد.

أما إذا انتقلنا إلى الحديث عن مضمون حزمة العقوبات الجديدة، فسنرى من واقع ما يُسرَّب أنه يكشف عن حدود القدرة الأوروبية. واشنطن دفعت وتدفع باتجاه فرض رسوم عقابية على الصين والهند بسبب استمرارهما في شراء النفط الروسي دون الالتفات إلى وعيد واشنطن. غير أن بروكسل تراجعت، مكتفية بنيتها فرض عقوبات رمزية على بعض المصافي والشركات الصينية والهندية، من باب ذر الرماد في العيون.

والسبب بالطبع واضح؛ فقد تحمل الاتحاد ودوله ما يكفي من كلفة اقتصادية بسبب العقوبات على روسيا، وقطع التجارة معها، والامتناع عن شراء نفطها وغازها الرخيص، فضلًا عن تكلفة تمويل الحرب، والأهم هنا أن حجم تجارة أوروبا مع الصين يبلغ نحو 800 مليار يورو حسب إحصاءات العام الماضي الرسمية، وأي رسوم شاملة ستنعكس مباشرة على المستهلك الأوروبي (الغلبان)، فضلًا عن أنها سوف تضرب قطاعات أوروبية أساسية.

والنتيجة أمامنا تتحدث عن نفسها؛ فقد اختار الاتحاد أقل الضررين كما يقال، أي اختار الحل الأقل تكلفة داخليًّا، ولو كان بلا أثر فعلي على روسيا، فالسوق النفطية باتت مرنة جدًّا مع هذه الأزمات، وهو بهذه المرونة يمكن موسكو من تعويض أي خسارة عبر تقديم خصومات إضافية، من منطق: (بِعْ أكثر.. بسعر أقل= تكسب أكثر). ونيودلهي، على خلفية التهديدات الترمباوية للهند، طلبت فعلًا من موسكو تخفيضًا يصل إلى عشرة دولارات للبرميل، وهذا مثال يوضح كيف يمكن الالتفاف على العقوبات.

جزء آخر من العقوبات يركز على تقييد منح التأشيرات للمواطنين الروس لزيارة أوروبا، لكن الأرقام نفسها في هذا الصدد تكشف عن الطابع الرمزي: نحو 541 ألف تأشيرة شينغن فقط صدرت للمواطنين الروس العام الماضي، مقارنة بأربعة ملايين تأشيرة حصل عليها الروس لدخول أوروبا عام 2019. ومؤشر آخر يكشف عن رمزية الرقم، فدولة أوروبية كإسبانيا وحدها تستقبل سنويًّا أكثر من 90 مليون سائح أجنبي.

لذلك فالتأثير الاقتصادي المباشر لهذا الإجراء محدود، لكنه بالطبع يخدم -في رأيي- هدفًا دعائيًّا داخليًّا، حيث يمكن تسويقه، وسيُسوَّق للرأي العام الأوروبي على أنه “تشديد ضد الروس” المعتدين. أما موسكو فتنظر إلى هذه الخطوات بوصفها جزءًا من الحرب الرمزية أكثر من كونها أدوات ضغط جدّي عليها.

على المستوى السياسي، جاء الموقف الروسي أكثر وضوحًا على لسان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الذي صرح في اجتماع عقده في مقر الأكاديمية الدبلوماسية الروسية يوم 17 سبتمبر (أيلول) 2025 ودعا إليه أكثر من 100 سفير أجنبي معتمد لدى روسيا، ليعلن هذا الموقف أمامهم، حيث صرح بالقول إن أوكرانيا رفضت جميع المقترحات التي نقلها المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف بعد لقاء ألاسكا بين بوتين وترمب.

بل ذهب شيخ الدبلوماسيين الروس إلى ما هو أبعد من ذلك، عندما اعتبر أن كييف تسعى -مع بعض العواصم الأوروبية- إلى دفع واشنطن نحو التخلي عن مسار التسوية، والعودة إلى التصعيد ضد روسيا. وهذا الموقف -وهو أحدث ما أعلنه الوزير الروسي- يعكس -فيما أرى- تعزز قناعة موسكو والكرملين وبوتين بأنه لا مجال، ولا جدوى، لأي قمة ثلاثية تجمع بين بوتين وزيلينسكي بوساطة ترمب. وهذا الموقف أكده بيسكوف سابقًا على نحو متكرر، بل حتى الملفات الإنسانية، مثل تبادل الأسرى، دخلت مرحلة توقف، وهذا انعكاس مباشر لغياب الثقة.

أما ترمب، فيواصل التصريح بضرورة ربط أي عقوبات إضافية بشرط جماعي من الحلفاء، يتمثل في وقف استيراد النفط الروسي، وفرض رسوم على الصين والهند. الأوروبيون -كما كتبت أعلاه- لم يستجيبوا لهذا الشرط، فيما ترى موسكو أن الكرة الآن في ملعب البيت الأبيض لإقناع كييف وأوروبا بقبول صيغة تفاوضية جديدة، في ترجمة -على ما يبدو من واقع فهمي لوجهة نظر الكرملين- لتفاهمات ما تمّ الاتفاق عليها بين بوتين وترمب في ألاسكا، لكن من الواضح أن الترجمة العملية لهذه التفاهمات تسير -حتى الآن- في الاتجاه المعاكس.

لذلك إجمالًا، يمكن أن نقول إن الصورة الكلية تكشف انسدادًا متعمدًا؛ فواشنطن تستخدم التلويح بالعقوبات كورقة مشروطة، لكنها مع ذلك لا تذهب إلى التنفيذ الكامل لوعيدها وتهديدها. وأوروبا تبحث عن خطوات رمزية وقانونية معقدة، من دون أن يكون لديها قدرة فعلية على إحداث تحول نوعي حقيقي، في حين ترفض كييف أي تنازل سياسي، وتواصل الرهان على استمرار الدعم الغربي، الأوروبي في المقام الأول.

أما موسكو، فبحسب فهمي، تنتظر تنفيذ ما التزم به ترمب خلال لقاء ألاسكا مع بوتين، وتعيد تأكيد تمسكها بضرورة الوصول إلى اتفاق شامل مكتوب وملزم قانونًا، يضمن مصالحها.

والنتيجة من كل ما ذكرته أعلاه جلية كقرص الشمس في ظهيرة بلد شرق أوسطي؛  الصراع يطول، والعقوبات تتوسع، في حين يتلاشى أي مسار تفاوضي واقعي. ترى روسيا أن ما يقوم به الغرب الأوروبي اليوم لا يهدف إلى الحل؛ بل إلى إطالة الأزمة من خلال أدوات اقتصادية وإعلامية.

وأكرر أن موسكو ترى أن الحل الوحيد الممكن يجب أن يكون من خلال اتفاق شامل، يعترف بالواقع الجديد على الأرض، ويأخذ في الحسبان المصالح الأمنية والإستراتيجية الروسية الطويلة الأمد. وحتى يتحقق ذلك، ستظل كل الحزم، وكل العقوبات، مجرد دوائر إضافية في حرب استنزاف مفتوحة.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع